القدرة الشرائيّة للمواطن: عندما تتسع الهوّة بين المنظومة الاستهلاكيّة والقدرة على الاستهلاك بقلم: محمد رضا سويسي
تستعدّ مختلف الأطراف الاجتماعيّة لخوض جولة جديدة من المفاوضات الاجتماعيّة الدّوريّة وهي مفاوضات يشارك فيها الطرف العمّالي على أمل أن تساهم في رتق القليل ممّا أصاب قدرته الشرائيّة من اهتراء بفعل الزيادات المتواصلة في الأسعار والارتفاع نسب التضخّم. ويجد المواطن مقدرته الشرائيّة ضحيّة لمنظومة استهلاكية متكاملة تشتمل على عدّة عناصر مثل اتساع دائرة احتياجات الفرد والأسرة مع تطوّر مقتضيات الحياة حيث دخلت عدّة عناصر إلى دائرة الضرورات بعد أن كانت من الكماليات فلم تعد سلّة المواطن تقتصر على تلك المواد الغذائيّة الأساسيّة فحسب بل أصبحت عديد العناصر الأخرى تدخل ضمن هذه الضرورات مثل الهواتف المحمولة وتكنولوجيّات الاتصال الحديثة وحتّى وسائل النقل الفرديّة والعائليّة خاصّة مع اتساع ظاهرة التشجيع على الاستهلاك من خلال بعض المبادرات التي اتخذت صيغة القرارات السياسيّة على غرار السيّارة الشعبيّة والحاسوب الشعبي وغير ذلك من صيغ التشجيع على الاقتراض الذي أصبح بديلا عن التشجيع على الادّخار. كما يجد هذا المواطن نفسه أمام عمليّات إغراء تكاد تأخذ أحيانا صبغة الدّفع إلى الاستهلاك دفعا من خلال حملات الدعاية والإشهار التي تحتلّ الشوارع وتملأ المشهد السمعي البصري بما أصبح له تأثير واضح خاصّة على الأطفال الذين أصبحت مسألة صياغة عاداتهم الاستهلاكيّة وأذواقهم خارجة عن نطاق أوليائهم. ويدعم هذا الإغراء الوفرة والتنوّع الكبيرين اللذان أصبحا للسلع في الأسواق خاصّة مع فتح أبواب التوريد على مصراعيه حيث تتعدّد السلع في مستوى الأذواق ومصادر السلعة ودرجة الجودة وغير ذلك من مستويات التنوّع فتجد الأوروبي والياباني والصيني والتركي والكوري والتايواني... وكذلك المنتوج الوطني. فبفعل عولمة السوق وفتحها بالكامل تقريبا على العالم نتيجة اتفاقيات الشراكة مع الاتحاد الأوروبّي واتفاقية التجارة الدولية أصبح التونسي مفتوحا نظريّا على نفس البضاعة التي تتوفّر في أي سوق في أوروبا أو في آسيا أو الولايات المتّحدة الأمريكيّة فالمنتوج المعروض متشابه ممّا يخلق بالتّأكيد تشابه في الرّغبات سرعان ما يصبح بدوره تشابها في الحاجات. لكن بالمقابل يكون الاختلاف كبيرا عندما يصير الأمر حديثا عن إمكانيّات الاستهلاك حيث يجد التونسي نفسه أمام حالة من مواكبة هذه المنظومة الاستهلاكيّة بفعل محدوديّة قدرته الشرائيّة الناتجة عن الضغط المتواصل على الأجور سواء في القطاع العمومي أو القطاع الخاص حيث لم تنجح السياسة التفاوضيّة إلى حدّ الآن إلا في تخفيض نسبيّ من حدّة التراجع في المقدرة الشرائيّة للأجراء دون أن تتمكّن من خلق حالة من المعادلة بين الزيادات في الأسعار والزيادات في الأجور بحيث تتمّ المحافظة على تلك القدرة الشرائيّة. ولعلّ هذا الاهتزاز في التوازن بين المنظومة الاستهلاكيّة المعروضة والقدرة على الاستهلاك المرتبطة عضويّا بالقدرة الشرائيّة للأجراء قد نتجت عنه سلسلة طويلة من الاهتزازات الأخرى في التوازنات حيث اهتزّت ميزانيّة العائلة نتيجة اللجوء الى التّداين والاقتراض بغاية السعي للاستجابة لاحتياجات متزايدة لم تعد تعرف حدّا وهو أمر كثيرا ما أدّى بدوره إلى فقدان العائلة نفسها لتوازنها وتماسكها نتيجة المشاكل والأزمات التي كثيرا ما تدخل فيها العائلة بفعل تراكم الديون ووقوعها أحيانا في مأزق العجز الكامل على التقدّم ولو خطوة واحدة سواء في اتجاه خلاص الديون أو على الأقل نحو الاستجابة لحاجاتها الأساسيّة والحياتيّة. ونعلم جميعا لما يمكن أن ينتج عن مثل هذه الأوضاع من حالات تفكّك للأسرة التي يمثّل تماسكها العنوان الأوّل لتماسك المجتمع وهو تفكّك كثيرا ما يكون المصدر الأساسي لاختلال منظومة القيم والأخلاق والانحدار إلى مستنقع الانحراف بكلّ أشكاله ومظاهره فتكون المحصلة النهائيّة لكلّ هذه التحوّلات فقدان المجتمع لتوازنه فتنتشر مختلف مظاهر التهميش الاجتماعي والانحراف والجريمة والجري وراء وهم الربح بالصدفة إلى غير ذلك من مختلف المظاهر المنتشرة اليوم. إنّ الانغماس في موجة الاستهلاك القائمة اليوم قد يكون تيّارا غير قابل للمراجعة في ظلّ الخيارات الليبراليّة القائمة اليوم لكن ما يبدو قابلا للمراجعة هو القدرة الشرائيّة للمواطن وخاصّة الأجير من خلال السعي لإقامة نوع من التوازن بين تلك المنظومة الاستهلاكيّة والأجور فتأخذ هذه الأخيرة بعين الاعتبار الاحتياجات الجديدة للأسر والأبناء فالحاسوب أصبح ضروريّا للتلميذ والطالب وكذلك الاشتراك في الشبكة العنكبوتيّة كما أنّ الهاتف المحمول أصبح ضرورة لكل أفراد العائلة تقريبا، هذا فضلا عن ارتفاع أسعار الأدوات المدرسيّة واستعمال وسائل النقل وغير ذلك ممّا لا يستطيع أي كان عن الانقطاع عن استهلاكه في كل ساعة وحين. إنّ الجميع ينظر اليوم بترقّب لما يمكن أن تسفر عنه الجولة الجديدة من المفاوضات الاجتماعيّة الدّوريّة والتي يمثّل فيها الاتحاد العام التونسي للشغل الطرف الاجتماعي الممثّل للأجراء والعاملين بالفكر والساعد والذي أعلن منذ مدّة عن انطلاق استعداداته لهذه الجولة من خلال إعداد الدراسات والمقترحات والخطط النضاليّة لخوض هذه الجولة. فعسى أن تنجح هذه المفاوضات في تحسين ولو نسبيّ في أوضاع الأجراء لأنّ في إعادة التّوازن لجيوب الناس إعادة توازن للكثير من الاختلالات في المجتمع