الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي !!! ؟؟؟ نصرالدين السويلمي "الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي" يحتوي هذا الاسم على جملة من المفردات النبيلة والعبارات التي تحيلنا إلى منشود تونس وحلمها التاريخي في ملك إرادتها وصنع مصيرها، ذلك المنشود الذي دفع من أجله الشعب النفس والنفيس وطاله بسببه ومن أجل إدراكه مختلف صنوف التنكيل والابتزاز والتشريد..غير أن هذا الاسم الرشيق لم يعد بإمكانه اليوم أن يجتاح الحالة التونسية دون أن يفصح عن كنهه، لأنّ مسيرة التحرر وكلفتها الباهظة الموجعة يضاف إليها نصف قرن من التصحّر والاستعباد والتنكيل.. كل هذه العوامل وأخرى غيرها حصّنت الشعب ضد الكلمات الأنيقة لعلمه المسبق أنّها قد تكون حاملة في رحمها لخصائص الدمار، ففي تونس فقدت الكثير من العبارات الجميلة مدلولاتها منذ استعارها جهاز الموت وتستر بها فتفتحت علينا في شكل بديع كان أحلاها مسمى "الحزب الإشتراكي الدستوري" حتى إذا استأنسنا أطلق علينا روائحا فاكتشفنا أنها ليست بالشذا أو العبير بل كانت كلور وفسفور وخردل، ثم كان "التجمع الدستوري الديمقراطي" الذي استعار عبارات أنقى وأطهر من عبارات سلفه فأنتجت جرائم أفظع وأقسى، حيث يبدو أنه وكل ما كانت الكلمات التي يستعملها الطغاة أجمل كانت بذور الشر والحقد فيها أكثر خصوبة.. وتداعت على تونس العبارات الساحرة التي هي أقرب إلى الرحمة والأنس والبلسم ، فكانت جمعية بسمة وسلامة أمن الدولة والإرشادات والإستعلامات وصناديق التكافل ...عبارات تكاد تنازع عنترة في عبلاه، وتنتزع ولادة من ابن زيدون.. عبارات ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب.
لذلك وبما أنّ المجموعة الوطنية تحاول القطع مع الماضي وتسعى لإنتاج حياة إجتماعية وسياسية وفكرية سليمة عليها أن تبتعد عن الاحتضان المتسرع للهياكل، وعليها أن تجسّها بحذر وتنفذ إلى عمقها قبل تزكيتها والانصراف إلى التفاعل الإيجابي معها، ذلك لأنّه وبعد استدعاء الحدّ الأدنى من المعقول ثم بعد معاينة مكوناتها اتضح أنّ الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة تعاني من خلل فظيع في تركيبتها سنسلم متسلحين بالنيّة الطيبة بأنّه غير مقصود وغير ممنهج ولا هو مبيت..
يتجلى هذا الخلل في عدّة نقاط لعل أهمها عملية الإستثناء السافرة والغير مبررة للجمعيات والهياكل التي تعمل خارج البلاد والتي أسهمت في تعرية الأسرة الحاكمة نظرا لمرونتها في التحرك بما أنها خارج سيطرة الجنرال السفاح وبعيدا عن أنيابه، وإن كانت الهيئة قد طُعّمت بجمعية أو اثنتين من المهجر إلا أنّ العشرات من الجمعيات الأخرى المهاجرة والمهجرة قد وقع تجاهلها رغم ما قامت به من مجهودات عدّة لعل أهمها تعرية جرائم العهد البائد في المحافل الدولية ولدى منظمات المجتمع المدني في الكثير من بقاع العالم، أمّا الأمر الذي فتح أبواب الاستغراب على مصراعيها هو تلك الشخصيات الوطنية التي ضمّتها الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والتي لم يراعَ في اختيارها مطلب التوازن الملح الذي يعتبر صمام أمان لكل مجهود يسعى لتثبيت الثورة وصيانتها .
لقد أفرزت عملية الإنتقاء هذه كفة مختلة عرجاء لا يمكنها بحال أن تسهم في تمتين الحزام الواقي الذي شكله الشعب بمعية نخبه لحماية الثورة، كما أنّ الشخصيات الوطنية الملحقة بالهيئة والتي تكاد تنحدر من عائلة فكرية واحدة تكون قد أنتجتها عقلية مستعجلة تريد أن تقوم بانتقال مشوش من تنمية رصيد الثورة إلى امتصاص عائداتها وهذا الأسلوب الملتوي في التعاطي مع شركاء الخارطة السياسية والفكرية من شأنه أن يزرع الشك والريبة ويطلق تجاذبات جد مبكرة قد تعود بالسلب على ثورة هي في مراحل نقاهتها الأولى وهي بصدد لملمة شروطها ومازالت لم تنزع عنها جميع ضماداتها بعد. وحتى نسهم في تقديم هذه الثورة كنموذجا للعالم وتكون مفخرة لنا وللأجيال اللاحقة، علينا أن نتسلح بالحوار والصراحة والوضوح وكما أدنا بشدّة محاولات الالتفاف على الثورة علينا أن ندين وبدون تردد أي محاولة للالتفاف على خيارات الشعب كما علينا أن لا نصنع مصير البلاد في الدكاكين المظلمة ونسربه من الأبواب الخلفية.. اليوم اليوم وليس الغد على النخب بجميع مشاربها أن تكف عن إنشاء ورش خلف ظهر الشعب والهرولة لاحتلال المداخل والمخارج وإنشاء نقاط التفتيش ورجم الشعب بسياسة الأمر الواقع وعليها أن تنزل إلى الجماهير تعرض عليهم أفكارها تفحصها أعين الشعب وتبخرها أنفاسه يمدحها ويهجوها ، يقرّها ويلغيها كما يشاء ، ومن حق شعبنا أن يطمئن إلى أنّ الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي تعكس فعليا جميع مكوناته وشرائحه كما من حقه أن يتمتع بتعريف ولو موجز عن ماهيّة الشخصية الوطنية ليتسنى له معرفة القاعدة التي على أساسها اختيرت الشخصيات الوطنية التي تعد أحد أهم مكونات الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والتي من المرتقب أن تكون واسعة التأثير في القرارات التي ستنبثق عن هذه اللجنة.
لقد علمتنا حركة التاريخ أنّ النخب الواعية والشخصيات الوطنية الصادقة هي تلك التي تسير في ركاب شعبها متناغمة مع مطالبه متصالحة مع هويته تنظم حركة سيره نحو أهدافه وآماله، أمّا النخب الفاشلة والشخصيات الانتهازية فهي تلك التي تمارس الوصاية على شعبها وتنزع عنه صفة الرشد والوعي وتنط أمامه إلى قمرات القيادة ثم تقيله وتنوب عنه في ممارسة حقوقه بالطريقة التي ارتأتها وأضمرتها... وهي التي تكثف المتاريس والعراقيل والحواجز في وحول طرق الشعب السيارة لتضطره إلى أزقة أنشأتها هي، ليست وجهته ولا هي على مقياسه.. وسوف تنتهي إلى موات كل تلك النخيبات التي تفزعها وجهة الجماهير والتي فشلت وماطلت في تعديل بوصلتها على قبلة شعبها .
وليعلم الجميع أنّ هذا الشعب أبقى من نخبه وعطائه أغزر من عطائها مهما عظم شأنها سواء كانت تلك النخب التي ولدت إثر إذاعة خبر نزول طائرة المخلوع في جدة والتأكد من ذلك تأكدا لا يتطرق إليه الشك أو تلك التي ولدت قديما من رحمه وجاعت لجوعه وتألمت لألمه ودفنت شهداءها في مقابره بعد أنّ صلّت عليهم في مساجده.