تمثّل التحركات الاحتجاجية الحالية في سيدي بوزيد ثورة شعبية عن أوضاع متعفّنة، ساهم في تراكمها من نصّبوا أنفسهم ولاّة لأمور البلاد والعباد. اتسمت هذه التحركات في أغلبها بالمطالبة بإيجاد مواطن شغل لمن احترقوا بنار البطالة وما ينجم عنها من فقر وإهدار للكرامة، خاصة بالنسبة لأولئك الذين قضوا سنوات في مقاعد الدراسة، أملهم التحصّل على مورد رزق كريم بعد التّحرّج...عمل يكون بقدر أحلامهم التي بنوها وانتظروها طوال سنوات الدراسة، بما تحمله من متاعب السهر والتنقّل والحرمان، عين على الكرّاس وأخرى على المستقبل... أسئلة تطرح نفسها بإلحاح، هل هذه الاحتجاجات ستكتب لها الاستمرارية ؟ ما هي وسائل النجاح التي توصل هؤلاء الى برّ الأمان ؟ هل بالفعل يمكن أنّ نعتبر هذه الاحتجاجات مقدمة لتغيير شامل، كما ترى بعض الكتابات ؟ إن كانت الإجابة بنعم، السؤال الذي يطرح، هل بالفعل بهؤلاء المحتجين فقط يمكم إحداث ولو ثغرة بسيطة في الجدار للمرور الى موطن الحرية والانعتاق؟؟ أكيد أن الذين ينظرون الى الاوضاع بعين بصيرة آخذة العبرة من أحداث تاريخية مماثلة في تونس أو غيرها من البلدان ستكون إجابتهم بلا، والسبب هو أن آلة القمع ثم أساليب ''المسكنات' التي بدأ النظام يطرحها قد تلعب دورا في تهدئة الاوضاع...خاصة أن المطالب المطروحة هي مطالب فجرتها أوضاع معينة( شاب دهسته آلة البطالة فأحرق نفسه وكانت النقطة التي أفاضت الكأس) مطالب بتوفير موطن شغل ويمكن الالتفاف عليها بطرح مشاريع تنموية عاجلة حتى وان لم تكن بقدر طموحات المحتجين . وهنا تضيع المشكلة الحقيقية التي تعيشها البلاد وهي النهب والسلب المنظم لخيرات البلاد وما نتج عن ذلك من فقر أهم نتائجه حسب بعض المحللين الاقتصاديين اتساع الهوّة بين فئات المجتمع، بين الفقراء والأغنياء بشكل تكاد تغيب فيه الفئة متوسطة الدخل...وهذا ليس حصيلة يوم أو يومين بل هو حصيلة ما زرعته الحكومة عبر عقود ( حتى قبل نظام النكبة النوفمبرية). فكيف يمكن لهذه الاحداث أن تكتب لها الاستمرارية؟ أحداث اليوم في سيدي بوزيد يمكن أن تؤدي الى احدى الاحتمالات الثلاث التالية ( حسب رأيي طبعا). الاوّل وهو ما ذكرته أعلاه وهو الالتفاف على الاحتجاجات اما عبر القمع المفرط الذي يجد المحتج أمامه خاصة مع غياب المساندة من طرف بقية المجتمع وحيدا في الصف فيتسرب اليأس اليه مما يجعله يتراجع. أو كما قلت عبر مسكنات في شكل مشروعات تساهم في امتصاص الغضب خاصة أن الاحتجاجات أخذت زخما اعلاميّا لم يسبق له مثيلا وهذا نقطة نجاح كبيرة تحسب في رصيد هؤلاء المحتجين الذين أفلحوا ومن مناطقهم النائية في ايصال صوتهم الى العالم وفي أهم نشرات الاخبار وعبر أكبر منابر اعلامية عالمية كالجزيرة مثلا والقنوات الفرنسية...وهي تكلفة يدفع فاتورتها النظام... الاحتمال الثاني: وهو حسب رأيي مستبعد،تفجّر الاوضاع الى كل المناطق وتتحوّل المسألة الى نوع من الفوضى والعنف التي قد تستغلها عصابات السرقة المنتشرة داخل المجتمع ، لتقوم بما كانت تقوم به في وضح النهار بعدما كانت تقوم بذلك خلسة متخفية وراء الفوضى التي قد تحرق الجميع....مواطن ينهب المواطن تحت غطاء الثورة في الشوارع ...ولا أستبعد أو شبه أكيد أن بعض المحلات التي طالها التكسير في سيدي بوزيد وراء ها عصابات اندسّت داخل الجماهير الغاضبة لتنهب وتسلب وتشوّه التحرّكات بدون قصد منها... الاحتمال الثالث: استمرار الاحتجاجات على هذه الشاكلة التي أعتبرها الى حدّ الآن احتجاجات سلمية رغم محاولات النظام اليائسة، تلبيسها لبوس الفوضى والتخريب ، كعادته أمام كل تحرك وهي عادة قديمة جديدة لكن ذلك مشروط بعدة عوامل، ما هي تلك العوامل؟ لقد أكدت أغلب الدراسات السياسية والاجتماعية المتخصصة في الثورات والتحركات الاحتجاجية الشعبية ، أكدت الحاجة الماسّة لهذه الأخيرة للتّحالف مع القوى السياسية وعلى رأسها النقابات وقوى المعارضة، حتى يُكتب لهذه الاحتجاجات الاستمرارية من أجل تغيير جدي يعالج جذور المشكلة.... لقد نجحت أغلب الثورات الاجتماعية في العالم بهذه الشاكلة، أي عملية تأطيرها ( الاحتجاجات الشعبية، خاصة العفوية منها )أو لنقل عملية تحالف أو تواصل بينها وبين القوى السياسية حتى لا تحسّ أنها وحدها في السّاحة فتصاب بنوع من الاحباط...كلّ ذلك يساهم في تطوير الاحتجاجات وتنظيمها عبر رسم الأهداف لبلورة مطالب واضحة ومحددة ثم والاهم رسم إستراتيجية تدفع النظام للإحساس بأن بقاء الأوضاع على ما هي عليه فيه تكلفة باهظة على جميع المستويات: الاقتصادية والاجتماعية والسياسية...سعي الحركات الاحتجاجية لرسم خط عمل أو خارطة طريق تعمل من خلالها على رفع تكلفة احتجاجاتها لدى النظام المعني بالامر ان استمرّ في تعنته من خلال رفضه لاصلاح الاوضاع يعدّ من أنجع الوسائل...يسمّي البعض ذلك بقوّة الضغط الناعمة التي تدفع الخصم للتّفكير في الفاتورة التي وضعتها بين يديه القوى الضاغطة التي تقود الاحتجاجات... ان التحرك الفردي بدون التنسيق مع قوى المجتمع المدني وعلى رأسها المعارضة هو السبب الحقيقي وراء ضعف الحركات الاحتجاجية وعدم قدرتها على تحقيق اصلاحات جذرية, وهذه تعدّ حقيقة لا يمكن التّهرّب منها والتّعويل على جناح واحد، يستحيل معه التحليق الى المبتغى ، يد واحدة لا تصفّق...انطلاقا من هذه المعادلة أقول أن أمام المعارضة التونسية تحدّ وضعته أمامها احتجاجات سيدي بوزيد بدون سابق انذار لتبرهن عن حيويتها، لا بل حتى عن وجودها...أتحدث عن وجودها اليوم، موقعها داخل خارطة هذه الاحداث الراهنة.... في أمان الله مريم حمدي