درج الكثير من المثقّفين في البلاد العربيّة على "العناية" بشهر رمضان الفضيل وعيدي الفطر والإضحى المباركين، يتّخذونهم ليخوّفوا العامّة منهم، يصوّرونهم مصائب تحلّ بضعاف الحال تزيدهم ضيقا ورهقا، وتواطأت وسائل إعلام السلطان على اختيار ما يُفسد على النّاس صيامهم بما يجمّعون من مسلسلات متبرّجة، وبما يزيّنون من موادّ ثقافية دافعة إلى الترذّل دفعا...، حتّى إذا كان العيد انتصبت السرادقات تمجّد الحاكم تحجب به اسم الله جلّ وعلا عن الخلائق، فلا ميسّر للعيش ولا ناظر للمُعْسر ولا معين للضعيف ولا معطي للمُعدَم إلاّ أبو الضعفاء حاكم البلاد المفدّى، فهو الذي ينصب في رمضان موائده التي سمّاها النّاس - "جحودا لفضله" - موائد الرحمن، وهو الذي يأتي بالبسمة من دنيا النسيان يرسمها على ثغر طفل غنم دمية أو ثغر عائلة نالت قفّة (قفّة رمضان أو قفّة عيد)، أو ثغر شيخ أعطِيَ خروفا نالت منه أجهزة التصوير والأيادي الوسيطة حتّى أدمي بدنه قبل أن يُهريقَ دمُه... موائد وعطايا يرسّخ بها الحاكم إذلال النّاس وتبعيّتهم واتّباعهم وصمتهم على ما يجري في دور خُدّام الدولة الفاسقين حيث الحقوق تُبطل والأعراض تُنتهك والمروءة تُذبح والرّجولة تُهان والدّين يُحارب والخالق يُكفر به... استعمال الدّين لأغراض سياسيّة كانت للنّاس تهمة فباتت لمن اتّهم النّاس مهنة لعلّ من أبرز أهدافها محاربة الدّين وأهله!... تصرّفات لاإسلاميّة يلصقونها بالمواسم الإسلاميّة كي يُبطِلوا بها كلمة المنابر الإسلاميّة (الحركات وغيرها)... يقدّمون رمضان ضربة قاصمة للاقتصاد والصوم عاملَ ارتخاء وتقاعس وغشّ في العمل!... ويقدّمون العيد – لا سيّما إذا اقترن بالدّخول المدرسي – مصيبة كبيرة قد تذهب بالمدّخرات وترهن الذهبات (كثير من التونسيين رهنوا حليّهم لمواجهة مصاعب العيش في البلاد) وتلتهم المرتّب حتّى قبل مغادرته إدارة الحسابات... حتّى إذا استيأس التونسي، جاءت الأيادي "البيضاء" القذرة تُنطِقُ فمَه كُرها تحديثا بنعمة حامي حمى الوطن والدّين... فاللهمّ جازهم عن التونسيين بما هم أهل له، وأعد على التونسيين الأعياد والمواسم باليمن والإيمان السلامة والإسلام والتوفيق والإحسان!... آمين...
لقد حُرم المسلمون في ديار الإقامة من لمّة العيد في كنف الأسرة، فلا حفيد يرتع في مملكة الأجداد، ولا ابن أخ أو أخت يتجوّل في سهل العمّ أو العمّة أو الخال أو الخالة، ولا ابن أو بنت يتدفّآن في أحضان الأمّ والأب اللذين ربّما باغتتهما المنيّة قبل أن يجتمعَ بالولد المبعد شملهما... كما حُرموا من عطلة قد تطول في الديار العربيّة حتّى يعلم النّاس أن لا معنى للوقت عند العرب!.. ومع ذلك فقد ظلّ المسلمون يجتهدون في إظهار شعائر العيد مسجّلين تمايزهم وكذلك تميّزهم بعلاقاتهم الإسلاميّة المقوّية للعلاقات النّاشئة البانية للأخرى الحادثة... يغتنمون نهاية الأسبوع فيجدّدون الفرح والاحتفال بعيد مرّ منذ أربعة أو خمسة أيّام... يجعلون للمرأة نصيبها وللطّفل نصيبه وللرّجل نصيبه... يقولون أدبا ويلقون شعرا، ويبتكرون مسابقات، ويجوّدون أناشيدَ وطربا منضبطا... وقد كنت خلال نهاية الأسبوع (يوم الأحد 21 نفمبر 2010) في ضيافة إخوة بإحدى ضواحي العاصمة كوبنهاغن، أبوا إلاّ التخفيف عن نفس تعوّدت الضيق أيّام الأعياد لفقدها أهمّ أسباب الانشراح... فقد كان احتفالهم داخل قاعةٍ رُسِم في كلّ شبر منها شيءٌ من فلسطين!.. كوفيات فلسطينية، دبكة فلسطينية، فلافل فلسطينية، أناشيد فلسطينية، سِيَر رجالٍ فلسطينين... لقد كان لاحتفالهم معنى ومغزى!.. إذ ما معنى العيد لو لم يكن وقفةَ تفكّر!.. وما معنى العيد لو لم يكن لفلسطين منبرا وللمظلومين مواساةً تتكرّر وللمحرمين مساعدة تُسرُّ بها نفوسهم وبها حالاتُهم تتغيّر!... كانت أمسية رائقة لمستُ فيها وآخرون حرص الفلسطيني الصالح على إعداد حملة المشعل في كلّ المجالات وعلى غرس حبّ الوطن في النّفوس وعلى تثبيت المعطيات التاريخية في القلوب وعلى تأبيد الرموز كرائد صلاح – فرّج الله كربه - وغيره من الأفذاذ في الذاكرة!.. كانت أمسية حضر فيها الإسلام وغابت عنها الجنسيات التي جعلت في بعض البلاد العربيّة مجرّد التفكير في الجهاد في فلسطين جريمة يعاقب عليها القانون القطري الخادم للقعود والخنوع... حضر الإسلام ففهم العربيُّ التركيَّ بلكنته ولغته التي أرساها أتاترك محاربا بها العربيّة والإسلام، وفهِم التركيُّ العربيَّ دون حاجة إلى مترجم، ولمّا وجبت الصلاة بدخول وقتها ارتفع الصوت بالأذان جميلا عربيّا بعيدا عن اللحن من حنجرة تركيّة حديثةِ تغنٍّ بمدح الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام... وقد كان في الأمسية رسالة مفادها أنّكم إذا أخرجتمونا أيّها الصهاينة المجرمون المحتلّون، أيّها الحكّام الظلمة الفاسقون من بلادنا فلن تقدروا أبدا على إخراج الوطن من قلوبنا، فإيماننا قد نمّاه لدينا حتّى أيقنّا أنّنا إليه راجعون ولكم بإذن الله قاهرون، وانتظروا إن شئتم فإنّا قادمون!... ومن يدري لعلّه قريبا يكون للاحتفال بالعيد طعم آخر غير الذي تذّوّقنا هذه السنة!... الحبّ والتقدير للمؤمنين والكره والاحتقار لأعداء الله أعداء الحرّية الفاسقين!... وكلّ عام والمسلمون بخير...