توالت الأحداث وتتالت، لكن الوجوه ثابتة والأسماء لا تتغير، نزعوا جلودهم وغيّروا أقنعتهم وتنصّلوا من أصلوهم وتعالت أصواتهم مدوّية بأنهم يقاطعون الماضي ويرمون بالدكتاتورية إلى الدرك الأسفل من نار جهنّم. غيّروا نبرة أصواتهم وجعلوها أقرب إلى التوسّل منها إلى الحوار لكنهم نسوا أمرا مهمّا جدّا هو أن الدماء التي تجري في عروقهم لا تزال شاهدا على العصر، عصر الطغيان والمذابح والإنتهاكات والإغتصاب ففاحت منهم رائحة الدماء وشهدت عروقهم بما فعلت أيديهم وما قالت ألسنتهم ورأت أعينهم من ظلم فتغافلوا عنه. غيّرتم كل شيء ولكن هل ستغيّرون دماءكم؟ تدافعوا إلى المناصب فمروا على جثث الشهداء وغرقت أرجلهم في الدماء، فتعالت الأصوات مطالبة برحيلهم كما طالبت من قبل برحيل رئيسهم، لكنهم تضاهروا بأن الأصوات تنادي بأسماء غير أسمائهم. فوعدوا وأقسموا وتوسّلوا ثانية أن يبقوا على مناصبهم. الأمر الذي يحيّرني هو: عندما تخرج شعوب الغرب مطالبة برحيل رمز سياسي فما يكون عليه إلا أن يحفظ ماء وجهه ويرحل قبل أن يرحّل ويتنازل قبل أن يقلب به المقعد، لما لا يحصل هذا في حكوماتنا، ألا يعرفون معنى حفظ ماء الوجه؟ لما يجب أن تبحّ الأصوات وتنهك الأجسام وتراق الدماء ويعذّب الأبرياء قبل أن يسقط الطاغية من برجه. إليك سيّدي الغنّوشي أتوجّه بهذه الرسالة، إرحل عن صدر شعبي الذي جثمت فوقه لسنين طوال، ربّما أنت بريء من كل ما حصل ولم تكن لك يد في كل الدماء التي سالت لكن عيناك رأت ولسانك سكت والساكت عن الحق شيطان أخرس. ارحل قبل فوات الأوان ولا تنسى أن تأخذ معك الشيخ الطاعن في السن فؤاد المبزّع الذي تقدّم به العمر فلم يعد يسمع جيّدا ولا حتّى يرى المنفذ الذي يؤدي إلى خارج الحكومة، قل لصديقك "المبزّع" أنّ الأوان قد حان ليلملم نفسه ويرحل، فالشعب لا يريد رموزا تذكره بالماضي الأسود. لا نريد بعد كل ما حصل أن تكون من يكوّن حكومة وحدتنا الوطنية فتقطف ثمارها قبل الأوان وترمى في المزابل لأنها لا تصلح لشيء. الشعب الذي قاد الثورة من حقه أن يختار لنفسه رموز المستقبل، فليس من حقّك أن تضمّ وأن تستثني. لو أنّك أبقيت على عضويتك في حزب التجمّع الدستوري لاحترمتك أكثر لكنك أثبت أنه لا إيمان في كل ما تقوم به وفي الأوساط التي تنضم إليها ما يهمّك هو المنصب لا أكثر ولا أقلّ. أمّا الرسالة التي أتوّجه بها إلى أبناء شعبي فهي: أنتم صنعتم الثورة فلا تسمحوا لأحد بأن يسرقها منكم أو يهرول ليقطف ثمارها قبلكم لكن حذاري من المقاطعة والإستثاء، لا تتبنّوا فكرة "من ليس معي فهو ضدّي". لا تعيدوا كتابة التاريخ بالأسود، إختاروا اللون الذي يناسبكم. تحاوروا وتشاركوا، لا تستثنوا أي حزب من الأحزاب ولا رأي من الآراء، من ليس من حزبي فهو مختلف عنّي ومن إختلافه أستطيع أن أصيغ دروسا وعبرا. إعملوا على بناء تونس الغد كما أردناها بالأمس، فلتكن المصلحة العامة فوق كل إعتبار. دعوا المعارض يكونوا معارضا والنهضوي يكون نهضويّا... لا مجال للأقصاء بعد اليوم وإلاّ فالتاريخ سيعيد نفسه.