هي مغامرة لا ريب أن يحاول المرء تعليق عنوان على جدار السنة الجديدة، إلا أن لدي أسباباً قوية للمجازفة بذلك، وترشيح كلمة "الخوف" لتكون ذلك العنوان، متمنياً على الله أن تثبت الأيام بطلان هذه النبوءة. (1) لا أستطيع ان أذهب في المجازفة إلى حد تعميم العنوان على كل الأقطار العربية، ذلك أنني أزعم أن "النشوة" ستظل عنواناً للدول الخليجية النفطية. أولا لأن شبح الضربة العسكرية الأمريكية لإيران تراجع أو تأجل، وثانياً لان أسعار النفط لا يتوقع لها أن تنخفض في الأجل القريب. ازعم أيضاً أن القلق السياسي سيظل عنواناً لدول شمال أفريقيا، بسبب تزايد أنشطة الجماعات الإرهابية من جهة، وعدم الاستقرار السياسي من جهة ثانية. ورغم أن مظلة الخوف ينتظر لها أن تغطي مساحة الشرق بما يشمل السودان واليمن، ويتجلى في بقية الدول خصوصاً العراق ولبنان، فإن الأسباب القوية التي أشرت إليها قبل قليل تنسحب بصورة أوفى على بلدين أساسيين هما مصر وفلسطين. الأولى هي عاصمة العرب المركزية، والثانية هي قضية العرب المركزية، أو هكذا عرفنا الإثنين على الأقل. (2) لم يكن عام 2007 مبهجاً في مصر، وأي قارئ للكتاب المحترمين في مصر يدرك أنني لا أنفرد بهذا التقييم. فقد ترددت في تعليقاتهم على احداث العام عبارات من قبيل عام الانتكاسات وعام الانكسارات والاحباطات، وغير ذلك من الأوصاف التي تنم عن عدم الرضا. ومن يتابع أحداث العام لابد له أن يلاحظ أن مؤشرات ودلالات التوتر فيه اختلفت في بداية العام عنها في نهايته. ففي الربع الأول من العام تقريباً كان التوتر مخيماً على علاقة السلطة ببعض عناصر النخبة ولأسباب سياسية في الأغلب، وكانت التعديلات التي أدخلت على الدستور وجاءت ماسة بالحريات العامة وولاية السلطة القضائية على رأس تلك الأسباب. ولكن مع تقدم أشهر السنة اتسعت دائرة التوتر حتى غدا مخيّما على علاقات السلطة بالمجتمع. فقد انضمت إلى ساحة الغاضبين فئات من العمال والفلاحين والموظفين. ولم تكن أسبابهم في ذلك سياسية، وإنما كانت اسبابهم اجتماعية بالدرجة الاولى. وهو ما دعا أحد الباحثين الاجتماعيين إلى اعتباره عام الانتفاضات والعصيان المدني في مصر (المصري اليوم 22/12). وأياً كان الوصف الذي أطلق على الممارسات الاحتجاجية، فالقدر الثابت أن الغضب الذي شاع بين قطاعات مختلفة كان من السمات البارزة لذلك العام، فالمثقفون أصيبوا بالإحباط جراء التعديلات الدستورية التي القت ظلالاً من الشك على جدية الإصلاح السياسي. كما أغضبتهم بعض القرارات الاقتصادية التي تمثلت في ملابسات بيع شركات القطاع العام ووزارات بيع الاراضي لغير المصريين. أما القطاعات الجماهيرية الأخرى فإنها عبرت عن غضبها لأسباب تعلقت بظروفها المعيشية بالدرجة الأولى. ولأن هذا التطور الأخير جديد على الساحة المصرية بصورة نسبية، فهو يحتاج إلى وقفة وبعض التفصيل. فقد تابع مركز الدراسات الإشتراكية ومركز الأرض في القاهرة بدقة مظاهر الاحتجاج الجماهيري في عام 2007 التي تراوحت بين شكاوي العاملين وبين اعتصاماتهم، مروراً بالتظاهرات والاضرابات، وتبين انه خلال الأشهر التسعة الأولى من العام شهدت مصر 521 احتجاجاً، بمعدل يسمح بالحديث عن 700 احتجاج خلال العام كله. وحين قارن الباحثون ذلك مع ما جرى في عام 2006 ، فإنهم وجدوا ان عدد الاحتجاجات وقتذاك كان 222 ، الأمر الذي يعني أن احتجاجات العاملين في 2007 كانت أكثر من ثلاثة أضعاف مثيلاتها في العام الذي سبقه. في هذا الصدد لاحظ المرصد النقابي والعمالي أن المتوسط الشهري للاحتجاجات في الشهر السابع في العام (يوليو) كان 57 احتجاجاً، وأن هذا المتوسط ارتفع في الشهر العاشر والحادي عشر إلى 74 احتجاجاً. الأمر الذي يعني أن مؤشر الاحتجاج الجماهيري في تزايد مستمر مع نهاية العام، ويعني في ذات الوقت أن تلك القطاعات دخلت إلى العام الجديد وهي مسكونة بدرجة من الغضب مثيرة للانتباه. لاحظ الباحثون أيضاً أن ثمة سمات جديدة للاحتجاجات، منها مثلاً أن بعضها استمر أجلاً طويلاً، دل على تمسك بالمطالب وصلابة في الموقف. فإضراب مصنع الطوب في مدينة الصف استمر تسعة أشهر، وإضراب عمال شركة المنصورة للغزل والنسيج أستمر ثلاثة شهور. من تلك السمات الجديدة، أيضاً أن العمال أعلنوا الإضراب ليس فقط للمطالبة بالعلاوات وتحسين ظروف العمل كما هو الشائع، ولكنهم أصبحوا يضربون للمطالبة بحقهم في الأرباح التي يحققونها، وتجنيها الشركات والمصانع الخاصة التي يعملون بها ثم يكدسها أصحاب رؤوس الأموال في جيوبهم. وهو ما حدث في مصنع للصناعات الغذائية بالسويس، الذي حقق العاملون فيه أرباحاً سمحت لملاكه بإقامة 3 مصانع جديدة، في حين لم يعطوا العمال شيئاً مقابل انجازهم. من الظواهر أيضاً أن موظفي الحكومة دخلوا إلى شرائح المضربين، خصوصاً أن منهم نصف مليون موظف يعملون بعقود مؤقتة وغير مثبتين (في أسيوط 16 ألف مدرس مؤقت) -وقد تابع الجميع في مصر إضراب موظفي الضرائب العقارية، الذين أعلنوا إضراباً ضد وزارة المالية، لم يتوقف إلا بعد أن وعدوا بالاستجابة بمطالبهم. احباطات المثقفين وإضرابات العاملين المتزايدة ،أثارت لغطاً كبيراً وأسئلة كثيرة حول احتمالات العام الجديد. وهي الاحتمالات التي أقلقت المستشار طارق البشري في وقت مبكر، وعبر عنها في كتابه الذي صدر بعنوان "مصر بين العصيان والتفكك". وكان ذلك في عام 2006 ، الذي ارتفع فيه صوت النخب الثقافية بالاحتجاج والغضب إزاء تراجع مؤشرات الإصلاح السياسي. وهو ما اختلف في النوع والكم مع دخول عام 2008 ، الأمر الذي يضاعف من القلق ويرسخ الخوف من المجهول القادم. (3) عام 2008 فيما يخص الشأن الفلسطيني أخطر بكثير، لأن الذي قد يحدث في مصر -في أسوأ فروضه- يظل عرضاً يصيب الجسم ويؤثر على عافيته ومناعته، في حين أن الذي يلوح في الأفق الفلسطيني هو خطر يهدد الوجود وينذر بتصفية القضية بكاملها. ومن مفارقات الأقدار أن يبرز ذلك الخطر في العام الستين للنكبة الذي تحتفل فيه إسرائيل ليس فقط بذكرى تأسيس الدولة، وإنما أيضاً بما حققته على صعيد طمس آثار الجريمة التي ارتكبتها. أحدث محطات التصفية كانت مؤتمر انابوليس، الذي دعت إليه الولاياتالمتحدة واشتركت فيه كل الدول العربية، إلى جانب ممثلي السلطة الفلسطينية وإسرائيل بطبيعة الحال. وكان أسوأ ما في ذلك المؤتمر أنه جعل خريطة الطريق هي المرجعية الوحيدة لحل القضية، مستبعداً أية مرجعية أخرى بما في ذلك قرارات الأممالمتحدة والمبادرة العربية. ليس ذلك فحسب، وإنما نصت وثيقة التفاهم التي أعلنت أن الولاياتالمتحدة هي التي ستشرف على تسوية القضية بين الطرفين. أي أن المرجعية ستكون أمريكية والإشراف على التطبيق كذلك، والمدهش في الأمر أن كل الدول العربية كانت شاهدة على ذلك. بعد أيام قليلة من مؤتمر أنابوليس عقد في باريس مؤتمر "الدول المانحة" التي وافقت على أن تقدم إلى السلطة الفلسطينية أكثر من 7 مليار دولار على ثلاث سنوات ، بمعدل 2.5 مليار دولار كل سنة. وأخطر ما في ذلك المؤتمر أنه تعامل مع القضية بحسبانها مشكلة اقتصادية وأمنية، في تجاهل تام للاحتلال الذي هو جوهر الموضوع وأصل البلاء. بالتالي فان المبالغ التي قدمت للسلطة الوطنية أريد لها أن تمول المشروعات الاقتصادية وأن توفر احتياجات الأجهزة الأمنية، بدعوى التمهيد إقامة الدولة الفلسطينية. ولكن الأمر ليس بهذه البراءة، لأننا لا نحتاج إلى دليل لكي نعرف أن الولاياتالمتحدة أو الدول السائرة في ركبها ما كانت حريصة يوماً ما على تنمية المجتمع الفلسطيني ولا على أمنه. والحصار الشرس الذي فرضه هؤلاء على الضفة والقطاع بعد إعلان نتائج الانتخابات التشريعية في أوائل عام 2006 يؤكد هذه الحقيقة. الهدف الحقيقي للتنمية الموعودة هو محاولة انعاش الحالة الاقتصادية في الضفة لتحقيق أمرين، أولهما إلهاء الناس عن موضوع الاحتلال، وثانيهما تحويل الضفة إلى منطقة جذب تستوعب اللاجئين المشردين في الخارج، على النحو الذي يشجعهم على صرف النظر عن حقهم في العودة إلى ديارهم التي طردوا منها في عام 48 أو67. أما الهدف الحقيقي لتعزيز قدرة الأجهزة الأمنية فهو تمكينها من القضاء على حركات المقاومة الفلسطينية -وذلك كله يصب بامتياز في المصلحة الإسرائيلية. (4) في وثيقة التفاهم المشترك ان الطرفين تعهداً "ببذل كل الجهد" للتوصل إلى معاهدة سلام تكفل إقامة الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية قبل نهاية عام 2008. وكانت تلك هي "الجزرة" التي صدقها أبو مازن حتى راح يبشرنا بتحقيق الحلم في ذلك الأجل. في حين أن الإسرائيليين عصفوا بذلك الحلم بعد أيام قليلة من انتهاء مؤتمر المانحين في باريس، فمن ناحية أصيب المفاوضون الفلسطينيون بخيبة أمل حين أبلغوا بتقييم أمريكي يقول إن السلطة في رام الله بحاجة إلى خمس سنوات على الأقل لتنفيذ الاستحقاقات الامنية التي نصت عليها المرحلة الأولى من خريطة الطريق. (الشرق الأوسط 27/11) ومن ناحية ثانية لأن الحكومة الإسرائيلية أصدرت تعليماتها بالمضي في مشروعاتها الاستيطانية، عبر بناء 730 بيتاً جديداً في جبل أبو غنيم ومستوطنة معالي أدوميم. وحين احتج الفلسطينيون المفاوضون على ذلك قائلين إنه تم الاتفاق في أنابوليس على وقف الاستيطان، فإن الإسرائيليين رفضوا كلامهم وقالوا إنه لا يوجد أي اتفاق على تجميد الاستيطان في القدس، التي هي العاصمة الأبدية لإسرائيل. وذكر رافي ايتان وزير شئون القدس أن بحوزة إسرائيل رسالة من الرئيس بوش تحتوي على ضمان بأن التجمعات الاستيطانية الكبيرة ستبقى بيد إسرائيل في أي مفاوضات. في تصريحات صحفية اعتبر ممثلو السلطة في رام الله أن التوسع في الاستيطان يجهض ما تم الاتفاق عليه في أنابوليس وهددوا بوقف التفاوض مع الإسرائيليين، بعدما فشلت ثلاثة لقاءات مع الإسرائيليين أحدها بين أبو مازن وأولمرت، في الاستجابة للمطلب الفلسطيني. ولكن الصحف التي صدرت في 19/12 أعلنت عن تراجع الفلسطينيين عن مقاطعة المفاوضات، حيث أصبحوا بلا حيلة وليس أمامهم خيار آخر. وتحدثت الصحف عن لقاء جديد بين الطرفين في الأسبوع القادم يستمر فيه الجدل حول المستقبل ، في حين تستمر إسرائيل في فرض الحقائق الجديدة على الأرض، محتمية في ذلك برسالة الرئيس بوش، ومطمئنة الى ان ميزان القوة العسكرية والسياسية في صالحها. حين تستمر إسرائيل في التمدد على الأرض، ويسكت الجميع على استمرار الاحتلال، ويغلق باب الحديث عن حق العودة، فما الذي يبقى من القضية؟ وحين يسَلم الملف بالكامل للأمريكيين، فهل يكون ذلك سببا للاطمئنان أم باعثا على الخوف؟