تونس- الحوار نت- ثلاثا وعشرين سنة اكتشفنا فيها أنّنا فشلنا في تحديد مفهوم وماهيّة الأسوأ حين اعتقدنا أنّ بورقيبة هو قمة هذا المفهوم فإذا بنا نكتشف أنّ هناك ما يفوق الأسوأ..
ثلاثة وعشرين عاما فهمنا خلالها الشيء الكثير وصححت لنا جملة من المعطيات كانت قبل 7 نوفمبر من المسلمات.. كنّا نعتقد أنّ النظام الشمولي هو أقصى درجات الاستبداد، وكنّا نظنّ أنّ الحزب الواحد هو أقصى درجات الاحتكار، فإذا بنا نتجرع استبداد النظام الأسري ونعايش احتكار الأنساب والأصهار و"الفاميليا".. اليوم وفي وقت متأخر جدا نكتشف أنّ دولة يديرها "الصياح والصخيري والمزالي والهادي المبروك ومحمود بن حسين وغيرهم.." هي دولة متعددة النفوذ وأنّها دولة متقدمة إذا قورنت بدولة تدار من طرف النسيب والصهر والنسيبة وبنت النسيبة وأخت الصهر وعمّة الكنّة..
اليوم يكتشف الشعب التونسي هادي نويرة الدكتوراه هادي نويرة الإقتصاد هادي نويرة التقشف و أنّ "مزالي" مجلة الفكر، و" مزالي" إتحاد الكتاب و"مزالي" التعريب.. ورغم ما صدر منهما فهما لا يقارنان بأسرة اليخت والمخدرات وتبييض الأموال..
لقد كنّا نعتقد أنّ أقصى درجات الألم أن يحاصرنا حزب شمولي ويشدد علينا الخناق لكنّنا اليوم نكتشف أنّ هناك ما هو أقصى من هذا وهو أنّ تمددنا أسرة أمامها وتشرع في تقسيمنا "حصصا" وأجسادنا تتأوه، بينما هم يتجاذبون الكتف والصدر والقلب والأمعاء.. كل ورغبته!!.. كل وشهوته..
لم يبيد الاستعمار الفرنسي الحياة السياسية إنّما كان يحجمها ويراقب نموها عن كثب ويصنع لها أحزمة تمكّنه من احتوائها وتمنع خروجها عن السيطرة، ولم يستئصل بورقيبة الحياة السياسية إنّما غيّبها عن المشهد العام وترك لها متنفسا في العمق مع تعهدها بضربات استباقية دورية، لكن "صانع التغيير" اعتمد منهج التدمير العام فكان يفسد ويغور ويبيد ثم يطور من حاسة شمه ليلاحق شبهة الحياة في عمق اليابسة وعلى بعد آلاف الأمتار.
مقارنة عبثية تلك التي يمكن أن تجمع بين مختلف مراحل تاريخ تونس الحديث. الحيرة والاستغراب يخيمان على المكان والزمان حين نقلّب الأحداث بين أيدينا فنكتشف أنّ المستعمر الفرنسي المجرم كان أقل إبادة للحياة السياسية من "أسرة 7 نوفمبر"، كما أنّه لا سبيل للمقارنة بين الحقبة البورقيبية وما تتجرعه البلاد اليوم وعلى مدى ثلاثة وعشرون عاما. مصيبة مرفوقة بمهزلة مصحوبة بغثيان تلك التي حدثت لتونس إذ كيف يبرز ساسة مثل "الثعالبي وبن يوسف والماطري والهادي شاكر وصالح فرحات ومحي الدين القليبي.." ويمارسوا قناعاتهم ويساهموا في صنع تكتل هدفه طرد المستعمر وهم تحت حراب الاستعمار، إنّه من المفارقات العجيبة أن يبرز ساسة ومعارضون أثناء حقبة حزب شمولي يتمنى الشعب زواله باليوم والساعة ثم ابيدوا هؤلاء على يد من يفترض أنّه جاء بتعلة إنقاذهم وإنقاذ شعبهم !!
شتان بين مرحلة كان معارضوها الإتجاه الإسلامي والوحدة الشعبية "نسخة أصلية" والديمقراطيين الاشتراكيين "نسخة أولى".. شتان بين المستيري وبولحية وبين محمد بن صالح ومحمد بو شيحة.. شتان بين محمد علي الحامي وفرحات حشاد والحبيب عاشور وبين الوزير بدون حقيبة إسماعيل السحباني..
فروقات كبيرة وطويلة وعريضة عرض المصيبة التي أصابت البلاد فأحالت مجهود النقابات والجمعيات والأحزاب والهياكل إلى هشيم تذروه الرياح، أسف قاتل وهموم هاجمة على هذا الشعب وهو يشاهد دولته تفوت في مؤسساتها لصالح أسرة لا تقنع ولا تشبع ، في الوقت الذي تجتهد فيه الدول كل يوم لترفع من أسهمها وهي ماضية على مدار الساعة تحسن من شروط نهضتها ونهضة مؤسساتها..
كان الشعب يترقب أفول الحقبة البورقيبية ليشرع في بناء مؤسساته التي طال تعطيلها لكنه فوجئ بمن يعطل نمو حلمه ويعطي إشارة الانطلاق لردة سياسية كان لها الأثر المدمر على مدى 23 سنة.
في كلمة لقد كان بورقيبة دكتاتورا "حشّاما" فأُصبنا بعده بدكتاتور "لا يحشم لا يجعر".