رئيس الجمهورية يتسلّم دعوة للمشاركة في القمة العربية    الروائح الكريهة تنتشر في مستشفي قابس بسبب جثث المهاجرين    إغتصاب ومخدّرات.. الإطاحة بعصابة تستدرج الأطفال على "تيك توك"!!    عاجل : معهد الصحافة يقاطع هذه المؤسسة    الترجي يقرّر منع مسؤوليه ولاعبيه من التصريحات الإعلامية    هذه الأغنية التونسية تحتل المركز الثامن ضمن أفضل أغاني القرن 21    التمديد في سنّ التقاعد بالقطاع الخاص يهدف الى توحيد الأنظمة بين العام والخاص    شوقي الطبيب يرفع إضرابه عن الطعام    عاجل/ إستقالة هيثم زنّاد من ادارة ديوان التجارة.. ومرصد رقابة يكشف الأسباب    البنك المركزي يعلن ادراج مؤسستين في قائمة المنخرطين في نظام المقاصة الالكترونية    انتخابات جامعة كرة القدم: قائمة بن تقيّة تستأنف قرار لجنة الانتخابات    تواصل غلق معبر راس جدير واكتظاظ كبير على مستوى معبر ذهيبة وازن    تونس: مرضى السرطان يعانون من نقص الأدوية    لاعب سان جيرمان لوكاس هيرنانديز يغيب عن لقاء اياب نصف نهائي ابطال اوروبا    من بينهم مساجين: تمتيع 500 تلميذ باجراءات استثنائية خلال الباكالوريا    أتلتيكو مدريد يقترب من التعاقد مع لاعب ريال مدريد سيبايوس    الرابطة الأولى: نجم المتلوي يرفع قضية عدلية ضد حكم مواجهة النادي البنزرتي    مدنين: بحّارة جرجيس يقرّرون استئناف نشاط صيد القمبري بعد مراجعة تسعيرة البيع بالجملة    رئيس لجنة الشباب والرياضة : تعديل قانون مكافحة المنشطات ورفع العقوبة وارد جدا    بنزرت: تنفيذ قرارات هدم وإزالة لاسوار واعمدة خرسانية    عاجل/ الشرطة الأمريكية تقتحم جامعة كاليفورنيا وتعتقل أغلب الطلبة المعتصمين    مجددا بعد اسبوعين.. الأمطار تشل الحركة في الإمارات    هام/ الترفيع في أسعار 320 صنفا من الأدوية.. وهذه قيمة الزيادة    عبد المجيد القوبنطيني: " ماهوش وقت نتائج في النجم الساحلي .. لأن هذا الخطر يهدد الفريق " (فيديو)    المغازة العامة تتألق وتزيد رقم معاملاتها ب 7.2%    جبنيانة: الكشف عن ورشة لصنع القوارب البحرية ماالقصة ؟    صفاقس_ساقية الدائر: إخماد حريق بمصنع نجارة.    عين زغوان: حادث مرور يسفر عن وفاة مترجل وبتر ساق آخر    اليوم: جلسة تفاوض بين جامعة الثانوي ووزارة التربية    وزيرة التربية: ''المقاطعة تساوي الإقتطاع...تسالني فلوس نخلّصك تتغيّب نقصّلك''    وزير الشؤون الاجتماعية يزف بشرى لمن يريد الحصول على قرض سكني    وزارة التجارة تنشر حصيلة نشاط المراقبة الاقتصادية خلال الأربعة أشهر الأولى من سنة 2024    الحماية المدنية: 9حالة وفاة و341 إصابة خلال 24ساعة.    حادث مرور قاتل بسيدي بوزيد..    الأساتذة النواب: ندعو رئيس الدولة إلى التدخل    غرفة تجّار لحوم الدواجن: هذه الجهة مسؤولة عن الترفيع في الأسعار    وفاة الروائي الأميركي بول أستر    الحبيب جغام ... وفاء للثقافة والمصدح    وفاة الممثل عبد الله الشاهد    أبرز اهتمامات الصحف التونسية ليوم الخميس 2 ماي 2024    تونس تشهد تنظيم معرضين متخصّصين في "صناعة النفط" و"النقل واللوجستك"    24 ألف وحدة اقتصاديّة تحدث سنويّا.. النسيج المؤسّساتي يتعزّز    يهم التونسيين : حيل منزلية فعالة للتخلص من الناموس    نَذَرْتُ قَلْبِي (ذات يوم أصابته جفوةُ الزّمان فكتب)    مصطفى الفارسي أعطى القصة هوية تونسية    المهرجان الدولي للثقافة والفنون دورة شاعر الشعب محمود بيرم التونسي .. من الحلم إلى الإنجاز    بطولة مدريد المفتوحة للتنس: روبليف يقصي ألكاراز    حالة الطقس ليوم الخميس 02 ماي 2024    محمد بوحوش يكتب .. صرخة لأجل الكتاب وصرختان لأجل الكاتب    عاجل : سحب عصير تفاح شهير من الأسواق العالمية    وفاة حسنة البشارية أيقونة الفن الصحراوي الجزائري    مايكروسوفت تكشف عن أكبر استثمار في تاريخها في ماليزيا    مندوب روسيا لدى الامم المتحدة يدعو إلى التحقيق في مسألة المقابر الجماعية بغزة    طيران الكيان الصهيوني يشن غارات على جنوب لبنان    المرسى.. الاطاحة بمنحرفين يروّجان الأقراص المخدّرة    مدينة العلوم بتونس تنظم سهرة فلكية يوم 18 ماي القادم حول وضعية الكواكب في دورانها حول الشمس    القيروان: إطلاق مشروع "رايت آب" لرفع الوعي لدى الشباب بشأن صحتهم الجنسية والانجابية    يوم 18 ماي: مدينة العلوم تنظّم سهرة فلكية حول وضعية الكواكب في دورانها حول الشّمس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المفترق: مهمة الثورة وشروط نجاحها
نشر في الحوار نت يوم 10 - 03 - 2011


أبو يعرب المرزوقي
ليس من التجني في شيء أن يصف المرء ما يحصل في صفي الثورة من هم لها ومن هم عليها بكونهما واقفين أمام محكمة التاريخ التي لا تحابي أحدا. فاللحظة تاريخية بحق. وليس من التجني كذلك أن نصف من هم للثورة بكونهم قد تراخوا. فهم قد بدوا لي متغاضين عما يجري وسامحين لمن هم عليها أو لنقل على الأقل إنهم إلى حد الآن لم يمنعوهم من الاستبداد بمهام الثورة واستبدالها بنقائضها مهامها الخطيرة التي لا يمكن أن يقوم بها إلا الثوار أنفسهم أعني الشباب فتياته وفتيانه وإن بمساعدة من يختاره الأخلاف من الأسلاف للمساعدة في تجنب عثرات كل الثورات وخاصة إذا كانت قياداتها شابة وفي مقتبل تحصيل التجربة والخبرة بالشأن الإنساني شديد التعقيد وفي ظرف الصراع الداخلي والخارجي المواجه لكل سعي للتحرر والانعتاق:
1-استعمال الشرعية الثورية من قبل من ليس لهم ناقة ولا جمل فيها تنازلا عن اعتبارهم من أعدائها الاعتبار الذي تؤيده كل القرائن فضلا عن ماضي القائمين بهذا الرقص على أوتار الدستور القديم (من 56 إلى 57 إلى 28 إلى إلغاء الدستور جملة وتفصيلا لكأنهم هم من قام بالثورة ويعمل بمنطق الخلق الجديد).
2-والمغالطة في تسمية الحكومة التي توصف بكونها لتصريف الأعمال ثم تكلف بأمور بنيوية وتوصف بكونها فنية ويعين فيها لون سياسي وحيد معلومة خياراته وتوجهاته للجميع فضلا عن تصريح رئيسها بما يسعى إليه سعيا تؤكده المهام الثلاث الموالية.
3- أعني هيأة حماية الثورة (الهيئة المزعومة التي ستغرق السمكة فيها بلعبة تعداد المشاركين والمساواة بين الجميع لكأننا نعدم وسيلة لتقدير أحجام أطراف الطيف السياسي في البلد على الأقل بالاستناد إلى تجربتي الانتخاب اللتين زيفت نتائجهما بعد حصولهما).
4-ولجنة محاسبة الماضي (التي يظنها رئيس الحكومة شرعية لأن مرسوم تعيينها سابق على إيقافها القضائي).
5-ولجنة صوغ المستقبل القانوني والدستوري ومن ثم تحديد خصائص النظام السياسي والقانوني في الجمهورية الحديثة التي ستكون الأولى (لأن جمهوريتي بورقيبة وبن علي لم تكونا جمهوريتين بل دكتاتورية قروسطية).
كيف يمكننا أن نصف سلوك صف الثوار إذا كان ذلك كله يحصل أمام ناظرهم ولا يحركون ساكنا أو كان تحريكه غير مؤثر رغم أن لهم شرعية الثورة وليس للصف المقابل إلا شوائب ما وقعت عليه الثورة لتخليص البلاد منه ؟ هل يوجد وصف آخر غير التقاعس الذي سيحاكمه التاريخ تسليما بأن بعض قياداته لم تكن قد وافقت على ذلك إيجابيا ولم تكتف بقبوله سلبيا بموقف الساكت عليه. والحجج التي يمكن أن تبرر السكوت لا غية حتما لأن الثورة تلغي كل تحفظ وتردد ينتجان عنها:
1- فالحصول على رخصة الوجود السياسي القانوني لا يتطلب دفع أي ثمن لمن بيدهم مقاليد الأمور وهم لا قانونية لوجودهم فضلا عن عدم الشرعية: ينبغي أن يعلم الجميع إن صح مثل هذا الفرض أنهم لا يدينون بهذا الحق لأحد غير الثورة وأن حق العمل السياسي العلني ليس منة من أحد وعليهم إذن ألا يتنازلوا عن الإصداع بالرأي والقيام بالواجب لحماية الثورة من منظورهم دون خوف ولا وجل.
2- والحرص على نزع حجة الفزاعة الإسلاموية أو النزعة الوطنية الاستقلالية سواء كانت قومية أو يسارية أو ليبرالية نزعها من يد خصوم الثورة وخدم المستعمر القديم لتجنب الابتزاز الاقتصادي من أوروبا كل ذلك لم يعد ذا معنى. فالغرب لن يتنازل عن هذا الموقف ما لم يتأكد أنه ليس له من بديل عن الثوار ومن يمثل الثورة وأنه لا مفر من التعامل مع هؤلاء خاصة وهو قد يئس من أولئك بسبب فشلهم في ما يريده منهم: أن يخدموه بظاهر من الشرعية فلا يكلفوه التناقض الصريح مع ما يزعمه من مبادئ فضلا عن الزج به في حروب لم يعد أبناؤه يطيقونها بعد أن صاروا عبيد الدنيا.
3-والخوف من انقلاب الشعب على الثورة بسبب ما ينتج من اجتماع الحجتين السابقتين من ترجمة بمنطق الابتزاز الاقتصادي. فالشعب الذي قدم النفس لا يمكن أن يبخل بالنفيس. لن يستسلم أمام هذا الابتزاز إلا أعداء الثورة. أما الشعب فلا يمكن إلا أن يختار الاستقلال وشد الأحزمة المؤقت لتغيير نهجه الاقتصادي الهش ويرفض البحبوحة الوهمية المشروطة بأن يبقى البلد مجرد سوق استهلاك وباحة مستباحة لاستجمام المتقاعدين الأوروبيين الذين يباع لهم الدينار بأقل من عشر قيمته في سياحة التسول التونسية (يقضي السائح أسبوعا بمائة يورو في بلدنا بما في ذلك كلفة نقله جئية وذهابا إلى الوطن مع تجواله في ربوعه).
4-والحجة الأخيرة هي عسر المهمة أو بصورة أدق عدم تحددها لأن الثورة كانت عفوية وقاعدية وعديمة القيادة كما يدعي الخصوم. وهذه الحجة التي يروج لها الجميع زيفناها سابقا لكننا لم نبين مضمونها الموجب. ومن ثم فعلينا أن نتساءل بوضوح وصراحة عن قيمة هذه الدعاوى ضد الثورة: فهل كونها عفوية وقاعدية وعديمة الزعامات المتمرسة يعني أنها ليست محددة الأهداف والمهمة بل والرسالة بحيث يعسر على صف الثورة من القوى السياسية والاجتماعية الوطنية أيا كان خيارها القيمي أن يتكلم باسمها أو أن ينضوي تحت رايتها ؟
مضمون حجج خصوم الثورة
ذلك هو السؤال الذي أريد أن أجيب عنه جوابا صريحا وواضحا من منطلق تأويلي لما شاهدته من رموز في أفعال الشباب الثورية دون أن أدعي الكلام باسمهم عل ذلك يساعد على تحرير مدار النقاش مما ينصب له من أفخاخ يبعد الثوار عن التحديات الحقيقية ويخرجهم من التردد والاسترخاء لئلا ننتقل من السجال السلمي في المعركة الانتخابية إلى الصدام غير السلمي لا قدر الله مع من هم على الثورة. ولكني سأقدم عليه بيان الدعوى التالية حول مضمون حجج خصوم الثورة الأساسية مضمونها الذي لم تتغير حتى وإن تغير أسلوب حجاجهم. ويمكن رد كل الحجج التي يستند إليها الخطاب الذي يتبناه خصوم الثورة حتى من حسنت نواياه منهم إزاء الوطن وحضارته تقبل الرد إلى حجتين لا ثالثة لهما:
أولاهما سياسية تربوية تقبل الصوغ من وجهين هما خيار التحديث مضمونا وخيار الديموقراطية شكلا
والثانية اقتصادية ثقافية تقبل الصوغ من وجهين كذلك هما خيار الاندماج الاقتصادي في العالم المتقدم مضمونا وخيار الانفتاح الثقافي في عصر العولمة شكلا.
تلكما هما الحجتان. فلننظر فيهما هل هما كافيتان لتتحولا إلى معاداة الثورة والعودة إلى ما سبق حتى لو كان ما تقدم على قوسي ابن علي بعقديهما ؟ لن أطيل الكلام في هاتين الحجتين لأنهما واهيتان. فهما حجتان كان يمكن أن تسمعا لو كان الثوار من جيل بداية اللقاء بالغرب أعني في النصف الثاني من القرن التاسع عشر أو حتى في النصف الأول من القرن العشرين. حينها كانت النخب الممثلة للأصالة التي من جنس من ثوار اليوم تراها منافية للتحديث والديموقراطية. فكانت المقابلة "تحديث-أصالة" والمقابلة "ديموقراطية حكم إسلامي" ذاتي معنى لأنهما كانتا توضعان في مناخ الجهل التام بقيم الغرب وبقيم الإسلام في آن ومن كلتا النخبتين التي للأصالة والحكم الإسلامي وعلى الحداثة الحكم الديموقراطي والتي للحداثة والحكم الديموقراطي وعلى الأصالة والحكم الإسلامي.
لكن المعطيات تغيرت جذريا
فماء غزير جرى تحت جسور النخب بصنفيها. والغريب أن الجهل الذي تكلمنا عليه والذي كان يتقاسمه كلا الصفين مع غلبة الجهل بالحداثة على النخب العربية الإسلامية التي من جنس ما يعبر عنه ثوار اليوم وغلبة الجهل بالأصالة على النخب المتأوربة التي من جنس ما يعارض الثورة اليوم. إن هذا الجهل انقلب فأصبح ممثلو حضارة الغرب أجهل الناس بها لأن خطابهم التحديثي تبين منحصرا في قشور الحداثة. وصار ممثلو حضارة الإسلام أعلم بها منهم لأن خطابهم التأصيلي لم يبق مقصورا على قشور الأصالة بل هو أدرك المشترك بين القيم في الحضارتين فتجاوز الخصوصي المنافي للكلية وجمع بين قيم العقل وقيم النقل. ومن ثم فالنخب الأصيلة خرجت من مأزق الثنائيات بفضل ما حدث في النصف الثاني من القرن العشرين: فالصدام بين الاستبداد والفساد خلص الصادقين من هذه النخبة (ومعهم البعض من تلك) من هذا التجاهل المتبادل بين الحضارتين بل إن الكثير من نخب الغرب نفسه أدركوا صلاته الوثيقة مع الشرق والعكس بالعكس فأصبحنا في لحظة من التاريخ الكوني لم يعد فيها الكلام على هذه المقابلات السطحية ممكنا وباتت البدائل منها هي:
1-فبدلا من الكلام على المقابلة "حداثة-أصالة" الكلام الذي لم نعد نسمعه إلا من أفواه من يحتاج إليه شعارا لمؤخرة جيش المحافظين على ثقافة الاستبداد والفساد أصبح الكلام الوجيه الذي يقول به أصحاب الثورة المتهمة بكونها عفوية بمعنى كونها غير واعية بأهدافها هو: كيف التخلص من الحداثة والأصالة الشوهاوين للانتقال إلى الحداثة الأصيلة التي هي عينها الأصالة الحديثة أعني التطابق الأكيد بين حقوق الإنسان ومقاصد كل شرع لا تتنافر قيمه مع قيم العقل: فالشرع والعقل كلاهما يسعى إلى الحقيقة ويريد تحقيقها وهو معنى التواصي بالحق والتواصي بالصبر.
2-وبدلا من المقابلة "ديموقراطية-حكم إسلامي" الكلام الذي لم نعد نسمعه إلا من أفواه من يحتاج إليه شعارا لنفس المؤخرة التي تعلم أنها قد هزمت وتحاول لملمة صفوفها أصبح الكلام الوجيه الذي يقول به أصحاب الثورة التي تتهم بكونها بلا قيادة بمعنى أنها فوضوية هو عينه ما لأجله سعى أجدادنا لتحرير هذه الأوطان من الأوثان أولا ثم من الاستعمار ثانيا.
وتلك هي العلة في اعتبارنا أهداف الثورة هي عينها المبادئ الخمسة التي تضمنها البند الأول من الدستور السابق والذي يريد المحافظون على هاتين المقابلتين ليجعلاهما موضوع الجدل في الحملة الانتخابية شعارين لمؤخرة جيش التبعية وحزب فرنسا: أعني دولة حرة مستقلة (الوجه السياسي والاقتصادي أعني البعد الفعلي من كل قيام لذات حضارية بمادته وصورته) دينها الإسلام ولغتها العربية (الوجه التربوي والثقافي أعني البعد الرمزي من كل قيام لذات حضارية بمادته وصورته).
رسالة الثورة
عالي المطالب لتوحيد قوى الخير والمحبة
قد يجادل الكثير في دعواي الترجمان عن مطالب شباب الثورة فتياته وفتيانه مطالبهم العالية اعتمادا على تأويل أفعالهم. ألم يثوروا دون استشارة أحد وبصورة عفوية؟ فكيف للترجمان أن يفعل دون تحكم؟ لكن ماذا لو وجد الترجمان في تعبير الشباب وشعاراته الشابية (نسبة إلى أبي القاسم) ما يمكن من التأويل الأرجح لخطابهم؟ لست أنكر أن فعل الشباب متلعثم بالطبع. لكن عنفوان الشباب من جنس النار المقدسة: فلهيبه يقذف بالشرر الذي يمكن أن نقتبس من بعض قرائنه ما نأنس منه بردا وسلاما على مستقبل الوطن فنتمكن من ترجمته ترجمة تكون في الأغلب معبرة بحق عن أعمق ما في أعماق هذا الشعب كما يتبين من شعار أبي القاسم وصلته بالقرآن الكريم صلته التي بينا.
ولعل أهم الرموز التي نستوحي منها تأويلنا بالإضافة إلى دلالة الشعارات هو منطلق الثورة المكاني (من أعمق أعماق الوطن) والزماني (عودة الاستعمار إلى كل الأرض العربية كما ترمز إلى ذلك عودة القواعد العسكرية) السلمي (الطبقة الوسطى) ونسبته إلى الدورة المادية (بلوغ الاستغلال الفاحش للثروة العربية غاية الفحش) والرمزية (استبداد المستلبين بالقيادة الروحية في التربية والثقافة) في ما صار عليه المجتمع التونسي يجعلنا نقدم على مثل هذا التأويل دون خوف من الإجحاف في حق الثورة.
فالثورة انطلقت من طبقات المجتمع الدنيا طبقاته التي لم تتخل عن مقومي الهوية ولم يشبها من الاستبداد والفساد ما تظنه الطبقات الفاسدة فوائد خلطا بين مصالحها ومصالح الوطن بحيث صارت الحداثة والديموقراطية عندها النظام الذي يؤبد سلطانها على هذه الطبقات التي تريد تحقيق الحرية والاستقلال وقيم الإسلام وشكل التعبير عن وجودها بلسان قومها. لذلك جمعنا كل هذه المطالب العالية في الثمرة الأولى التي بدأ بها دستور ثورة التحرير الأولى لتكون مضمون تحقيقها الفعلي لا مجرد كتابتها في الدستور على شكل صار أعداؤها يسعون حتى لمحوه منه غير مكتفين من محوها في ممارستهم طيلة العقود الخمسة التي نابوا فيها الاستعمار في مهمة محو الكيان المستقل للشعب التونسي:
أولا: المقوم الفعلي لقيام الذات الحضارية أعني لصورة العمران البشري والاجتماع الإنساني ومادتهما بلغة ابن خلدون أو للحداثة الأصيلة التي هي حداثة دائمة أي إنها دائمة التحديث والتجديد الذاتيين وهو معنى كونها حية:
1-فالحرية ذات بعدين مقومين للوجود الإنساني الخُلقي الفردي والجمعي وهما مقومان لا يمكن أن يختلف حولها الطيف الرباعي الذي وصفنا أعني اليساري والليبرالي والقومي والإسلامي: أ-بعد داخلي هو معنى المواطنة ب-وبعد خارجي هو معنى الوطن ذي القيام المتفرد.
2-والاستقلال ذو بعدين مقومين للوجود الإنساني الخِلقي الفردي والجمعي وهما كذلك مما يسهل أن يحصل حولهما الإجماع بين عناصر نفس الطيف: أ-بعد داخلي هو تحرر المواطن من الحاجة المادية ب-وتحرر الوطن من التبعية الاقتصادية.
ثانيا المقوم الرمزي لقيام الذات الحضارية أعني المقوم الرمزي لصورة العمران البشري والاجتماع الإنساني ولمادتهما بنفس اللغة الخلدونية أو للأصالة الحديثة التي هي حداثة دائمة التجذير في مصادر الذات ومنابعها الحية على الدوام بما فيها من قيم خالدة:
1-والإسلام ذو بعدين هما:
أ- حرية المعتقد للجميع (لأن الإسلام هو أول دين يشترط في إسلام المسلم الاعتراف بكل الأديان بل يعتبر من ذمة الدولة حماية الأقليات الدينية وتمكينهم من ممارسة شعائرهم بل والاحتكام على شرائعهم). وذلك ما يمكن أن يخلصنا من المقابلة الزائفة بين العلماني غير المعادي للأديان والإسلامي غير المعادي لحرية الفكر لأن حرية المعتقد تتنافى وفرض وحدة الشرائع في الدولة الواحدة توحيدها الذي ينفيه القرآن نفسه كما هو بين من سورة المائدة كلها.
ب-وتقديم الإسلام بالتي هي أحسن لمن يريد أن يسمو إلى كلية الأخوة البشرية بمعنى قوله جل من قائل: "إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم" علما وأن بقاءه غاية مطلوبة يفهمنا القصد القرآني بكون التنافس في الخيرات مشروطا بتعدد الشرعات والمنهاجات (المائدة 48). وغير الإسلامي يقدم فكره بنفس المنهج ولن يعترض عليه أحد خاصة إذا تحرر من الاستناد إلى دكتاتورية الفساد والاستبداد الدكتاتورية التي كان يظنها حامية له مما يتوهمه خطر الإسلاميين فكان أن عاش جامعا بين وهم الاستبداد الممكن وحقيقة الاستبداد الحاصل.
2- والعربية ذات بعدين هما:
أ -هوية كل عربي بالمولد مسلما كان أو غير مسلم: وبذلك نتخلص من الطائفية العقدية التي ولدت الصراع بين الإسلامي والقومي.
ب-وهوية كل من تكلمها بالاختيار الشخصي سواء كان مسلما أو لم يكن, ومن ثم فهي المحدد الأساسي للهوية الحضارية فضلا عما لها من صلة بالإسلام باعتبارها لغة التعبد ولسان القرآن الكريم: وبذلك نتخلص من الطائفية الثقافية التي ولدت الصراع بين قوميات الأمة في حين أنها تعايشت قرونا دون حرب بين العربي والتركي والفارسي والأمازيغي إلخ...
وزبدة القول إنه ليس بمحض الصدفة أن كانت هذه المهام التي تمثل برنامج عمل الثورة الممكن لكونها كما أسلفنا عالي المطالب التي نبعت من أعماق الشعب الثائر على وخيم نتائج الحرب عليها أعني التهميش والبطالة والاحتقار وتعالي النخب التي نابت الاستعمار الأجنبي في مواصلة أهدافه المنافية لهذه القيم. ليس من الصدفة أنها تمثل عين حقوق الإنسان بأجيالها الثلاثة السياسية والاجتماعية والثقافية عند الكلام عليها في الإطار الداخلي لكل دولة ونفس هذه الحقوق بالقياس إلى الإطار الدولي العالمي مع ما يترتب عليها من ضرورة المشاركة الندية في تحديد مصير العالم ونظامه في عصر العولمة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.