منذ عقود طويلة نظم الشاعر الشاب أبو القاسم الشابي قصيدته الشهيرة "إرادة الحياة" والتي يحفظها تقريبا كل العرب إذ أنها تمكنت من فرض نفسها على صفحات الكتب العربية بكل قوة حتى أنها احتلت الصدارة بين القصائد المتكررة عبر المناهج التعليمية قديمها وجديدها.. واليوم بدأت قصائد الشابي تتألق بشكل كبير خاصة وأنها تحاكي الأحداث والمنعطفات التي تمر بها تونس اليوم بلسان تونسي.. "إذا الشعب يوما أرادا الحياة"، عنوان احتل المركز الأول تقريبا في الكثير من العناوين على الصفحات، أو على الشاشات منذ بزوغ فجر هذا السنة الجديدة.. "إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر ولابد لليل أن ينجلي ولابد للقيد أن ينكسر" .. كلمات قالها أبو القاسم الشابي ابن الخضراء وتغنينا بها جميعا منذ الطفولة ولم نأخذ لها أبعاد فكنا نظنها مجرد كلمات تحفظ وعلينا استظهارها في حصص العربي أمام المعلمة،، لم نكن على علم أن ما يسطره الشاعر لا يكون مجرد كلمات تكتب على الورق لتحفظ فقط بقدر ما هي حالة يعيشها بينه وبين نفسه، أو جهد يمتصه من دمه وأحاسيسه ومشاعره التي تخرج لترتسم على الأوراق كلمات تعبيرية عما يجول في داخله وهذا ما قصده من خلال هذه الأبيات: أنت يا شعر فلذة من فؤادي تتغنى وقطعة من وجودي فيك ما في جوانحي من حنين أبدي إلى صميم الوجود أنت يا شعر صفحة من حياتي أنت يا شعر قصة من وجودي لقد حفظ التوانسة كلماته ووعوها جيدا فصَدَقُوها قولا وفعلا.. وكان الشاب الشهيد "البوعزيزي" هو أول من أعلن تمرده حين سرت بدمه كلمات الشابي: واليوم أحيا مرهق الأعصاب مشبوب الشعور متأجج الإحساس أحفل بالعظيم والحقير تمشي على قلبي الحياة، ويزحف الكون الكبير هذا مصيري ،يا بني الدنيا فما أشقى المصير نعم ، إن تونس اليوم تقولها فعلا من خلال انتفاضتها، من خلال ثورة شعبها.. عبر ذكورها وإناثها.. من خلال هبّتها التي استطاعت أن تدخل التاريخ من أوسع أبوابه ذلك أن تونس اليوم هي الدولة العربية الأولى التي استطاعت أن تزيح عن وجهها وشاح الاستبداد والظلم الذي دام لعقدين أو يزيد، وعلى ما يبدو أنّ الشعب الثائر قد حدد أهدافه والتمس أماكن الضعف وعمل على تنشيطها وأتى في نظره وقت الاسترداد، فقد استبشر الشهاب التونسي والعربي الذي مرّ سريعا الكثير الكثير وتغنّى بهذه اليقظة التي سميت اليوم باسم فاح عطرا وشذى " ثورة الياسمين" وذلك قبل عدّة عقود حين اعتراه الأمل وقال مقدما الدعم المعنوي الذي رافقهم طوال أيامهم:.. إن ذا عصر ظلمة غير أني من وراء الظلام شمت صباحه ضيع الدهر مجد شعبي ولكن سترد الحياة يوما وشاحه هي ذي تونس اليوم تصدق الشابي حين انتفضت وثارت وقالت كلمتها وسمعتها الدنيا بأكملها وسطرت مجدا كبيرا وعظيما.. لقد تألم الشابي كما تألمت الخضراء وأشقاها أيضا ما أشقاه وأرود بلسانه حالهم المعاش على مدى عقدين من الزمن فسبقهم بقوله وكأنه وصف حال الدكتور الصادق المسرّح منذ أشهر قليلة: كلما قام في البلاد خطيب موقظ شعبه يريد صلاحه أخمدوا صوته الإلهي بالعسف، أماتوا صداحه ونواحه ألبسوا روحه قميص اضطهاد فاتك، شائك يرد جماحه وتوخوا طرائق العسف والإرهاق معه، وما توخوا السماحة هكذا المصلحون في كل صوب رشقات الردى إليهم متاحة غير أنا تناوبتنا الرزايا واستباحت حمانا وأي استباحة لقد أبدع الشابي حين نظم أبياته الصادقة ، بحيث أتى على جل هموم شعبه حتى تعداها وكان للغريب الذي أضنته غربته عن نفسه منه النصيب عندما كتب: يا صميم الحياة كما أنا في الد نيا غريب أشقى بغربة نفسي بين قوم لا يفهمون أناشيد فؤادي ولا معاني بؤسي لم أجد في الوجود إلا شقاء سرمديا ولذة مضمحلة وأماني يغرق الدمع أحلا ها ويفني يم الزمان صداها ليتني لم يعانق الفجر أحلا مي ولم يلثم الضياء جفوني
ومع هذا كله كان الأمل يرافق الألم وثمار الحثّ على النهوض أتت أكلها إذ أنه قال الكثير فصدقه أهله ولو بعد حين: خلقت طليقا كطيف النسيم وحرا كنور الضحى في سماه تغرد كالطير بذل القيود وتحني لمن كبلوك الجباه وتسكت في النفس صوت الحياة القوي إذا ما تغنى صداه ألا انهض وسر في سبيل الحياة فمن نام لم تنتظره الحياة لقد شغلت تونس على مدى أيام متتاليات العالم صغارا وكبارا سواء عن طريق الشاشات التلفزية أو الإلكترونية واستحوذت العقول والقلوب حين لقيت التأييد والدعم والتعاطف وإن كان هذا معنويا فقط.. فهنيئا للخضراء هذا الاستحواذ ، ومبارك عليها هذا التغيير المذهل والذي أثار الإعجاب والتقدير لبسالة شعبها، وهنيئا لها عباءة الفخر المنسوجة بخيوط من الصبر والكرامة والشجاعة حين ألقت بها فوق كتفيها الملتهبة من كثرة الجراح والآلام. وسأختم بأبيات للشابي رأيت الشارع التونسي ينبض من خلالها: وأقول للقدر الذي لا ينتهي عن حرب آمالي بكل بلاء لا يطفئ اللهب المؤجح في دمي موج الأسى، وعواصف الأرزاء سأظل أمشي رغم ذلك عازفا قيثارتي، مترنما بغنائي النور في قلبي وبين جوانحي فعلام أخشى السير في الظلماء إن المعاول لا تهدّ مناكبي والنار لا تأتي على أعضائي وسمعته وكأنه يردد هاتفا: ألا أيها الظالم المصعر خده رويدك إن الدهر يبني ويهدم أغرك أن الشعب مغض على قذى لك الويل من يوم به الشر قشعم سيثأر للعز المحطم تاجه رجال إذا جاش الردى فهم وهم هو الحق يبقى راكدا،فإذا طغى بأعماقه السخط العصوف يدمدم