كأس أمم إفريقيا: تقييم لاعبي المنتخب الوطني في مواجهة أوغندا    سمير الشفي يعلّق على الجدل بشأن الاتحاد العام التونسي للشغل باية قرآنية    الجنائية المختصة في قضايا الارهاب تصدر احكامها في قضية اغتيال الشهيد الزواري    رئيسة الحكومة تشرف على اجتماع اللجنة العليا للإنتاج الخاص للكهرباء من الطاقات المتجددة    السعر المرجعي لتداول زيت الزيتون على مستوى المعاصرفي حدود 10 دينارات للكلغ الواحد (الفلاحة والتجارة).    . العثور على حطام طائرة خاصة كانت تقل رئيس الأركان الليبي في تركيا    جميعهم بحالة فرار: هذا ما قرره القضاء في حق المتهمين باغتيال محمد الزواري..#خبر_عاجل    كاس امم افريقيا: نيجيريا تنتصر على تنزانيا 2-1    محرز يدافع عن نفسه ويعد الجزائريين ببطولة مختلفة «الانتقادات لا تهمّني»    في عملية تهريب غريبة في مطار تونس قرطاج .. 7 أفارقة يبتلعون 9 كيلوغرامات من الكوكايين    اتحاد التضامن الاجتماعي: أكثر من 22 ألف عائلة استفادت من برنامج المساعدات المخصص لموجة البرد    سيدي علي بن عون.. انطلاق فعاليات الدورة الأولى لمهرجان الحكاية    صفاقس تصنع الحدث الثقافي... رحلة في عالم الكتب    قبلي : التسلم الوقتي لمشروع إعادة تهيئة دار الثقافة محمد المرزوقي بدوز    قابس: حادث مرور يخلف حالتي وفاة واصابات    الشركة التونسية للملاحة تدخل تعديلا على برمجة السفينتين "قرطاج" و"تانيت"..وهذه التفاصيل..    انطلاق عدد من التظاهرات على هامش المهرجان الدولي للصحراء بدوز في دورته ال 57    توزر: صناعات تقليدية متنوعة تعكس خصوصية وثراء الجهات وتنوعها في الدورة 17 لأيام الصناعات التقليدية بتوزر    قانون الانتداب الاستثنائي لخريجي التعليم العالي ممن طالت بطالتهم يدخل حيز التنفيذ    عاجل/ بعد ما راج عن تعرض المنشأة بالمدخل الجنوبي للعاصمة لضرر..وزراة التجهيز تكشف وتوضح..    القصرين: تحديد موعد رحلة ذهاب حجيج الجهة إلى البقاع المقدّسة    مدرّب الجزائر: ''هؤلاء أبرز المرشحين للفوز بكأس أمم افريقيا''    نزول كميات من الأمطار على أغلب مناطق البلاد خلال ال24 ساعة الماضية    وفاة أب أثناء حفل زفاف ابنه بالقصبة: شنيا الحكاية؟    تعرف شنو يصير ليلة 24 ديسمبر؟    دعاء السنة الجديدة لنفسي...أفضل دعاء لاستقبال العام الجديد    القيلولة مفيدة أو مضرة : العلم يحسم الأمر    في تطاوين: اشكاليات الكتابة المسرحية في تونس    سقوط حجارة من صومعة هذا الجامع..#خبر_عاجل    دراسة حديثة تكشف دوافع التونسيين المقيمين بالخارج للعودة والعراقيل التي تحول دون ذلك    كيفاش يتمّ تهريب المخدّرات عن طريق البلع؟...شكون يمارسها وشنوّا الريسك؟    بعد خسارة سوبر كرة السلة: إدارة الإتحاد المنستيري تتظلم لدى الجامعة    قضية إبستين تشتعل.. أسرار جديدة تخرج من الظل    حسام حسن مدرب مصر: قلة التركيز سبب إهدار الفرص أمام زيمبابوي    تونس تحل في المرتبة الرابعة افريقيا ضمن مؤشر ريادة الأعمال الرقمية 2025    وزير النّقل يؤدّي زيارة ميدانيّة إلى ميناء رادس التّجاري    عاجل: فيلم تونسي ''مخدوم بالذكاء الاصناعي'' يصل نهائي مسابقة عالمية في دبي    أيام قرطاج : المخرجون يطالبون بحماية الاستقلالية الفنية فوراً    كان 2025 : ترددات القنوات المجانية لمتابعة كل المباريات    أرقام: قطاع النسيج في تونس يوفر 155 ألف موطن شغل للتوانسة    فيروسات الشتاء: هذه الفئات معنيّة أكثر    كيفاش يعاونك ضوء النهار الطبيعي على ''ضبط مستوى سكر الدم''؟    حولوه لوكر لصنع المخدرات: إيقاف 13 شخصا من بلدان إفريقيا جنوب الصحراء داخل منزل..    بتعريفة استثنائية "9 دنانير فقط": لا تفوتوا الفرجة في الفيلم الحدث "صاحبك راجل2"..التفاصيل..    اضطراب وانقطاع في توزيع مياه الشرب بعدة مناطق من ولاية صفاقس بداية من مساء اليوم الثلاثاء    زلزال يضرب هذه المنطقة..#خبر_عاجل    تذاكر طيران ومكافأة مالية: تفاصيل البرنامج الأمريكي الجديد للمهاجرين غير الشرعيين    الأكبر في العالم.. ترامب يعلن بناء سفينة حربية تحمل اسمه    نيجيريا: مسلحون يخطفون 28 شخصا بينهم نساء وأطفال    اليوم: طقس بارد وأمطار    رقم مفرح: هذا عدد السياح الذين زارو تونس منذ بداية 2025..    عاجل/ تحذيرات عالمية من متحور جديد للانفلونزا..    ترامب.. سنبدأ قريبا عمليات برية في فنزويلا وسنوجه ضربات في أمريكا اللاتينية    مع الشروق : تونس والجزائر، تاريخ يسمو على الفتن    في رجب: أفضل الأدعية اليومية لي لازم تقراها    عاجل/ بسبب "القريب": وزارة الصحة توجه نداء هام للمواطنين..    اليوم: أقصر نهار في العام    برّ الوالدين ..طريق إلى الجنة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الزعيم التونسي الدكتور محمود الماطري من خلال مذكراته
نشر في الحوار نت يوم 02 - 12 - 2010

في باريس التقى الدكتور محمود الماطري بشبان تونسيين كانوا قد قدموا مثله إلى العاصمة الفرنسية لمواصلة تعليمهم العالي من أمثال الحبيب بورقيبة ومحمد بدرة والطاهر صفر والبحري قيقة والهادي نويرة وآخرين. وكان الدكتور محمود الماطري قد تعرّف على الحبيب بورقيبة أيام الدراسة في المدرسة الصادقية، وتحديدا عام 1915.
وهو يصفه خلال لقائه الأول به وهو في العاشرة من عمره قائلا: "كان له عينان لونهما رمادي أخضر، تبدوان واسعتين في وجهه النّحيف". ويثير الدكتور محمود الماطري إلى أن الطفل الحبيب بورقيبة الذي كان مصحوبا دائما بأخيه "سي محمود"، كان "يسلّي" مجالسهم ب"دفق من الثرثرة تتخللها من حين لآخر ملاحظات وأفكار تفوق صغر سنه".
وكان الدكتور محمود الماطري في باريس لما التقى مرة أخرى بالحبيب بورقيبة. حدث ذلك في يوم "شديد الضباب". وفي ذلك الوقت كان الدكتور محمود الماطري يسكن غرفة صغيرة في شارع "بيلبور" "PELLEPORRT" كانت الجريدة الأسبوعية النقابية قد اتخذتها مقرّا لها. وفجأة ظهر الحبيب بورقيبة، وكانت ملامحه "قد تغيّرت عن ملامح المراهق".
وفي نص كتبه، ونشرته جريدة "الاكسيون" في عددها الصادر يوم 4 أوت 1958، روى الدكتور محمود الماطري تفاصيل ذلك اللقاء قائلا: "تعانقنا وتوثقت بيننا منذ ذلك اليوم عرى صداقة خالصة ثابتة لم تمس منها الفوارق بين مزاجينا ولا طول الافتراق المريرة".
عاد الدكتور محمود الماطري من باريس عام 1926 حاصلا على شهادة الدكتوراه في الطب بملاحظة مشرف جدّا. وكانت البلاد التونسية تعيش آنذاك الخيبة المرة التي كانت تعيشها الشعوب المستعمرة "بتفح الميم" بسبب الإخلال الوعود التي كان أطلقها الرئيس الأمريكي ويلسون بعد الحرب الكونية الأولى والتي تقرّ ب"حقّ الشعوب في تقرير مصيرها". وكانت الحركة النقابية التي نشطت على مدى سنة كاملة "1924- 1925" قد تلَقّت ضربة قاسية من قبل السلطات الاستعمارية التي كانت قد أوقفت الزعيم النقابي محمد علي الحامي وجميع رفاقه لتحكم عليهم بالنفي خارج البلاد.
وإجمالا يمكن القول إن الحياة السياسية كانت معطلة، فقد كان الشيخ عبد العزيز الثعالبي مؤسس الحزب الدستوري خارج البلاد، يطوف في بلاد الشرق متعرّفا على أحوالها، وملقيا دروسًا في جامعاتها، ومتحدثا إلى زعمائها، وفقهائها. أما رفاقه الآخرون في الحزب فكانوا يقتصرون على تنظيم اجتماعات لا فائدة ترجى من ورائها.
وفي البداية، اهتمّ الدكتور محمود الماطري بعمله كطبيب راجيا من خلال ذلك اكتساب مكانة في مجتمعه، والتعرف على أحوال البلاد من خلال المرضى، والتزود بما يكفي من التجارب التي يمكن أن تخوّل أن يلعب الأدوار الهامة التي كانت تنتظره.
وآنذاك كان "المستشفى الصادقي" الذي كان قد "ألفه منذ نعومة طفولته" هو الوحيد المؤهل لاقتبال المرضى المسلمين. وكان الدكتور محمود الماطري يرغب في العمل به كطبيب مساعد، غير أن الإدارة الفرنسية لم تستجب لطلبه بحجّة أنه "لا يوجد مكان شاغر". بعدها تعرف على الدكتور شارل نيكول الذي كان آنذاك رئيسا ل"معهد باستور".
وعن لقائه به كتب في "المذكرات" يقول: "ولا أنسى أبدًا الاقتبال الذي خصّني به ذلك العلاّمة الشهير. على أن تلك الشخصية البارزة لم تكن غريبة عنّي. فكثيرا ما سبق لي أن لمحت الدكتور شارل نيكول في عهد طفولتي وهو يعبر ساحة المستشفى الصادقي باحثا عن بعض المرضى قد يستفيد من فحصهم في أبحاثه".
وبمساعدة الدكتور شارل نيكول، تمكن الدكتور محمود الماطري من العمل في "المستشفى الصادقي" حيث تعرف على العديد من الأطباء الفرنسيين البارزين من أمثال الدكتور ارنست كورناي الذي كان مساعدًا للدكتور شارل نيكول.
وقد فتح له هذا الأخير أبواب مصحّته المتخصصة في الأمراض المعدية "على مصرعيها". ومن خلال عمله كطبيب مساعد في "المستشفى الصادقي" تعرف الدكتور محمود الماطري على الأمراض الخطيرة في البلاد التونسية. وبسبب إخلاصه في العمل، وتفانيه في خدمة المرضى، حصل على تقدير زملائه، وعلى احترام المواطنين من جنسيات مختلفة،وأصبحت له بينهم "سمة لا يمكن أن ينازعه فيها منازع سواء من الناحية الأخلاقية أو من الناحية المهنية".
غير أن العمل الجاد والمضني الذي كان يقوم به، لم يمنع الدكتور محمود الماطري من الاهتمام بالأوضاع السياسية في بلاده. ففي عام 1927، دعته اللجنة التنفيذية للحزب الدستوري الذي كان يتابع أعماله منذ أن كان طالبا في فرنسا، لحضور الاجتماع السنوي، فلبّى الدعوة من دون أي تردّد.
لكنه سرعان ما أصيب بالخيبة والإحباط. فقد حضر الاجتماع خمسون شخصا على أقصى تقدير! وكانت الخطب والكلمات التي ألقاها زعماء الحزب الدستوري، أي أحمد الصافي، وصالح فرحات، ومحي الدين القليبي مملّة ورتيبة وخالية من أي حماس وطني. وبعد انقضاء نصف ساعة، انفضّ الاجتماع، وظلّت القاعة فارغة، موحشة. وقد علّق الدكتور محمود الماطري على ذلك قائلا: "فلم أر في ذلك النشاط الضعيف غاية الضعف ما يشجعني على الانضمام إلى ذلك الحزب الموهوم.
وخرجت من ذلك الاجتماع مقتنعًا أكثر من أي وقت مضى بضرورة تكوين نخبة مثقفة عريضة تفي بقيادة الحركة التحريرية، وبما تحتاج إليه تونس الغد من كفاءات".
ولعل "ما تحتاجه تونس من كفاءات" هو الذي دفع بالدكتور محمود الماطري إلى إنشاء لجنة لمساعدة الطلبة التونسيين الذين يواجهون صعوبات مادية ومعنوية لمزاولة دراستهم العليا. وكان ذلك عام 1928. وسوف تكون تلك اللجنة عنصرًا أساسيا في ارتفاع أعداد الطلبة المتوجهين إلى فرنسا لمواصلة دراستهم العليا.
وفي صيف عام 1927، عاد الحبيب بورقيبة إلى تونس مصحوبا بزوجته الفرنسية "ماتيلد" التي سوف تسمى "مفيدة" منذ أن وطأت قدماها أرض البلاد التونسية، وأيضا بابنه الصغير "الحبيب" الذي سوف يشتهر باسم "بيبي". وقد أخذ الدكتور محمود الماطري يتردد على بيت صديقه القديم ليتناقش معه ومع أصدقاء آخرين الأوضاع السياسية في البلاد، محاولين إعداد خطة تضمن النجاح للمعارك التي لا بدّ من خوضها من أجل التحرر والاستقلال.
وكانت أول حركة قام بها الدكتور محمود الماطري والحبيب بورقيبة ورفاقهما الآخرون من الشبان المتحمّسين للنضال الوطني هي معارضتهم للمؤتمر "الافخارستي" الذي انتظم في تونس 1930 والذي كان الهدف الأساسي منه "الدوس على الهوية الوطنية والدينية" للتونسيين، والتأكيد على أن البلاد التونسية "تفرنست" وأصبح أهلها "مستسلمين خاضعين". ومُعلّقًا على النشاط الذي قام به الشبان الوطنيون الجدد، كتب الدكتور محمود الماطري يقول: "لقد كان عددنا صغيرا، لكن الشعب الذي كان خامِلاً لحدّ ذلك التاريخ، بدأ يستيقظ، ويشعر بحاجة إلى قادة جدد. بل حتى الحزب الدستوري بدأ يتحرك من جديد".
بعد المؤتمر "الافخارستي"، تعاظم نشاط الدكتور محمود الماطري ورفاقه. فقد كان الشاذلي خير الله، وهو أحد أعلام النخبة التونسية المستنيرة في ذلك الوقت، يصدر باللغة الفرنسية جريدة أسبوعية أطلق عليها اسم: "صوت التونسي". وكان هدفه من وراء ذلك "إذكاء الروح الوطنية لدى الشباب". وأكثر من مرة طلب الشاذلي خيرة الله من الدكتور محمود الماطري الكتابة في جريدته، فلم يتوفرّ له ذلك.
فقد كان الطبيب الشاب يبتغي أن يحصل على "مكانة أوسع ونفوذ أقوى بين مواطنيه" لكي يكون صوته مسموعًا، ورأيه مأخوذا بعين الاعتبار. لكن بعد أن داهمت الشرطة مقر "لجنة إعانة الطلبة التونسيين" لأن نشاطها لم يرض السلطات الاستعمارية، قرر الدكتور محمود الماطري أن يقتحم السياسة من بابها العريض، فكتب مقالا في "صوت التونسي" ندّد فيه بما قامت به الشرطة الفرنسيّة تجاه "لجنة إعانة الطلبة التونسيين".
فكان لذلك المقال "وقع كبير على القراء". ونفس الشيء حدث بالنسبة للمقالات التي تلته. عندئذ فكر الدكتور محمود الماطري ورفاقه في تحول "صوت التونسي" إلى جريدة يومية. فتمّ لهم ذلك، وصدر العدد الأول من الجريدة المذكورة يوم 16 فيفري 1931. وفي "المذكرات" علّق الدكتور محمود الماطري على ذلك قائلا: "فكان ظهورها- "أي صوت التونسي" بمثابة انفجار أيقظ التونسيين من سباتهم وكدّر راحة الفرنسيين الاستعماريين".
ويضيف الدكتور محمود الماطري قائلا: "وقد تميّزت الجريدة بِنَفَسٍ وأسلوب لم يكونا معهودين من قبل. وكان القراء من تونسيين وفرنسيين على حد السواء، يتخاطفون أعدادها من أيدي الباعة، ويتهافتون على قراءة افتتاحية الشاذلي خير الله الممتازة والمقال الرئيس الذي كان يكتبه كل يوم واحد منا يعالج فيه بدقة متواصلة إحدى أمهات المشاكل: السياسية منها والاجتماعية والاقتصادية والإدارية والعدلية، وغيرها ممّا يهمّ بلادنا "..." فيحق لنا القول إن الحركة الوطنية قد شهدت آنذاك انطلاقة جديدة وحازمة".
وبسبب لهجتها الوطنية الحازمة والمتحمّسة، أثارت جريدة "صوت التونسي" حفيظة السلطات الاستعمارية وغضبها، فقامت بتتبّعها عدليًّا بأمر من المقيم العام الفرنسي "ما نصرون" الذي كان "ضعيف الشخصية" بحسب تعبير الدكتور محمود المارطي. وقد أحدثت تلك التتبعات العدلية "ضجة كبيرة" في البلاد، فباتت الجريدة المذكورة تحظى بتعاطف شعبي لا مثيل له.
غير أن الأحوال سرعان ما ساءت بالنسبة لجريدة "صوت التونسي" على المستوى الداخلي والخارجي، فارتآى الدكتور محمود الماطري ورفاقه تأسيس جريدة جديدة أطلقوا عليها اسم "العمل التونسي". وكانت لجنة تحريرها تتألف من الحبيب بورقيبة والدكتور محمود المارطي ومحمد بورقيبة والبحري قيقة. وقد صدر العدد الأول من هذه الجريدة أول نوفمبر 1932.
وفي ربيع عام 1933 انفجرت "قضية التجنيس" مرة أخرى، فازدادت الأوضاع السياسية سوءا في البلاد. وأمام تصاعد الغضب الشعبي، اختارت السلطات الاستعمارية تعيين مقيم عام جديد يدعى مارسب بيروطون الذي وصل إلى البلاد التونسية يوم 8 أوت 1933 ليجدها في وضع "ينذر بالانفجار". وربما للإطلاع عن كثب على ما كان يدور في تونس من أحداث سياسية وغيرها، دعى المقيم الفرنسي الجديد إلى مكتبه في شهر أكتوبر 1933 وفدا دستوريا ضمّ كل من أحمد الصافي وصالح فرحات ومحي الدين القليبي وعلي بوحاجب والبحري قيقة والمنصف المستيري. بعدها دعا الدكتور محمود الماطري على انفراد ف"قدم له عرضا سريعا عن الوضع" مركزا فيه على "ما يعانيه السكان المسلمون من تردّ اقتصادي متفاقم، وعلى تصاعد التجاوزات الناجمة عن السياسة الاستعمارية المتبعة في البلاد".
ولم تلبث الخلافات أن دبّت بين أبناء الجيل القديم وأبناء الجيل الجديد من الدستوريين، وازدادت استفحالا بعد أن تمّ رفت البحري قيقة من الحزب بدعوى أنه أفشى سرّ المحادثة التي أجراها الوفد الدستوري مع بيروطون. أما الحبيب بورقيبة الذي كان قد قاد وفدا من أهالي المنستير إلى قصر الباي للاحتجاج على ما تعرض له سكان تلك المدنية خلال أحداث أوت 1933 والتي أسفرت عن قتيل وبعض الجرحى، فقد وجّهت له اللجنة التنفيذية للحزب توبيخا الشيء الذي جعله يسارع بتقديم استقالته.
وهكذا بات الباب مفتوحا للقطيعة المنتظرة. وفي الثاني من شهر مارس 1934 انعقد ب"دار أحمد عيّاد" بقصر هلال، مؤتمرا أسفر عن بروز الحزب الحر الدستوري الجديد المنشق عن الحزب القديم، وانتخب الدكتور محمود الماطري رئيسا له. أما الحبيب بورقيبة فقد انتخب كاتب عامًّا.
ولمواجهة الوضع الجديد، اختارت السلطات الاستعمارية سياسة التصعيد. وفي الثالث من سبتمبر 1934، قامت الشرطة باعتقال زعماء الحزب الجديد. وكان الدكتور محمود الماطري واحدًا منهم. وفي البداية تمّ إبعاده إلى "بن قردان" ثم إلى "برج البوف". وبدقة الروائي يصف الدكتور محمود الماطري في مذكراته الأشهر العصيبة التي أمضاها مع رفاقه في الصحراء الموحشة حيث البق والقمّل والعواصف الرملية والأطعمة الرديئة.
كما يروي بالتفصيل ما كان يدور من أحداث يومية، ومن مناقشات سياسية وفلسفية وأدبية، متعرضا لسلوك كل سجين من رفاقه. وبالنسبة له، هو يشير في مذكراته إلى أنه كان مواضبا على مطالعة المجلات الطبية التي كان مشتركا فيها. ولتوسيع معلوماته التاريخية، أقبل على قراءة تاريخ الشعوب العربية الإسلامية، مركزا على تاريخ شمال إفريقيا. وفي "المذكرات" يكتب قائلا: "وقد كنت أخجل قبل ذلك بعض الخجل من كوني أعرف عصر أغسطس أو عصر لويس الرابع عشر أحسن من معرفتي لتاريخ الحفصيين وتاريخ انجلترا أحسن من معرفتي لتاريخ مغربنا الغربي.
فكانت تلك ثغرة واسعة يتعيّن عليّ سدّها دون إضاعة الوقت". وهكذا قرأ مؤلفات ابن خلدون وجرجي زيدان وأحمد أمين "فجر الإسلام وضحى الإسلام" وابن دينار.
كما قرأ "إتحاف" ابن أبي الضياف. وبعناية خاصة درس القرآن الكريم بأكمله مستعينا لفهمه بترجمة من العربية إلى الفرنسية. ومتحدثا عن رفاقه الآخرين، يثير الدكتور محمود الماطري كان يحب أن يقرأ عليهم فقرات من كتاب "الأغاني" أو ينشد بعض الأبيات من أشعار بشار بن برد وأبي نواس والمتنبي وابن رشيق. أما الحبيب بورقيبة فكان مغرما بالشعراء الفرنسيين الكلاسيكيين من أمثال لامارتين والفريد دوفنيييه والفريد دو موسّيه وبالخصوص فيكتور هوغو الذي كان "ينزله منزلة خاصة متميّزة".
ويقول الدكتور محمود الماطري إنه قرأ ورفاقه في "برج البوف" كتاب "MEIN KUMPH" للزعيم الألماني النازي أدولف هيتلر في ترجمة فرنسيّة. وقد دعتهم قراءتهم لهذا الكتاب إلى "تأمّلات مطولة". ويضيف الدكتور محمود الماطري قائلا: "وكان يحدث في أغلب الأحيان أن تجري بيننا مناقشات بشأن بعض مطالعاتنا أو الشخصيات التي تعترضنا فيها. فبخصوص الخلفاء مثلا، كنت أفضّل عمر بن الخطاب، في حين كان الحبيب بورقيبة معجبا بالغا الإعجاب بمعاوية بن أبي سفيان". وبأسلوب فني رفيع المستوى، يصف الدكتور محمود الماطري حياته وحياة رفاقه في "برج البوف" قائلا: "أمّا المناخ فكنا نتحمله بيسر رغم أن الحرارة كانت ابتداء من شهر ماي، كثيرا ما تفوق الأربعين درجة.
وحتى الليالي لم تعد معتدلة الحرارة، فكنا نخرج أفرشتنا من غرفنا كل ليلة لننام في الهواء الطلق. وقد كان ذلك يتسبّب لنا أحيانا في اكتشافات مزعجة، كعثور الواحد منا على جرذون أو عقرب أو حتى ثعبان. بين طيات غطائه. وتلك لعمري اكتشافات من شأنها أن تثير فينا بعض الجزع".
وفي مذكراته، لم يترك الدكتور محمود الماطري كبيرة أو صغيرة إلاّ وتطرق إليها فيما يتعلق ب"برج البوف". فهو يعترف هنا وهناك بلحظات الضعف التي اعترته وهو يفكر في زوجته الشابة، وفي ابنه وابنته الذين تركهما رضيعين. وهو ينقل لنا أن شقيق الحبيب بورقيبة، محمّد بورقية كان غالبا يتضايق من عناد أخيه، ومن مزاجه المتقلب قائلا عنه: "هو- أي الحبيب بورقيبة- رجل عصبيّ متشنّج لا يدري ماذا يفعل. إني أعرفه أكثر منكم جميعًا. فقد رّبيته مثل ابني. إلى متى سنستمرّ بالإقتداء بهذا "المهبول؟".
وكان صالح بن يوسف الوحيد من بين الجماعة، الذي ينام إلى الضحى. فإذا ما حاولوا رفاقه إيقاظه، أجابهم بالشخير. ويقول الدكتور محمود الماطري إنه كان يُفرض عليه غسل أواني الأكل عقابا له على كسله.
وأما الطاهر صفر الذي كاد ذات مرة أن يحترق في الخيمة التي نصبت للمساجين في "برج البوف"، فقد كان، مثل الحبيب بورقيبة، متقلّب المزاج. وبحسب الدكتور محمود الماطري، كان كثيرا "ما يستغرق في مطالعاته أو تخيّلاته، فيندفع أحيانا بحماس في استطرادات فلسفية أو أدبية طويلة". وحده كان البحري قيقة مُتماسكًا، لا يتكلم إلا قليلا بل "يهمس همسًا متكتما بعض التكتم".
وفي مذكراته، يشير الدكتور محمود الماطري إلى أن البحري قيقة كان يميل إلى المناقشات الفلسفية العميقة، وكان "يقوم بانضباط بجميع الأعمال المناطة بعهدته". إلى جانب ذلك كان "يحذق مبادئ فن الطبخ، ويعرف كيف يذبح أو يسلخ الخروف أو الجدي". وهذا ما أثبته لرفاقه في "برج البوف" في عيد الأضحى عند حلوله في شهر مارس 1936.
ولم ينس الدكتور محمود الماطري أن يصف للحظات المؤتمر في "برج البوف". فمرة كان الحبيب بورقيبة يقرأ على رفاقه فقرة من رواية الكاتب الألماني ريمارك التي حملت عنوان: "لا شيء يحدث على الجبهة الغربية"، وإذا به يجهش بالبكاء من شدّة التأثر.
انتهت محنة "برج البوف" عام 1936. وعند عودته إلى بيته في حيّ "السيدة المنّوبية"، استقبل الدكتور محمود الماطري الآلاف من الزوار الذين جاؤوا لتهنئته. وكان عليه "يصافحهم ويعانقهم فردا فرادا حتى الساعة الواحدة صباحا".
وكان الدكتور محمود الماطري من ضمن المناضلين الدستوريين الذين استقبلوا الشيخ عبد العزيز الثعالبي عند عودته إلى تونس أواخر شهر جوان 1937. وكان سعيدا بذلك إذ أنه كان قد تعرف عليه وهو طفل حيث كان الزعيم الشيخ يجتمع بالمناضلين في دكان أحد أعمامه، وهو الشيخ عمار الماطري ب"سوق البركة".
ومحاولاً إصلاح ذات الشأن بين المناضلين الدستوريين القدماء والجدد، أقام الدكتور محمود الماطري مأدبة عشاء في بيته ب"السان جرمان" "الزهراء الآن". في نهاية السهرة أعلمه الشيخ الثعالبي أن "الاتفاق لم يعد بعيد المنال".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.