بعد استبشار البعض بالخطوة التي اعتبروها جريئة في جعل أعضاء الحكومة وجها لوجه مع المواطنين من خلال حوارات مباشرة تُبثُّ على القناة العمومية التي يموّلها الشعب، وظن البعض أنها ستكون فرصة لتجاوز الحواجز التي تحول دون وصول المواطن إلى المسؤول الأول عن أي قطاع ليطرح تظلّمه أو رأيه في عمل وزارته، كانت الحصيلة هزيلة. وجاء في إحدى الصحف اليومية القريبة من السلطة والتي تتمتع بالإشهار العمومي تعبير عن خيبة أمل مسؤول التحرير فيها تجاه أداء أعضاء الحكومة عندما كتب، بعد أن أفْضَى بِمرارة خيبته في تحقيق ما رآه هدفا للبرنامج، ما يلي" فمن كان من المشرفين على هذه الحوارات يخشى الله فينا فليرحمنا من ذلك الإطار الجامد الذي تجرى فيه الحوارات ". وعبّر إعلاميون آخرون من صحف وأجهزة إعلام عمومية أو "معارضة" مدعومة من قبل الدولة عن خيبة أملهم تجاه ما أبرزته هذه الحوارات من استمرار الطرق القديمة المتآكلة في التعاطي مع المشهد الإعلامي. وأكدوا أنّ الحوار مصطنع والضيوف مختارون، بل ذهب بعضهم أن الأسئلة التي ألقيت كانت معدّة سلفا. واعتبر بعضهم أن اللغة الخشبية كانت أداة الحوار بين المسؤول و"المواطنين" الذين توجهوا إليه بالأسئلة . وتساءل أحد الإعلاميين، وكأنه لا يعيش في تونس، عن مقاييس اختيار الحضور. قالت العرب قديما " لا يستقيم الظل و العود أعوج " وهذه حقيقة فيزيائية توصلوا إليها بالتجربة والمشاهدة المباشرة ودون أن تكون هناك كليات للعلوم. وهنا يتساءل كثير من المتابعين للمشهد الإعلامي التونسي عن مدى جدية تساؤلات هؤلاء الإعلاميين، ويستغربون من الانتظارات التي عبّروا عنها، وكأنهم لا يعيشون في هذا البلد ولا يرون كيف تتعامل السلطات مع الإعلام. بل يذهب البعض إلى اعتبار تساؤلات هؤلاء الإعلاميين جزءا من المسرحية، إذ عوض أن يطرحوا السؤال الأهم في خصوص قضية الإعلام وهو: هل ترغب السلطة فعلا في إعلام يطرح القضايا الحقيقيّة وتدعمه أم هي تتحدث عن أزمة الإعلام مزايَدَةً واستهلاكا وذرا للرماد في العيون؟ عِوض أن يطرحوا ذلك السؤال الأهمّ نراهم يتحدثون باستغراب عن فشل الوزراء في تنفيذ ما كان يُؤمّل من هذه الحوارات. وقديما قالت العرب أيضا: "فاقد الشيء لا يعطيه" والفقدان هنا لا نقصد به أشخاص المسؤولين الذين أجروا هذه الحوارات التلفزية فالمسألة ليست مسألة أشخاص، بل المقصود به النظام القائم (le système ) . هل تسمح المنظومة السائدة بحوار شفّاف ونزيه تُطرح فيه كلّ الأسئلة على كلّ مسؤول في حدود مسؤولياته؟ وهنا نقول: هل يجرؤ أي مسؤول على دعوة من يشاء إلى حضور هذه الحوارات؟ والجواب يعرفه الإعلاميون الذين "خاب" أملهم في تلك الحوارات. إن المشهد الإعلامي كلّه مصاغ كي ينتج مثل ذلك الجمود الذي تحدث عنه بعض الإعلاميين، بدءًا من التمكن من المعلومة ووصولا إلى وسائل الإعلام التي يتعاطى معها المسؤولون. أليست كل الصحف الصادرة في تونس صحفا وطنيّة مرخّص لها من قبل وزارة الداخلية وتطبع في مطابع تُرَاقَبُ بطريقة أو بأخرى من قبل أجهزة الدولة، فلماذا تقصى صحف هما "مواطنون" و "الطريق الجديد" و"الموقف" من حضور ندوات الوزراء والمسؤولين الرسميين، ولا يتم التعامل معها و لا مدّها بالأخبار عن طريق أي وسيلة اتصال كانت ؟ إن خيبة الأمل ليست في فشل هذا البرنامج أو ذلك فقط، بل خيبة الأمل الكبرى في تواصل التعاطي مع المشهد الإعلامي بعقلية الرأي الواحد والحزب الواحد، وبعقلية تقسيم البلاد بين وطنيين ولا وطنيين، وبعقلية فرز التونسيين بين "مواطنين" وآخرين لا بد لهم من أن يثبتوا مواطنتهم. وهي خيبة أمل تؤكد مدى فداحة الإخفاق الديمقراطي الذي نعيشه في هذا البلد. وعلى مستوى الإعلام فمِمّا يؤكد هذه الخيبةَ وجودُ صحف لها حق الحياة وأخرى لا بد لها أن تموت، والبعض يردد: «البلاد فيها الخيرات السبعة». ويكون في هذا الترديد كثير من الانتهازية إذا ورد على لسان إعلاميين يُفترض أن يكونوا رجال السلطة الرابعة وحماتها.