بن عروس : "كبارنا في اعيننا ..وبر الوالدين في قلوبنا" عنوان تظاهرة متعددة الفقرات لفائدة المسنين    الميناء التجاري بجرجيس مكسب مازال في حاجة للتطوير تجاريا و سياحيا    عاجل: قائمة المتفوقين في بكالوريا 2025... أرقام قياسية وأسماء لامعة!    نسبة النجاح في الدورة الرئيسية لبكالوريا 2025 تبلغ 37,08 بالمائة    نتائج بكالوريا 2025: نظرة على الدورة الرئيسية ونسبة المؤجلين    صفاقس: 100% نسبة نجاح التلاميذ المكفوفين في باكالوريا 2025    "نيويورك تايمز": المرشد الإيراني يتحسّب من اغتياله ويسمّي خلفاءه    مبعوث بوتين إلى الشرق الأوسط يحذر من المساس بمحطة بوشهر الإيرانية    بطولة برلين للتنس: انس جابر تنسحب رفقة باولا بادوسا من مواجهة نصف نهائي الزوجي    كأس العالم للأندية 2025: ريال مدريد يواجه باتشوكا المكسيكي والهلال يلتقي سالزبورغ النمساوي    عاجل: وزارة الفلاحة تحذّر التونسيين من سمك ''ميّت''    عاجل/ نفوق أسماك بشواطئ المنستير.. ووزارة الفلاحة تدعو إلى الحذر..    المهدية : تنفيذ عمليات رقابية بالمؤسسات السياحية للنهوض بجودة خدماتها وتأطير مسؤوليها    Titre    عاجل: بداية الإعلان عن نتائج الباكالوريا عبر الإرساليات القصيرة    الدورة 56 لمهرجان الساف بالهوارية ستكون دورة اطلاق مشروع ادراج فن البيزرة بالهوارية ضمن القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي لليونسكو (مدير المهرجان)    المنستير: انطلاق المسابقة الدولية في التصوير الفوتوغرافي والفيديو تحت الماء بعد تأجيلها بيوم بسبب الأحوال الجوية    النجم التونسي محمد مراد يُتوّج في الدار البيضاء عن دوره المؤثّر في فيلم "جاد"    مدنين: 56 مريضا ينتفعون من عمليات استئصال الماء الابيض من العيون في اليوم الاول لصحة العيون    باجة : إجراء 14 عملية جراحية مجانية على العين لفائدة ضعاف الدخل [صور + فيديو ]    محسن الطرابلسي رئيسا جديدا للنادي الإفريقي    قبلي: اجراء 37 عملية جراحية مجانية لازالة الماء الابيض في اطار اليوم الوطني الاول لصحة العيون    الزيت البيولوجي التونسي ينفذ إلى السوق الأمريكية والفرنسية بعلامة محلية من جرجيس    "هآرتس": تحرك قاذفات أمريكية قادرة على تدمير "فوردو" الإيرانية    تعمّيم منصة التسجيل عن بعد في 41 مكتبا للتشغيل بكامل تراب الجمهورية    الكاف: لأول مرة.. 20 عملية جراحية لمرضى العيون مجانا    جندوبة: وزير السياحة يتابع استعدادات الجهة للموسم السياحي ومدى تقدّم عدد من المشاريع السياحية والحرفية    فيديو من ميناء صيادة: نفوق كميات هامة من الأسماك بسبب التلوث    أردوغان: متفائلون بأن النصر سيكون إلى جانب إيران    قبلي: حادث مرور يودي بحياة جزائري وإصابة مرافقه    وزير السياحة: التكوين في المهن السياحية يشهد إقبالاً متزايداً    عاجل/ ترامب يمهل ايران أسبوع لتفادي الضربات الامريكية المحتملة..    جامعة تونس المنار تحرز تقدما ب40 مرتبة في تصنيف QS العالمي للجامعات لسنة 2026    اليوم: أطول نهار وأقصر ليل في السنة    توقيع اتفاقية قرض بقيمة 6,5 مليون أورو لإطلاق مشروع "تونس المهنية"    وزارة الثقافة تنعى فقيد الساحة الثقافية والإعلامية الدكتور محمد هشام بوقمرة    الفنان أحمد سعد يتعرض لحادث سير برفقة أولاده وزوجته    القصرين: بطاقات إيداع بالسجن في قضية غسيل أموال مرتبطة بالرهان الرياضي    طقس السبت.. ارتفاع طفيف في درجات الحرارة    مدنين: اختصاصات جديدة في مهن سياحية وانفتاح على تكوين حاملي الإعاقة لأول مرة    اليوم: الإنقلاب الصيفي...ماذا يعني ذلك في تونس؟    الاحتلال يضرب وسط إيران.. قصف مبنى في قم وانفجارات في أصفهان    إغتيال قائد لواء المسيّرات الثاني بالحرس الثوري الإيراني    الانقلاب الصيفي يحل اليوم السبت 21 جوان 2025 في النصف الشمالي للكرة الأرضية    بايرن ميونخ يفوز على بوكا جونيور و يتأهّل إلى ثمن نهائي كأس العالم للأندية (فيديو)    بعد فوزه على لوس أنجلوس... الترجي الرياضي يدخل تاريخ كأس العالم    أسرة عبد الحليم حافظ تُقاضي مهرجان "موازين" الدولي بالمغرب    وزير الاقتصاد.. رغم الصدمات تونس لا زالت جاذبة للاستثمارات    في اختتام مهرجان « Bhar Lazreg Hood» منطقة البحر الأزرق .. معرض مفتوح لفن «الغرافيتي»    باجة: نسبة تقدم الحصاد بلغت 40%.    الأحد: فتح المتاحف العسكرية الأربعة مجانا للعموم بمناسبة الذكرى 69 لانبعاث الجيش الوطني    السبت 21 جوان تاريخ الانقلاب الصيفي بالنصف الشمالي للكرة الأرضية    ارتفاع درجات الحرارة يسبب صداعًا مزمنًا لدى التونسيين    منصّة "نجدة" تساعد في انقاذ 5 مرضى من جلطات حادّة.. #خبر_عاجل    التشكيلة المحتملة للترجي أمام لوس أنجلوس    كاس العالم للاندية : ريال مدريد يعلن خروج مبابي من المستشفى    بطولة برلين : من هي منافسة أنس جابر اليوم الجمعة ؟    ملف الأسبوع...ثَمَرَةٌ مِنْ ثَمَرَاتِ تَدَبُّرِ القُرْآنِ الْكَرِيِمِ...وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



توحيد الحياة.. معاقد إيمان ومقاصد عبادة :الدكتور حسن الترابي
نشر في الفجر نيوز يوم 10 - 09 - 2008


كتاب الشعائر الدينية وأثرها في الحياة العامة (2)
توحيد الحياة.. معاقد إيمان ومقاصد عبادة

الدكتور حسن الترابي
إن معاقد الإيمان تتوثق عقيدة توحيد لا تنتقض ولا يعروها إشراك إذا آمن الإنسان وأخذت تتزكى فيه بالشعائر الدينية المسنونة روح تُسلم أمور الحياة وتقاليد الكون كافة لله وحده.
إن أصول الإيمان الذي تؤصل عليه الشعائر وتباركه بنياتها ومقولاتها ومفعولاتها هي أولا معرفة الربوبية لله ربا أعلى لكل عوالم الوجود المشهود والمغيّب طبيعية وبشرا وجنا، له الحمد استغراقا لكل الأسماء والأوصاف الأعلى وكل الشكر على النعماء.
والإيمان هو كذلك إعلاء الألوهية لله تعالى ومن ثم تسبيح قدر الله فوق المقادير العالية وتكبيره فوق كل المستكبرين، وإذا توحدت الربوبية والألوهية فإن الإنسان ما هو إلا آية وثمرة لحمد الله ربا ولتكبيره إلها، فعليه الخشوع طاعة وقنوتا والإسلام للنفس والحياة له سبحانه.
وليتمكن الإنسان من ذلك لا بد أن يستعين بالله ليستهديه ويستمد منه كل فضل في الحياة الدنيا والآخرة، ذلك أنه مكلف باختيار الحق واتباع الهدى مهما انفتحت له باحة المشيئة والخيار وأنه في ابتلاء وفتنة من الدنيا ليختار الهدى أو يشاء الضلال وأنه محاسب في الآخرة يوم القيامة مجازى بما يناظر كسبه في الدنيا، إن أسلم لله سلمت عليه الملائكة وسالمته الجنة دار السلام بنعمائها ويتلقى السلام من إخوانه ثم من الله والرضوان، وإن خاصم ربه وعصى إلهه في الدنيا كان في النار في خصام مع رفقائه فيها تغلظ عليهم الملائكة والله عليهم في قطيعة وغضب عظيم.
لا محمود ربا ولا متعال إلها سوى الله ولا يعبد المؤمنون الخالصون غيره؛ إذ لا ملك يوم القيامة إلا له ولا مفر من حسابه ولا شفيع إلا بإذنه.
إن ما توحي الشعائر أن مذهب الحياة الدنيا وشرعتها كلها عبادة وابتغاء لوجه الله، كل الهموم والمقاصد والمراجع من الإنسان إليه سبحانه، وأن منهاج الحياة كل المسالك والطرق على الصراط المستقيم نحوه تعالى، فالحياة توحيد عبادة لله لا إشراك فيها شركا لا تستقيم بعض مساقاتها في سبيله تعالى أو بعضها تنفصل وتنشق عن ذلك السبيل.
الوجدان الباطن إيمان خالص بالله والغيب والظاهر مسلك تعبدي على شرعه وهديه، والحياة للمؤمن صادقة لا نفاق فيها بدعوى إيمان لا يشهد عليه العمل الصالح أو بعرض عمل يرضي المؤمنين، لكنه لا يؤسس على دوافع مرضاة الله، والدين عبادة قانتة وطاعة مجاهدة واستعانة بالله يستمد بها المؤمن العابد بعد بلاغ وسعه التوفيق وهي من ثم نهضة راقية قربى لله.
الذكر.. شعيرة أولى
والذكر شعيرة.. أوله استشعار في النفس بعد الغفلة لمعان حاضرة تتصل بالله والغيب توثق معاقد الإيمان شرائح العقيدة في الوجدان.
ثم الذكر المنطوق تعبير عن تلك المعاني المستشعرة وتغذية لها بحركة اللسان، وأعلاه التهليل، ولا إله إلا الله نفيا وتطهرا من كل تعلقات الحياة وشهواتها ومقاصدها التي قد تقدسها الأهواء غايات، وتثبيتا لتأليه الله وعبادته استثناء من التحرر من سائر معبودات الوجود.
وكل الأذكار تأكيد لأسماء الله الحسنى وفضله على كل مخلوق، "فالله أكبر" من كل مستكبر في الأرض، والحمد لله يستغرق الثناء والشكر كله لله، والتسبيح بصفات الله فوق لجج الأوهام منزها عن كل نقص ومتعاليا على كل فضل.
وهكذا تتواتر الأذكار تعبر عن معاقد الإيمان وشعاب العبادة، ترد أحيانا من الذاكرين حزبا راتبا في وقت معين أو مناسبة بعرف مسنون من سلف يلتزمه الخلف، أو ترد هكذا عهدا يتخذه المؤمن بنفسه، أو ترد في مواقعها المناسبة من ظروف الحياة وابتلاءاتها فيرسو منها أثر أبلغ يطمئن به الإيمان.
والذكر المنطوق قد يجري لغوا عرضا أو قولا دارجا في المناسبات بسملة لأول كلام أو حمدلة أو صلاة على النبي إذا جاء ذكره أو خطابا بتحية السلام أو نحو ذلك مما يكثر ترداده، وقد يجري كذلك في سنن الذكر المأثور، ويصبح بذلك عادة ينسلك بها صوت الكلمات وينسهك معناها منطوقة ممن لا يدرك مدلولها الدقيق أو مغزاها الحق أو ممن يخرجها من سجل الذاكرة عفوا أو من تلقاء سائر الخطاب وما هي عن وعي مدّكر.
وعرف المسلمين يعهد كثيرا من تلك الظواهر، يكاد بعضهم يحصر شعيرة "الذكر" اصطلاحا في الراتب المرسوم والكلم المعلوم أو يستعين بأصابعه أو بأداة تسمى "المسبحة" ليعد التسبيحات أو جمل الذكر الأخرى مكركرة إلى حد محسوب، وقد تغلب على الذاكرين المسارعة في ترجيع الكلمات وسردها حدرا لاستكمال حسابها المسنون أو لبلوغ العد الأكثر، ولو قضى الذاكر مثل ذلك الوقت مسترسلا مرتلا بضع آيات أو كلمات ذكر يتأمل معانيها لا تجردا بل تنزيلا على وقائع الكون والحياة لعمرت بها مشاعر نفسه ولأفعمت بشعاب الإيمان وارتكزت معاقده حيّة تتفاعل مع حركة الحياة.
الصلاة.. تعبير عن الإيمان
أما شعيرة الصلاة فإنها ذكر الله الذي يعبر عن الإيمان ويغذيه ويقوي الشعور به بالقول والفعل، معالمها كلها تنظمها كلمات تكبير فتحا وركوعا وسجودا وقياما. وحركتها كلها توحيد لأنها استقبال لمسجد الله الحرام لا يلتفت عن وجهته ظاهر وجه ولا نظرة عين بل الأصابع من اليدين والرجلين قياما وجلوسا تتصوب بهيئتها إلى القبلة ولا ينصرف القول إلى غير خطاب الله مهما دعت حاجة حول المصلى، ويصدق ذلك أن وعي المصلي قنوتا وخشوعا وضراعة يتركز نحو ذكر الله توابا إليه مهما نازعته مشاغل البال وعوارض الملهيات ووساوس الشيطان.
ويصوم المصلي ويزكي متاع الحياة في الصلاة عابدا لله وحده، ويقرأ المصلي الفاتحة حامدا ربه معظما موحدا صوب العبودية والاستعانة بالله ذاكرا المصائر إليه ملكا يوم الدين، ويرفع يديه لمفتتح الصلاة أو أثناءها استسلاما لله ويقبضها عُنوا لأمره وخضوعا لقيده، ويركع نزولا بمقامه بين يدي الله العظيم، ويسجد وضعا للوجه ورغما للأنف بالتراب ذلا بالغا لله تعالى، هكذا الصلاة كلها، ذكرها وحركتها تعبير عن العبادة لله، ويتصل الذكر تسبيحا وحمدا وتكبيرا بعد قضائها.
وسائر الصلوات غير الفرائض شعائر ترسيخ لطاعة الله، صلاة عيد فطر ذكرا لطاعة الصيام، وعيد أضحى ذكرا للقدوة في طاعة إبراهيم عليه السلام لرؤية ربه يمتحنه بالإقدام على ذبح ابنه العزيز الذي بلغ معه السعي وهو بعيد عن سائر الأهل، وصلاة الخسوف والكسوف ردا لكل مظاهر الطبيعة التي تجليها آيات الله، وصلاة الاستسقاء تعبيرا عن الحاجة المتوسلة إلى الله وحده.
وشعائر أخرى
وشعيرة الصيام ذكر لله الأكبر الهادي بالقرآن )شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ( [البقرة:185].
والصيام عبادة نهار كامل تجردا من الشهوات طعاما ونكاحا وخبيث كلام طاعة لما كتب الله من تكاليف، الجوع والعطش والإعراض عن متاع الدنيا، ويكتسي الصيام بأذكار وصلاة تراويح مزيد اقتراب إلى الله )وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ( [البقرة:186].
والحج كذلك شعائر يتخللها ذكر الله وتكبيره وتوحيده عند كل المناظر والمواقع، لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، لا سيما الحمد على ما رزق من بهيمة الأنعام التي تساق وتهدى ليجد كل الجمع الحاشد مطعما.
وكل الشعائر القائمة رموز للغيب فما هي ولو تجسدت أحجارا بأوثان، ولا تقبيل الحجر الأسود بعمران شرك بل مثال توحيد ولا رمي الجمرات بقذف قاصر على الصنم بل نبذ وحرب على الشيطان انتصارا لعبادة الله، وكل المواقف يحييها الذكر ويغمرها التوحيد، الطواف حول مركز الحرم شعيرة دورة الحياة العابدة كلها حول متعبد الله والسعي تواتر الحياة كلها بمقاصدها الدنيوية مرجعا إلى الله الراحم الرازق.
أما شعيرة الزكاة فأداؤها معرفة وحمد لجميل رزق الله مالك المال الذي يستخلف عليه عباده وأمانة ترد الفضل إلى سائر عباد الله، فالله هو الواحد مصدرا للثروة الواردة والحق مصرفا لها ومرجعا إليه.
الحياة.. ومعاني التوحيد والعبادة
كذلك سائر الحياة كل شعابها تتخللها وكل مقاصدها تغمرها بمعاني التوحيد والعبادة الشعائر الدينية المسنونة، معاقد الحياة كلها مهما كانت علاقات بشر فروع عن عقيدة الإيمان بالله يحمل الإنسان عليها الرضا كما يحمله على الدين الصادق، ومقاصد الحياة كلها مهما باشرت أغراضا عاجلة بسبل مشهودة في الدنيا موصولة بعبادة الله، مغازيها تنحو إلى مصائر الغيب وجزاءاتها عند الله ثوابا ورضوانا لا عذابا وغضبا، ووسائلها تستعين بالله وغيب قدره المصرف لظروف الدنيا وقضائه المبرم لوقائعها.
ومهما كانت فتن عالم الشهادة تتوالى الشعائر الدينية لئلا يسير الإنسان مفتونا منقطعا عن الغيب والإيمان والعبادة منفصلا بتعلقاته وتذرعاته الأرضية في مساق من مساقات الحياة العامة فاسقا من دين التوحيد حاصرا للعبادة في جانب الحياة الشخصي المخصوص الذي لا تتخطفه نوازع شهوات الحياة العامة ودواعي أهواء علاقاتها الكثيفة وفي تقاليد التعبد المأثور بأقواله وأشكاله لا ما تتسع فيه الاجتهادات المتحررة والتصرفات المتجددة فتنفلت جوانب من حياته مارقة فاجرة من الحدود.
فالزوجانية البشرية يبتلى فيها الإنسان كثيرا بطغيان الهوى والحب والشهوة في معاشراتها ومواطآتها وتنفصل من نيات الدين وأحكام شرعه، لكن الذاكر لله كثيرا المصلي متجردا من النظر والكلام والصحبة وغيرها من مثيرات الشهوة الزوجانية والصائم الذي ينكف قطعا عن إغراءاتها لنهاره كله والحاج المحرم كذلك -شعائره تتواتر في حياته تذكره بأن الزوجية آية من آيات الله ونعمه: )وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ( [النحل:72]، )وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّة وَرَحْمَة إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ( [الروم:20، 21]. ومن ثم يعتصم المؤمن من فيض شعائره بدواعي الإيمان والعبادة من أن تشذ به عن شريعة الله الشهوات والأعراف الزوجانية. وحياة المجتمع كلها للمؤمن الذاكر الذي يوالي غذاء قلبه بالزاد الذي تثمره الشعائر المتواصلة- كلها آيات لله: )وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ * وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ *وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمْ الْبَرْقَ خَوْفا وَطَمَعا وَيُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ مَاء فَيُحْيِ بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ( [الروم:22:24].
وآداب حلقات المجتمع وصفوفه وأخلاق علاقاته يتدرب عليها مؤدي الشعائر ويتزكى، فالذكر اللساني جامع للذاكرين والصلاة صافة للمصليين، وفي الصيام والحج والزكاة والصدقة يترسخ إخاء المسلمين واستواؤهم وتضامنهم وتوازنهم يتقون التجافي والتعازل ويتطهرون من الصراع على المتاع المحدود كيف يُقتسم والتفرق في الأرض الممتدة، كيف تُعبر والتفاخر بالألوان والعروق والتحاسد على المصائر، ذلك أن في الشعائر ما يوحي إليهم بالعدالة والمواصلة واستواء الأصل والمرجع مصيرا إلى الله بحق العبادة.
وكذلك علاقات السلطان بين البشر تفتن فيه القوة، البشر يتغاوون على الصراع بها لبلوغ مستوى الطاغوت والتجبر والذل والذيلية، ويحدّث الشيطان من تمكن في السلطة أنه ملك بالفردية، لا يقبل شريكا، وبالخلود لا يقبل الخلافة عن حياة وسلام.
ولكن ذكر الله في الشعائر وهيئة أدائها مما يوحي للإنسان ويزكي فيه إن قوة السلطان حتى عند الله العزيز الجبار لم تبلغ إكراه البشر على الإسلام له تعالى وأنه تعالى هو الذي يستخلف عباده على شيء من السلطان يصرفه بينهم كما يشاء: )قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ( [آل عمران:26]. وإنما يبتلي الله من يجعل خليفة يتمكن في الأرض هل ينفرد بهواه أو يرد الأمانة إلى جميع أهلها: )إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعا بَصِيرا( [النساء:58].
والذاكر لله المصلي ولو إماما تضبطه وتعلمه سنن الإمامة، والحاج يمضي مزكى بلا رفث ولا فسوق ولا جدال بين الناس ولا فساد في الأرض، كل ذلك لا يفتح بابا للفسوق بالسلطان والسياسة من ملك الله وهديه وابتلائه وجزائه، فضلا عن أن يخلي منزلقا للخروج على شرع الحكم وأخلاق السياسة في الدين، إلا لمن نقص الإيمان بالغيب في نفسه لا يتمه بالشعائر المسنونة فهو ينقص مدى الدين ويحيط به عالم الدنيا لتغشاه علمانية السياسة وفجورها الدنيوي الذي لا يذكر آخرة ولا أزلا استكبارا ونفاقا وظلما.
الدنيا دار بلاء
والدنيا دار بلاء بشهوة الكسب الأكثر الأعجل ولو ظلما والمتاع بالمعاش ولو حراما وترفا، والبشر يفتنون بمواد الكسب والمتاع يتخذون ذلك الهوى متعبدا ويذهبون مذهبا لا دينيا ماديا، ولكن المؤمن الذاكر لله يصلي مع المؤمنين ويصوم مع الجائعين ويتصدق يرد المال والرزق لله، ويعلم الاستخلاف عليه أمانة ومسئولية ومسعى كالمسعى في الحج في سبيل الله وأجور الآخرة بعائدها المضاعف ومتاعها الخير والأبقى.
ومعاش المؤمنين وثاق مجتمع لا يشققه التنافس الغيور على الدنيا ولا يمزقه الاعتزال تحوزا فرديا أو يفرقه الشح بخلا أو يحرقه الطمع تظالما وبغيا، وإنما تشدّ أصوله وتحفظ نسجه الشعائر الدينية التي تعقد في الحياة معاقد الإيمان الطوعية وتوحد مقاصدها وتطهرها بمغازي العبادة الخالصة.
الأربعاء. سبتمبر. 10, 2008
إسلام أون لاين.نت


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.