"أنا رجل بدويّ بسيط أحمل رسالة، مجرّد كاتب يحمل قلما، لا أحمل بندقيّة حتّى تفعل بي الحكومة كلّ هذا الذي إقترفته في حقّي على مرّ سنوات" قالها الصحافي التونسي سليم بوخذير، الذي أفرج عنه بمناسبة عيد الجمهورية في 21 يوليو – تموز الماضي، بعد أن قضى قرابة الثمانية أشهر سجنا نافذة. منصات التقت بهذا البدوي البسيط، الذي يعرف بإصراره على مواقفه. تعددت روايات حيثيات إيقافك، إذ بررت السلطة اعتقالك باتهامك بالتهجم على أعوان الأمن شتما وإهانة، فما حقيقة ما جرى ؟ السلطة ليست طرفا مُحايدا في علاقتها بموضوع إعتقالي فجر 26 نوفمبر– تشرين الثاني و لا بموضوع سليم بوخذير بشكل عامّ ، حتّى يجوز تصديق روايتها . وأنا لن أعود بكثير من التفصيل لما جرى في تلك الليلة ولكنّي سأوضّح النقاط التالية: أنا شخص أحبّ جدّا هذا البلد ومُخالف لنظام الحُكم ومُدافع عن هذا الشعب. لذلك ليس من المعقول أن أُهين أيّ تونسي بمن في ذلك موظّفي الأمن ببساطة لأنّهم تونسيّون. لم أكن طرفا مُعتديا يوما مّا لا بالقول ولا بالفعل على أحد. وفي ليلة اعتقالي أنا من تعرّضت للشتم و وصفوني بأنّني عميل لأمريكا ووقع تعنيفي و رفضت المحكمة النظر في هذا بحضور ملاحظين دوليّين. أنا شخص لي رسالة أحملها ولي خطابي الخاص الذي أتحلّى به ، و من غير الجائز أن أتخلّى عن خطابي الذي أراه راقيا في التعبير ، لأنزل إلى الخطاب السّوقي البذيء فأستعيره بدلا عن خطابي. إن التّهم التي وجّهوها ضدّي مُفتعلة برُمّتها. هنالك بيانات عدة صدرت، اذكر منها بيان طالعته شخصيّا بعد إطلاق سراحي يوم 4 ديسمبر – كانون الأوّل 2007 عن منظّمة "حرّية و إنصاف"، الذي فيه جرد شامل لمُجمل التناقضات المضحكة المبكية التي تضمّنتها الدعوى. لقد فوجئت بعد إخلاء سبيلي في 21 تمّوز أنّ الحكومة هرعت إلى إعتقال عديد النشطاء الحقوقيّين من بعدي بالتّهم نفسها وأعني "الاعتداء على الأخلاق الحميدة" مع أنّهم (النّشطاء) هم أشرف التونسيين. ففهمت عندئذٍ أنّ النظام التونسي أراد أن يجعل من 2008 سنة تعليمنا دروسا في الأخلاق.
كيف وجدت هذا العالم السجني كإنسان أولا ثم كصحافي ثانيا ؟ ببساطة عندما دخلت السّجن فهمت جيّدا لماذا تمنع الحكومة المنظّمات الحقوقيّة زيارة سجونها. هذه القلاع ذات الأسوار العالية يخالها المارّ من الخارج مُجرّد سجون، يُحرم فيها الإنسان فقط من رؤية العالم الخارجي. لكن عندما يلج السجن يعرف أنّ هناك عقوبات أخرى تُضاف له لم ينص عليها الحُكم الصادر ضدّه. وهنا لا يجب أن أحصي لك قائمة ما تُحرم منه من حقوق في المعتقل لأنّها لا تُحصى. عليك أن تسألني ما الذي يتبقّى لك من حقوق فيه ؟ هنا الإجابة تكون أيسر. يتبقّى لك القليل جدّا من الهواء (الملوّث) و قليل جدّا من السنتمترات وقليل جدّا من الماء (الذي كثيرا ما يكون مقطوعا) و كثير جدّا من الروائح القذرة و كثير من الرطوبة و كثير من الأمراض السارية و حرمان من الكرامة. ناهيك عن كثير من الممنوعات. المرآة مثلا أمر مستحيل في المعتقل. الاكتظاظ كبير هناك والضّيق بالغ و الإهانات بلا حدّ. والأمر المستفِزّ أنّ هناك إغتيال لمعاني الكلمات في السجون، مثلا كلمة فُسحة في السجن لا تعني الفسحة التي نعرفها (النّزهة) بل بضعة أمتار مُبلّطة بالإسمنت لها سقف حديدي يجوبها السجناء في إكتظاظ ساعة واحدة كلّ 24 ساعة. رؤية التراب تُصبح حلما في السجون أمّا رؤية شجرة فذلك مستحيل. يعتبر البعض أن سليم بوخذير يخوض من خلال الواجهة الصحفية معارك شخصية بعيدة لا علاقة لها بالمهنة، فكيف ترد على هذه الإتهامات ؟ لم أدخل في أيّ معركة شخصيّة مع أي إسم في النظام و ليست لي أهداف شخصيّة من الكتابة عن مواضيع الحقّ في تونس (إنتهاكات حقوق الإنسان – الفساد ..إلخ). أنا صحفي تعرّض لكلّ أشكال الإضطهاد التي من الممكن أن ينالها إنسان من حكومة: وقع تجويعي و منعي من العمل في بلدي. تعرّضت للاعتداء بالعنف مرارا و تكرارا على يد بلطجيّة النظام كما وحوصرت تنقّلاتي ووقع حرماني من حق السفر للعام الخامس على التوالي. حاولت الحكومة تشويه سمعتي و إشاعة إتهامات باطلة ضدّي. وقع اعتقالي والتنكيل بي في زنزانة إنعزاليّة مضيقة لا تليق بالحياة الآدميّة ل 8 أشهر يوما بيوم. كما حرصت السلطة على اعتقال شقيقي السجين الآن يوم الإفراج عني بالذات. لو كانت لي أجندة شخصيّة لأرحت نفسي من كلّ هذا الصداع و تراجعت عن أسلوبي في الكتابة بإستقلاليّة وحياديّة و هو ما لا ترضاه السلطة، ولتخليت عن ميثاق شرف الصحفي الذي يُطالبني بنقل الحقيقة كما هي إلى الرأي العام وعدم التحليق في فلك أيّ كان وأيّ شيء غير الحقيقة. أنا رجل بدويّ بسيط أحمل رسالة، أنا مجرّد كاتب يحمل قلما،لا أحمل بندقيّة حتّى تفعل بي الحكومة كلّ هذا الذي إقترفته في حقّي على مرّ سنوات. لا أسعى ان ازيح كرسيّ الحُكم عن أحد و إنّما أريد أن يحترموا قدسيّة الكلمة الحرّة الشريفة والتقيّد بما وقّّعوه من معاهدات تكفل لهذا الشعب حرّيته وكرامته وحقّه في ماله العام و في تلفزيون بلده و في كلّ شيء . شنت الكثير من المدونات حملة للمطالبة بإطلاق سراحك، فكيف تقيم العمل التدويني؟ العمل التدويني في تونس فرض نفسه رغم كلّ التضييقات والحملات المنتظرة التي شنتها السلطات. هذا النظام نسي أنّ الكلمة الصادقة تصل إلى القلوب مهما كانت الحواجز. أشكر كلّ الشرفاء الذين دوّنوا من أجل الإفراج عن سليم بوخذير. أنا بالمناسبة صحفيّ و لكنّي مدوّن أيضا. ويوما مّا ستكون المدوّنات بديلا لعديد الصحف الفاقدة للمصداقيّة، أعني الصحف الخرساء. بماذا خرجت من تجربة السجن ؟ خرجت بكثير من المتاعب الصحّية و بمشكلة صحّية غامضة على مستوى الرأس مازال تشخيصها لم يتم. كما وخرجت بكثير من الشوق للكتابة التي حرمني منها النظام ل 8 أشهر (حيث مُنعت من حق التراسل في المعتقل) وخرجت بجائزة بن شيكو ل"القلم الحرّ"، و بوسام شرف علّقه على صدري كلّ شريف في الأرض كتب عنّي أو ساندني بأي شكل. وكلّ هذا يقف دليلا على أنّ النظام لم تنجح ألاعيبه من أجل محاولة محو حقيقة مظالمه لي كإنسان و كصحفي و لن ينجح أبدا بإذن الله. منصات