فرص واعدة للمؤسسات التونسية في FITA2025: تونس تستقبل القمة الإفريقية يومي 6 و7 ماي 2025    عامر بحبة: أسبوع من التقلبات الجوية والأمطار الغزيرة في تونس    عاجل : دولة عربية تعلن عن حجب 80% من الحسابات الوهمية    مفتي السعودية يوجه رسالة هامة للحجاج قبل انطلاق الموسم بأيام    غزة: إستشهاد 15 فلسطينيا على الأقل في قصف صهيوني استهدف منزلا    بطولة مدريد المفتوحة للتنس للأساتذة: النرويجي كاسبر رود يتوج باللقب    البطولة الفرنسية : ليل يتعادل مع مرسيليا 1-1    كيف سيكون الطقس اليوم..؟    محرز الغنوشي: حرارة صيفية الظهر وأمطار منتظرة    انطلاق امتحانات ''البكالوريا التجريبية'' اليوم بمشاركة أكثر من 143 ألف تلميذ    بوفيشة: احتراق شاحنة يخلف وفاة السائق وإصابة مرافقه    من الثلاثاء إلى الخميس: انقطاع مياه الشرب في هذه المناطق بالضاحية الجنوبية للعاصمة    حصيلة المشاركة التونسية في البطولة العربية لألعاب القوى بالجزائر: 19 ميدالية....    ترتيب لاعبات التنس المحترفات: انس جابر تتراجع..    لدى تلقيه مكالمة هاتفية من السوداني..سعيد يجدد دعم تونس لفلسطين ويدعو لوحدة الموقف العربي    العثور على جثث 13 موظفا من منجم للذهب في بيرو    ترامب يأمر بفرض رسوم بنسبة 100% على الأفلام غير الأمريكية    الرحيلي: الأمطار الأخيرة أنقذت السدود... لكن المشاكل الهيكلية مستمرة    سوريا.. انفجار الوضع في السويداء مجددا.. اشتباكات وقصف ب"الهاون"    باكستان تصعد حظرها التجاري ضد الهند    بيان للهيئة الوطنية للمحامين حول واقعة تعذيب تلميذ بسجن بنزرت    بوسالم.. فلاحون يطالبون بصيانة و فتح مركز تجميع الحبوب بمنطقة المرجى    معرض تونس الدولي للكتاب: الناشرون العرب يشيدون بثقافة الجمهور التونسي رغم التحديات الاقتصادية    كأس تونس لكرة اليد : الترجي يُقصي الإفريقي ويتأهل للنهائي    بورصة تونس تحتل المرتبة الثانية عربيا من حيث الأداء بنسبة 10.25 بالمائة    وزارة العدل توضّح    الرابطة الثانية (الجولة العاشرة إيابا)    البطولة العربية لألعاب القوى للأكابر والكبريات: 3 ذهبيات جديدة للمشاركة التونسية في اليوم الختامي    اليوم آخر أجل لخلاص معلوم الجولان    رئيس اتحاد الناشرين التونسيين.. إقبال محترم على معرض الكتاب    بوشبكة.. حجز أجهزة إتصال متطورة لدى اجنبي اجتاز الحدود بطريقة غير قانونية    معرض تونس الدولي للكتاب يوضّح بخصوص إلزام الناشرين غير التونسيين بإرجاع الكتب عبر المسالك الديوانية    دخل فرعا بنكيا لتحويلها.. حجز عملة أجنبية مدلسة بحوزة شخص    طقس الليلة.. أمطار رعدية بعدد من الجهات    قابس.. حوالي 62 ألف رأس غنم لعيد الأضحى    ثنائية مبابي تقود ريال مدريد لمواصلة الضغط على برشلونة المتصدر بالفوز 3-2 على سيلتا فيغو    الصالون المتوسطي للبناء "ميديبات 2025": فرصة لدعم الشراكة والانفتاح على التكنولوجيات الحديثة والمستدامة    انتفاخ إصبع القدم الكبير...أسباب عديدة وبعضها خطير    هام/ بالأرقام..هذا عدد السيارات التي تم ترويجها في تونس خلال الثلاثي الأول من 2025..    إلى أواخر أفريل 2025: رفع أكثر من 36 ألف مخالفة اقتصادية وحجز 1575 طنا من المواد الغذائية..    الفول الأخضر: لن تتوقّع فوائده    تونس في معرض "سيال" كندا الدولي للإبتكار الغذائي: المنتوجات المحلية تغزو أمريكا الشمالية    هام/ توفر أكثر من 90 ألف خروف لعيد الاضحى بهذه الولاية..    خطير/كانا يعتزمان تهريبها إلى دولة مجاورة: إيقاف امرأة وابنها بحوزتهما أدوية مدعمة..    النفيضة: حجز كميات من العلف الفاسد وإصدار 9 بطاقات إيداع بالسجن    تنبيه/ انقطاع التيار الكهربائي اليوم بهذه الولايات..#خبر_عاجل    الدورة الاولى لصالون المرضى يومي 16 و17 ماي بقصر المؤتمرات بتونس العاصمة    سوسة: الإعلامي البخاري بن صالح في ذمة الله    لبلبة تكشف تفاصيل الحالة الصحية للفنان عادل إمام    كارول سماحة تنعي زوجها بكلمات مؤثرة    هند صبري: ''أخيرا إنتهى شهر أفريل''    قبل عيد الأضحى: وزارة الفلاحة تحذّر من أمراض تهدد الأضاحي وتصدر هذه التوصيات    صُدفة.. اكتشاف أثري خلال أشغال بناء مستشفى بهذه الجهة    تونس: مواطنة أوروبية تعلن إسلامها بمكتب سماحة مفتي الجمهورية    الأشهر الحرم: فضائلها وأحكامها في ضوء القرآن والسنة    خطبة الجمعة .. العمل عبادة في الإسلام    ملف الأسبوع.. تَجَنُّبوا الأسماءِ المَكروهةِ معانِيها .. اتّقوا الله في ذرّياتكم    أولا وأخيرا: أم القضايا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



توحيد الحياة.. معاقد إيمان ومقاصد عبادة :الدكتور حسن الترابي
نشر في الفجر نيوز يوم 10 - 09 - 2008


كتاب الشعائر الدينية وأثرها في الحياة العامة (2)
توحيد الحياة.. معاقد إيمان ومقاصد عبادة

الدكتور حسن الترابي
إن معاقد الإيمان تتوثق عقيدة توحيد لا تنتقض ولا يعروها إشراك إذا آمن الإنسان وأخذت تتزكى فيه بالشعائر الدينية المسنونة روح تُسلم أمور الحياة وتقاليد الكون كافة لله وحده.
إن أصول الإيمان الذي تؤصل عليه الشعائر وتباركه بنياتها ومقولاتها ومفعولاتها هي أولا معرفة الربوبية لله ربا أعلى لكل عوالم الوجود المشهود والمغيّب طبيعية وبشرا وجنا، له الحمد استغراقا لكل الأسماء والأوصاف الأعلى وكل الشكر على النعماء.
والإيمان هو كذلك إعلاء الألوهية لله تعالى ومن ثم تسبيح قدر الله فوق المقادير العالية وتكبيره فوق كل المستكبرين، وإذا توحدت الربوبية والألوهية فإن الإنسان ما هو إلا آية وثمرة لحمد الله ربا ولتكبيره إلها، فعليه الخشوع طاعة وقنوتا والإسلام للنفس والحياة له سبحانه.
وليتمكن الإنسان من ذلك لا بد أن يستعين بالله ليستهديه ويستمد منه كل فضل في الحياة الدنيا والآخرة، ذلك أنه مكلف باختيار الحق واتباع الهدى مهما انفتحت له باحة المشيئة والخيار وأنه في ابتلاء وفتنة من الدنيا ليختار الهدى أو يشاء الضلال وأنه محاسب في الآخرة يوم القيامة مجازى بما يناظر كسبه في الدنيا، إن أسلم لله سلمت عليه الملائكة وسالمته الجنة دار السلام بنعمائها ويتلقى السلام من إخوانه ثم من الله والرضوان، وإن خاصم ربه وعصى إلهه في الدنيا كان في النار في خصام مع رفقائه فيها تغلظ عليهم الملائكة والله عليهم في قطيعة وغضب عظيم.
لا محمود ربا ولا متعال إلها سوى الله ولا يعبد المؤمنون الخالصون غيره؛ إذ لا ملك يوم القيامة إلا له ولا مفر من حسابه ولا شفيع إلا بإذنه.
إن ما توحي الشعائر أن مذهب الحياة الدنيا وشرعتها كلها عبادة وابتغاء لوجه الله، كل الهموم والمقاصد والمراجع من الإنسان إليه سبحانه، وأن منهاج الحياة كل المسالك والطرق على الصراط المستقيم نحوه تعالى، فالحياة توحيد عبادة لله لا إشراك فيها شركا لا تستقيم بعض مساقاتها في سبيله تعالى أو بعضها تنفصل وتنشق عن ذلك السبيل.
الوجدان الباطن إيمان خالص بالله والغيب والظاهر مسلك تعبدي على شرعه وهديه، والحياة للمؤمن صادقة لا نفاق فيها بدعوى إيمان لا يشهد عليه العمل الصالح أو بعرض عمل يرضي المؤمنين، لكنه لا يؤسس على دوافع مرضاة الله، والدين عبادة قانتة وطاعة مجاهدة واستعانة بالله يستمد بها المؤمن العابد بعد بلاغ وسعه التوفيق وهي من ثم نهضة راقية قربى لله.
الذكر.. شعيرة أولى
والذكر شعيرة.. أوله استشعار في النفس بعد الغفلة لمعان حاضرة تتصل بالله والغيب توثق معاقد الإيمان شرائح العقيدة في الوجدان.
ثم الذكر المنطوق تعبير عن تلك المعاني المستشعرة وتغذية لها بحركة اللسان، وأعلاه التهليل، ولا إله إلا الله نفيا وتطهرا من كل تعلقات الحياة وشهواتها ومقاصدها التي قد تقدسها الأهواء غايات، وتثبيتا لتأليه الله وعبادته استثناء من التحرر من سائر معبودات الوجود.
وكل الأذكار تأكيد لأسماء الله الحسنى وفضله على كل مخلوق، "فالله أكبر" من كل مستكبر في الأرض، والحمد لله يستغرق الثناء والشكر كله لله، والتسبيح بصفات الله فوق لجج الأوهام منزها عن كل نقص ومتعاليا على كل فضل.
وهكذا تتواتر الأذكار تعبر عن معاقد الإيمان وشعاب العبادة، ترد أحيانا من الذاكرين حزبا راتبا في وقت معين أو مناسبة بعرف مسنون من سلف يلتزمه الخلف، أو ترد هكذا عهدا يتخذه المؤمن بنفسه، أو ترد في مواقعها المناسبة من ظروف الحياة وابتلاءاتها فيرسو منها أثر أبلغ يطمئن به الإيمان.
والذكر المنطوق قد يجري لغوا عرضا أو قولا دارجا في المناسبات بسملة لأول كلام أو حمدلة أو صلاة على النبي إذا جاء ذكره أو خطابا بتحية السلام أو نحو ذلك مما يكثر ترداده، وقد يجري كذلك في سنن الذكر المأثور، ويصبح بذلك عادة ينسلك بها صوت الكلمات وينسهك معناها منطوقة ممن لا يدرك مدلولها الدقيق أو مغزاها الحق أو ممن يخرجها من سجل الذاكرة عفوا أو من تلقاء سائر الخطاب وما هي عن وعي مدّكر.
وعرف المسلمين يعهد كثيرا من تلك الظواهر، يكاد بعضهم يحصر شعيرة "الذكر" اصطلاحا في الراتب المرسوم والكلم المعلوم أو يستعين بأصابعه أو بأداة تسمى "المسبحة" ليعد التسبيحات أو جمل الذكر الأخرى مكركرة إلى حد محسوب، وقد تغلب على الذاكرين المسارعة في ترجيع الكلمات وسردها حدرا لاستكمال حسابها المسنون أو لبلوغ العد الأكثر، ولو قضى الذاكر مثل ذلك الوقت مسترسلا مرتلا بضع آيات أو كلمات ذكر يتأمل معانيها لا تجردا بل تنزيلا على وقائع الكون والحياة لعمرت بها مشاعر نفسه ولأفعمت بشعاب الإيمان وارتكزت معاقده حيّة تتفاعل مع حركة الحياة.
الصلاة.. تعبير عن الإيمان
أما شعيرة الصلاة فإنها ذكر الله الذي يعبر عن الإيمان ويغذيه ويقوي الشعور به بالقول والفعل، معالمها كلها تنظمها كلمات تكبير فتحا وركوعا وسجودا وقياما. وحركتها كلها توحيد لأنها استقبال لمسجد الله الحرام لا يلتفت عن وجهته ظاهر وجه ولا نظرة عين بل الأصابع من اليدين والرجلين قياما وجلوسا تتصوب بهيئتها إلى القبلة ولا ينصرف القول إلى غير خطاب الله مهما دعت حاجة حول المصلى، ويصدق ذلك أن وعي المصلي قنوتا وخشوعا وضراعة يتركز نحو ذكر الله توابا إليه مهما نازعته مشاغل البال وعوارض الملهيات ووساوس الشيطان.
ويصوم المصلي ويزكي متاع الحياة في الصلاة عابدا لله وحده، ويقرأ المصلي الفاتحة حامدا ربه معظما موحدا صوب العبودية والاستعانة بالله ذاكرا المصائر إليه ملكا يوم الدين، ويرفع يديه لمفتتح الصلاة أو أثناءها استسلاما لله ويقبضها عُنوا لأمره وخضوعا لقيده، ويركع نزولا بمقامه بين يدي الله العظيم، ويسجد وضعا للوجه ورغما للأنف بالتراب ذلا بالغا لله تعالى، هكذا الصلاة كلها، ذكرها وحركتها تعبير عن العبادة لله، ويتصل الذكر تسبيحا وحمدا وتكبيرا بعد قضائها.
وسائر الصلوات غير الفرائض شعائر ترسيخ لطاعة الله، صلاة عيد فطر ذكرا لطاعة الصيام، وعيد أضحى ذكرا للقدوة في طاعة إبراهيم عليه السلام لرؤية ربه يمتحنه بالإقدام على ذبح ابنه العزيز الذي بلغ معه السعي وهو بعيد عن سائر الأهل، وصلاة الخسوف والكسوف ردا لكل مظاهر الطبيعة التي تجليها آيات الله، وصلاة الاستسقاء تعبيرا عن الحاجة المتوسلة إلى الله وحده.
وشعائر أخرى
وشعيرة الصيام ذكر لله الأكبر الهادي بالقرآن )شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ( [البقرة:185].
والصيام عبادة نهار كامل تجردا من الشهوات طعاما ونكاحا وخبيث كلام طاعة لما كتب الله من تكاليف، الجوع والعطش والإعراض عن متاع الدنيا، ويكتسي الصيام بأذكار وصلاة تراويح مزيد اقتراب إلى الله )وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ( [البقرة:186].
والحج كذلك شعائر يتخللها ذكر الله وتكبيره وتوحيده عند كل المناظر والمواقع، لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، لا سيما الحمد على ما رزق من بهيمة الأنعام التي تساق وتهدى ليجد كل الجمع الحاشد مطعما.
وكل الشعائر القائمة رموز للغيب فما هي ولو تجسدت أحجارا بأوثان، ولا تقبيل الحجر الأسود بعمران شرك بل مثال توحيد ولا رمي الجمرات بقذف قاصر على الصنم بل نبذ وحرب على الشيطان انتصارا لعبادة الله، وكل المواقف يحييها الذكر ويغمرها التوحيد، الطواف حول مركز الحرم شعيرة دورة الحياة العابدة كلها حول متعبد الله والسعي تواتر الحياة كلها بمقاصدها الدنيوية مرجعا إلى الله الراحم الرازق.
أما شعيرة الزكاة فأداؤها معرفة وحمد لجميل رزق الله مالك المال الذي يستخلف عليه عباده وأمانة ترد الفضل إلى سائر عباد الله، فالله هو الواحد مصدرا للثروة الواردة والحق مصرفا لها ومرجعا إليه.
الحياة.. ومعاني التوحيد والعبادة
كذلك سائر الحياة كل شعابها تتخللها وكل مقاصدها تغمرها بمعاني التوحيد والعبادة الشعائر الدينية المسنونة، معاقد الحياة كلها مهما كانت علاقات بشر فروع عن عقيدة الإيمان بالله يحمل الإنسان عليها الرضا كما يحمله على الدين الصادق، ومقاصد الحياة كلها مهما باشرت أغراضا عاجلة بسبل مشهودة في الدنيا موصولة بعبادة الله، مغازيها تنحو إلى مصائر الغيب وجزاءاتها عند الله ثوابا ورضوانا لا عذابا وغضبا، ووسائلها تستعين بالله وغيب قدره المصرف لظروف الدنيا وقضائه المبرم لوقائعها.
ومهما كانت فتن عالم الشهادة تتوالى الشعائر الدينية لئلا يسير الإنسان مفتونا منقطعا عن الغيب والإيمان والعبادة منفصلا بتعلقاته وتذرعاته الأرضية في مساق من مساقات الحياة العامة فاسقا من دين التوحيد حاصرا للعبادة في جانب الحياة الشخصي المخصوص الذي لا تتخطفه نوازع شهوات الحياة العامة ودواعي أهواء علاقاتها الكثيفة وفي تقاليد التعبد المأثور بأقواله وأشكاله لا ما تتسع فيه الاجتهادات المتحررة والتصرفات المتجددة فتنفلت جوانب من حياته مارقة فاجرة من الحدود.
فالزوجانية البشرية يبتلى فيها الإنسان كثيرا بطغيان الهوى والحب والشهوة في معاشراتها ومواطآتها وتنفصل من نيات الدين وأحكام شرعه، لكن الذاكر لله كثيرا المصلي متجردا من النظر والكلام والصحبة وغيرها من مثيرات الشهوة الزوجانية والصائم الذي ينكف قطعا عن إغراءاتها لنهاره كله والحاج المحرم كذلك -شعائره تتواتر في حياته تذكره بأن الزوجية آية من آيات الله ونعمه: )وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ( [النحل:72]، )وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّة وَرَحْمَة إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ( [الروم:20، 21]. ومن ثم يعتصم المؤمن من فيض شعائره بدواعي الإيمان والعبادة من أن تشذ به عن شريعة الله الشهوات والأعراف الزوجانية. وحياة المجتمع كلها للمؤمن الذاكر الذي يوالي غذاء قلبه بالزاد الذي تثمره الشعائر المتواصلة- كلها آيات لله: )وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ * وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ *وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمْ الْبَرْقَ خَوْفا وَطَمَعا وَيُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ مَاء فَيُحْيِ بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ( [الروم:22:24].
وآداب حلقات المجتمع وصفوفه وأخلاق علاقاته يتدرب عليها مؤدي الشعائر ويتزكى، فالذكر اللساني جامع للذاكرين والصلاة صافة للمصليين، وفي الصيام والحج والزكاة والصدقة يترسخ إخاء المسلمين واستواؤهم وتضامنهم وتوازنهم يتقون التجافي والتعازل ويتطهرون من الصراع على المتاع المحدود كيف يُقتسم والتفرق في الأرض الممتدة، كيف تُعبر والتفاخر بالألوان والعروق والتحاسد على المصائر، ذلك أن في الشعائر ما يوحي إليهم بالعدالة والمواصلة واستواء الأصل والمرجع مصيرا إلى الله بحق العبادة.
وكذلك علاقات السلطان بين البشر تفتن فيه القوة، البشر يتغاوون على الصراع بها لبلوغ مستوى الطاغوت والتجبر والذل والذيلية، ويحدّث الشيطان من تمكن في السلطة أنه ملك بالفردية، لا يقبل شريكا، وبالخلود لا يقبل الخلافة عن حياة وسلام.
ولكن ذكر الله في الشعائر وهيئة أدائها مما يوحي للإنسان ويزكي فيه إن قوة السلطان حتى عند الله العزيز الجبار لم تبلغ إكراه البشر على الإسلام له تعالى وأنه تعالى هو الذي يستخلف عباده على شيء من السلطان يصرفه بينهم كما يشاء: )قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ( [آل عمران:26]. وإنما يبتلي الله من يجعل خليفة يتمكن في الأرض هل ينفرد بهواه أو يرد الأمانة إلى جميع أهلها: )إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعا بَصِيرا( [النساء:58].
والذاكر لله المصلي ولو إماما تضبطه وتعلمه سنن الإمامة، والحاج يمضي مزكى بلا رفث ولا فسوق ولا جدال بين الناس ولا فساد في الأرض، كل ذلك لا يفتح بابا للفسوق بالسلطان والسياسة من ملك الله وهديه وابتلائه وجزائه، فضلا عن أن يخلي منزلقا للخروج على شرع الحكم وأخلاق السياسة في الدين، إلا لمن نقص الإيمان بالغيب في نفسه لا يتمه بالشعائر المسنونة فهو ينقص مدى الدين ويحيط به عالم الدنيا لتغشاه علمانية السياسة وفجورها الدنيوي الذي لا يذكر آخرة ولا أزلا استكبارا ونفاقا وظلما.
الدنيا دار بلاء
والدنيا دار بلاء بشهوة الكسب الأكثر الأعجل ولو ظلما والمتاع بالمعاش ولو حراما وترفا، والبشر يفتنون بمواد الكسب والمتاع يتخذون ذلك الهوى متعبدا ويذهبون مذهبا لا دينيا ماديا، ولكن المؤمن الذاكر لله يصلي مع المؤمنين ويصوم مع الجائعين ويتصدق يرد المال والرزق لله، ويعلم الاستخلاف عليه أمانة ومسئولية ومسعى كالمسعى في الحج في سبيل الله وأجور الآخرة بعائدها المضاعف ومتاعها الخير والأبقى.
ومعاش المؤمنين وثاق مجتمع لا يشققه التنافس الغيور على الدنيا ولا يمزقه الاعتزال تحوزا فرديا أو يفرقه الشح بخلا أو يحرقه الطمع تظالما وبغيا، وإنما تشدّ أصوله وتحفظ نسجه الشعائر الدينية التي تعقد في الحياة معاقد الإيمان الطوعية وتوحد مقاصدها وتطهرها بمغازي العبادة الخالصة.
الأربعاء. سبتمبر. 10, 2008
إسلام أون لاين.نت


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.