الأستاذ : فاضل دربال سؤال الضمانات : الخلفيّة و التبعات خلفيّة السؤال
يطرح السؤال عادة لطلب معلومة أو حقيقة كثيرا ما تكون غائبة و هو أوّل مرحلة في مسار علميّ ناتج عن إشكال في الواقع أو مأزق في مستوى الفكر أو رغبة في استشراف المستقبل . قد يكون طرح السّؤال بريئا إذا ارتكز على إحدى هذه الفرضيّات ولكنّه يكون سؤالا عبثيّا إذا لم يستجب لطلب واقعيّ أو اشكال فكريّ أو رغبة استشرافيّة على أنّ الإستشراف غرضه البناء لا الهدم و إعداد الخطط للتأسيس لا إعدادها للتراجع و الإرتكاس. إنّ طرح السؤال يفرض علينا تمشّيا علميّا واضح الأهداف فإذا توصّل إلى تحقيقها ثبتت مشروعيّة السؤال و إذا لم يتوصّل إليها يوسم السؤال عندئذ بأنه لا يشكّل قضيّة و في هذه الحالة يصبح السؤال نزعة إلى التشكيك و السفسطة باعتبار أنّه لا يتجاوز السّجال . يذكّرنا هذا السّؤال ( ما الضّمانة ؟ ) بالإشكال القائم دائما بين المؤمنين و غير المؤمنين حول سؤال الغيب و هو سؤال ميتافيزيقي لا يمكن البرهنة عليه و سؤال الضمانات هو نفسه يدخل في باب الميتافيزيقا التي لا يمكن البرهنة عليها إلّا بفرضيّة الإيمان و الّذي يطرح هذا السؤال ليس علىدرجة من البراءة و العفاف . يمكن القول إذا أن الآفاق العلميّة للسؤال محدودة و إنّما هو ذو طابع تشكيكيّ ريبيّ مغالط و يصحّ هذا القول بالنّظر إلى الطابع التضخيمي الذي رافقه و المنحى التجييشي الّذي اتّخذه و البعد التضليليّ الذي يرمي إليه و هو ما ظهر جليّا من خلال وسائل الإعلام و الإتّصال من تلفزة و إذاعة و انترنت و جرائد ثمّ سرى في المجتمع في المقاهي و المنتديات . و إذا سلّمنا بأنّ السؤال تجاوز دائرة البحث إلى دائرة التشكيك و الريب فلعلّه من الواجب أن ننظر في المقصود بهذا التشكيك . إنّ المقصود بالتشكيك أوّلا هو المجتمع الّذي تعتبره النّخب قاصرا و عاجزا إذ هو بؤرة التخلّف و الرّجعيّة و هي فكرة لم تتخلّ عنها هذه النخب رغم الهزائم الّتي منيت بها من الخارج (هزيمة 67) و من الداخل (الثورات العربيّة التي يقودها الشباب و المعدمون و الطبقة الوسطى المتضرّرة من الإستبداد و الفساد) و لم تكن انتصارات 2006 في لبنان و 2008 في فلسطين قادرة على أن تخلد النخب العربيّة إلى الأرض و إلى الجماهير لتفهم طموحاته و تشوّفه بل استمرّت في غيّها تعتبر نفسها فوق النّقد و فوق التّقويم و إذا كانت قد عبّرت بحسن نيّة أو بسوء طويّة عن أنّ الشباب قد فاقها في الدّيناميكيّة و التحرّك و حسن قراءة الأحداث فإنّها سرعان ما تراجعت عن هذا التصريح لتعتبر نفسها وصيّة عليه و أنها المخوّلة للتحدّث باسمه فهي قد خرجت من الباب لتتسلّل بشكل لصوصيّ من الشّبّاك لتعيد صياغة مسار الثّورة وفق طموحاتها وأهدافها الّتي لا تتعدّى كونها ضرب من التّعلّق الوهميّ بإنجازات الحداثة و تصدير للخوف في المجتمع و اعتبار القادم مجهولا يجب مقاومته و التأليب عليه إن لم يكن في صالحها و يتمّ ذلك عادة بالرجوع إلى الأرشيف الأصفر حول المرأة و تعدّد الزوجات و الحجاب و الإرهاب و القاعدة و باستدعاء قاموس بائد حول التقدّميّة و الرجعيّة و الظّلاميّين و التنويريّين و التحديثيّين و السلفيّين . و لا يقتصر التشكيك في المجتمع على هذا الجانب و إنّما يتجاوزه إلى قدرته على حماية ثورته, إنها محاولة يائسة لنعت الشعب بالعجز رغم أنّه صنع الثورة و أطاح بدكتاتوريّة مافياويّة استمرّت 20 عاما أو تزيد فما بالك بأيّ نوع من الدّيكتاتوريّة النّاشئة (على فرض قيامها) يحاصرها المجتمع الدّوليّ من الخارج و الشعب الجبّار العظيم من الدّاخل هذا الشعب الّذي لم يستأمنها على نفسه و ثقافته يوما بل كانت نخبة مقطوعة عنه متسلّطة عليه تلتقي مصلحتها الفكريّة و الإقتصاديّة مع ديكتاتوريّة السلطة الّتي كانت تنظّر لها و تستخدمها لتبرير ضرب المجتمع في أصوله و ثقافته بدعوى محاربة التطرّف و نبذ الإرهاب و نشر الدّيمقراطيّة . لا يكتفي هذا السؤال الرّيبيّ بضرب البنية المجتمعيّة في العمق بل يتعدّاها إلى الفرد باعتباره مواطنا فالّذي يسألني عن الضّمانة يشكّك في أهليّتي بمبدأ المواطنة و بقدرتي على صناعة مستقبل مشرق في إطار توافقيّ لذلك سرعان ما اقترحت هذه النخب ميثاقا تعاقدت على تسميته ب"الميثاق الجمهوريّ" أو "ميثاق المواطنة" و هو ميثاق يمنع بطبيعته كلّ محاولة للتمرّد على هذه النّخب الّتي تعتبر نفسها العقل الوحيد المدبّر في المجتمع و هي درجة من التعصّب لم تبلغها أيّ نخبة في العالم إذ هي تمارس الإقصاء من يوم نشأتها و هي تتملّص من أيّ استحقاق نضالي في المستقبل و ذلك لأنها لم تعرف النّضال و لم تساهم في الثورة أصلا بله قيادتها بل لم تشارك فيها إلّا بروح انتقاميّة من المجتمع فقد بقيت إلى النفس الأخير تتابع الأمر بالتحريض أحيانا و الصمت المضمر أحيانا أخرى و ربّما كانت لحظة نشوة المجتمع بالإنتصار لحظة فاجعة بالنسبة إليها , لحظة إحساس باليتم و الضياع بسبب افتقاد حاميها و حراميها و سرعان ما تحوّلت ابنا لثورة بالتبنّي لقد كانت ابنا غير شرعيّ يريد أن يرث الثورة رغم أنّه تستّر على الدّيكتاتورر في ضرب المجتمع مقابل تستّره عليها و إبرازها كواجهة أماميّة تبرّر التدمير و الخراب . إنّ سؤال الضّمانة هو في الواقع يطرح مشاكل النّخبة و طموحاتها لا مشاكل المجتمع و طموحاته و غايته المبيّتة المدسوسة هي البحث عن تعاقد خارج دائرة المجتمع - ان كان التعاقد فعلا غاية هذه النّخب - و الواقع أنّها لم تكن تريد التوصّل إلى صياغة عقد اجتماعي منشؤه المجتمع وإنما غايتها الحفاظ على امتيازاتها ضمن دائرة فاشيّة تنطلق من أحكام مسبقة مروّجة أنّ المجتمع قد يعيد إنتاج تخلّفه و أنّه لا يستحقّ العيش في وضع ديمقراطي حقيقيّ و تتّهمه بأنّه لن يسمح لها بحرّيّة مزعومة كانت سبيلها لهدم أسس المجتمع دون تقديم بديل بنّاء و اتّخذت في ذلك سبيلا الترويج لتناقضات وهميّة بين الدّين و العلم و اللّاهوت و السّياسة و الحداثة و السّلفيّة و العلماني و الإسلامي و الرّجل و المرأة هذا السّؤال نفسه محاولة للتشكيك بأيّ انجاز ديمقراطيّ حقيقيّ يمكن أن تفرزه الصناديق و بقدرة أيّ توجّه خارج دائرتهم الضيّقة على بناء دولة حديثةتقدّس الحرّيّة كحقّ تكفله الشّرائع و تعتبر الدّيمقراطيّة آليّة لحلّ الصراعاتالسّياسيّة و الحوار طريقةلحسم النزاعات الإيديولوجيّة و العدالة و التنمية كمنهج لتحقيق الرّفاه . إذا كان قد أصبح من المتيقّن لدينا أنّ السؤال لم يكن بنّاءا فماهي أهمّ تبعاته ؟؟ تبعات السّؤال: لعلّ أهمّ التّبعات هي خلق حالة من الإرباك و التشويش داخل المجتمع في محاولة لحشده ضدّ مصالحه و ضدّ أهدافه في الرّقيّ و التقدّم و الدّيمقراطيّة و اتّخذوا في ذلك سبيلا الطّابور الخامس (الإعلام) للترويج لهذه الشّكوك الّتي كانت هي نفسها ابتدعتها ل"بن علي" و روّجتها بشتّى الوسائل في أوساط المجتمع فدمّرته و أوهنته و أفقدته الثّقة في ذاته و عوامل القوّة فيه , هذه العوامل الّتي كانت تبنى أساسا على ميراث حضاري تليد و مع ذلك لم تستطع النّفاذ إلى قلوب النّاس بمزاعم الحداثة لأنّها لم تكن حداثة فعليّة نابعة من رغبة اجتماعيّة بل حداثة شكليّة منقولة متسلّطة مسقطة فرضت على المجتمع بالحديد و النّار , لقد كانت حداثة في مستوى الخطاب لذلك بقيت دون آفاق واضحة إذ طمست أهمّ معالمها كالعدالة و الحرّيّة و الدّيمقراطيّة و المساواة و حقوق الإنسان , هذه الحداثة كان يسحق بموجبها كلّ مشروع وطنيّ يحاول المساهمة في بناء الدّولة القطريّة من خارج هذه النّخبة المتسلّطة الإنتهازيّة سواء كان هذا المشروع يساريّا أو قوميّا أو إسلاميّ أو حتّى ليبراليّا . لقد كانت هذه النّخبة إضافة إلى التشكيك هي الّتي تصدّر صناعة الخوف إلى المجتمع مستغلّة في ذلك الإرث الرّاسخ ل"بن علي" الّذي كان جاهلا بالمعنى الحقيقيّ للكلمة و كانت هي الّتي تفكّر له و تسوّق أفكارها سياسيّا و إعلاميّا محلّيّا و دوليّا و قد ظهر دلك جليّا في تسويق التّجربة التّونسيّة كتجربة فريدة في مكافحةالإرهاب مع أنّ المجتمع التّونسيّ بريء من هذه التّهمة إذ لم يكن الإرهاب إلّا صنيعة الدّول البّوليسيّةالقاهرة لكلّ صوت معارض . و أمّا التّبعة الثّانيّة فهو الشرخ المجتمعي الّذي يستند إلى اصطفافات وهميّة بين يسار و يمين و ظلاميّ و متنوّر و حداثيّ و سلفيّ ممّا قد يؤدّي إلى حالة من العنف ليس المجتمع في حاجة إليها. إنّ هذه الإصطفافات ليست مجدية أصلا لأنّ المجتمع ليس في حاجة إلى مزيد من التّشرذم بل في حاجة إلى أن يستقلّ سفينة شراكة تحمل الجميع إلى شاطئ الأمان على أن تخلّف وراءها كلّ نزعة إنتهازيّة فاسدة كانت تدعم السلطة المستبدّة القاهرة و لعلّه من المطلوب اليوم أكثر من أيّ وقت مضى صعود نخبة شبابيّة تتخلّص من ماضي المشاحنات و تدعم خيارات الثّورة بعيدا عن معنى الإقصاء غايتها الأولى أن ترشّد مسار الثّورة لتوصلها نحو أهدافها إذ هي مسار في طور المخاض غير ناجز بالنّظر إلى محاولات الإنتهازيّين و الإقصائيّين لتدجينها و العودة بها الى المربع الاول, مربّع الإلحاق. ان هذا التضخيم و هذآالتجييش قد يخلق أرضية خصبة للانقضاض على أي إنجاز ديمقراطي حقيقي لا يكون في صالح هذه النخب التي ينحسر وجودها في المجتمع ولا تكون فعالة آلا بقدر تمثيلها للإرادةً الدولية و لنماذج الهيمنة في الثقافة والسياسة والإقتصاد وقد ظهر ذلك جليا في عمليات التغريب الواسعة التي مارستها باسم الحداثة منذ نشأة الدولة الوطنية ويظهر ذلك واضحا اليوم في ترويجها لتيار العولمة وانخراطها فيه رغم ما تنطوي عليه من مخاطر تدمير الهوية وتهاوي مسيرة التنمية. إذا كان قد تبين لنا أن سؤال الضمانات هو سؤال شيطاني تشكيكي يريد أن يوقع العداوة والبغضاء بين مكونات المجتمع بمختلف توجهاتهم ويطمح إلي إدامة شعور الخوف من بعضهم البعض ويزرع في الفرد والمجتمع عوامل الضعف والتفكك ويرمي اصحابه إلي تدجين الثورة وتبرير الإرتكاس عن كل إنجاز ديمقراطي فلا بد أن ندعو كل القوى الوطنية الصادقة والخيرة إلى كلمة سواء أن لاتعلو المصالح الحزبية والفردية والدوليةعلى المصالح الوطنية وأن نحمي إنجازات ثورتنا ونطورها خدمة للمجتمع وأهدافه في التحرر والكرامة والعدالة والتنمية منهجنا في ذلك التوافق ونبذ التهميش والإقصاء و خدمة نموذج كونيّ جديد بعيد عن الهيمنة و الإلحاق.