ما يلاحظ اثر الثورة، وخصوصا منذ انتخابات 23 أكتوبر 2011، أنه كلما تنفّس التونسيون الصعداء اثر ملاحظتهم لنزول درجة الاحتقان في البلاد، واستنتاجهم لبوادر انفراج عام في الوضع بخفوت حدة الانفلاتات المختلفة من عمليات نهب وحرق وتعدّ على مقرات السيادة وقطع طريق، إلا ويفاجأون بعودة «بارومتر» الاحتقان و«اللاأمن» الى الصعود مجددا. أي أنه كلما عادت الينا شحنة التفاؤل بغد أفضل، وب«أهليتنا» للحرية والمسؤولية، إلا وتحركت قوى خفية لتفسد علينا حلمنا المشروع. فهل أن هذه القوى هي حقا بقايا من أزلام التجمع المنحل، أو أصحاب مصالح في النظام السابق عموما لا يريدون للبلاد أن تهدأ؟ أم أن الطرفين معا يعملان اليد في اليد لدفع الشعب التونسي الى الندم على قيامه بالثورة والى الحنين للماضي؟ أم إن الأمر يتعلق بمافيات جديدة للفساد والتهريب، استغلت تراجع هيبة الدولة و«سطوتها» واحتلت المساحات المتروكة، ولذلك فمن مصلحتها الحياتية أن تؤخر ما استطاعت عودة الهدوء للبلاد؟ أم هي بكل بساطة عصابات اجرامية استنتجت هي أيضا ضعف سلطة الدولة، ومن مصلحتها أن تبقى الأوضاع متعكرة، فتراها «تدخل على الخط» بمناسبة الاعتصامات أو الاحتجاجات السلمية لممارسة اجرامها؟ إن الاحتمال الأقرب للصواب في غياب معلومات مؤكدة ونتائج تحقيقات معمّقة هو أن كل هذه العوامل مجتمعة، لها دور في ما يحدث حسب ما يعرف بنظرية «جحر الفأر»، التي تفيد أنه لا يكفي قتل الفأر في بيت للتخلص منها نهائيا، بل الأوْلى هو سدّ جحره نهائيا، فبدون ذلك سيأتي فأر جديد في غضون أيام قصيرة ويعمّر الجحر الفارغ، وتتجدد المشكلة الى ما لا نهاية له. ولذلك فإن الدولة مدعوة حاليا الى إعادة احتلال المساحات الفارغة التي تركتها الواحدة بعد الأخرى، ولن يمكنها النجاح في ذلك إلا اذا أبعدت الحسابات السياسية عن كل ما هو أمني بحت، وعن كل ما هو تعدّ على قوانين البلاد، سواء أكان صادرا عن مجموعات منحرفة أو عشائرية أو عقائدية أو «مهنية» أو غيرها. وكفانا من كلمة «المطالب المشروعة» عندما يتعلق الأمر بانحراف وتعدّ على القوانين، فقطع الطريق وعرقلة حرية العمل والتعدي على مقرات السيادة، هو انحراف مهما كان مصدره ومهما كانت دوافعه، ولا يبرره أي مطلب مهني أو اجتماعي، وعلى كل مكونات المعارضة والمنظمات المهنية والنقابية أن تكيّف وسائل عملها ونضالها مع واقع ما بعد الثورة. فلئن كانت كل سبل النضال مشروعة في الماضي ضد نظام لا شرعي، فإنها تتحمل اليوم مسؤولية أخلاقية وتاريخية للمساهمة في الوصول ببلادنا الى بر الأمان، عبر ممارسة المعارضة لدورها كاملا في النقد والانتقاد والدفاع المستميت عن مكاسب الثورة واستحقاقاتها، وممارسة المنظمات المهنية لدورها في الدفاع عن منظوريها بأمانة ومسؤولية، ولكن مع مراعاة مصالح المجموعة الوطنية برمتها والظرف الدقيق الذي نعيشه.