الاستاذ عمر السعداوي المترشح لخطة رئيس الفرع الجهوي للمحامين بتونس ل" الشروق اون لاين ".. " ساعمل من أجل هياكل فاعلة تحفظ كرامة و تطور الممارسة اليومية للمهنة"    وزير الداخلية: تونس في مواجهة مُباشرة مع التحدّيات والتهديدات والمخاطر السيبرنية    بن عروس: إدماج حوالي 300 طفل في برنامج "روضتنا في حومتنا" و33 طفلا من ذوي اضطرابات طيف التوحد في مؤسسات رياض الاطفال    تحويل جزئي لحركة المرور قرب مستشفى الحروق البليغة ببن عروس    عاجل/ الأخيرة ضمن الأسطول: السفينة "أنس الشريف" تُبحر باتّجاه غزّة    غار الدماء: وفاة أم أضرمت النار في جسدها بسبب نقلة ابنتها    الديوانة تحبط محاولة تهريب مخدرات بميناء حلق الوادي الشمالي    القمة العالمية للبيوتكنولوجيا: وزير الصحة يعلن بسيول إطلاق مركز وطني للتدريب البيوطبي لتعزيز قدرات إفريقيا في إنتاج الأدوية واللقاحات    فتحي زهير النوري: تونس تطمح لأن تكون منصّة ماليّة على المستوى العربي    تسجيل تراجع في صابة "الهندي" الأملس    شهر السينما الوثائقية من 18 سبتمبر إلى 12 أكتوبر 2025    إلغاء الإضراب بمعهد صالح عزيز    تونس تحدد مخزون الحليب الطازج المعقم    تحذير صارم: أكثر من 30 مصاب بالاختناق جراء تلوث المنطقة الصناعية في قابس...شفما؟    سورة تُقرأ بعد صلاة الفجر لها ثواب قراءة القرآن كله 10 مرات    تعرف على الفواكه التي تعزز صحة القلب    قابس: تخرج الدفعة الأولى من المهندسين بالمعهد العالي للاعلامية والملتيميديا    أولمبيك سيدي بوزيد يتعاقد مع الحارس وسيم الغزّي واللاعب علي المشراوي    جريدة الزمن التونسي    جندوبة الرياضية تتعاقد مع اللاعب بلال العوني    القصرين: مشروع نموذجي للتحكم في مياه السيلان لمجابهة تحديات التغيرات المناخية والشح المائي    الكاف: حجز كميّات من المواد الغذائية غير الصالحة للاستهلاك    صدمة في القلعة الكبرى: لدغة ''وشواشة'' تُدخل شابًا قسم الكلى    الرابطة الأولى: إياد بالوافي يمدد عقده مع النادي الصفاقسي    عاجل/ الجامعة التونسية لكرة القدم تحذر وتتوعد بتتبع هؤلاء..    ارتفاع الحرارة ليس السبب...النفزاوي يكشف أسرار نقص الدواجن في الأسواق    سفينة "لايف سابورت" الإيطالية تنضم لأسطول الصمود نحو غزة كمراقب وداعم طبي    بشرى سارة للتونسيين: أمطار الخريف تجلب الخير إلى البلاد..وهذا موعدها    اختفاء سباح روسي في مضيق : تفاصيل مؤلمة    المقرونة: أصلها عربي و لا إيطالي؟ اكتشف الحكاية    الرابطة الأولى: تشكيلة النادي البنزرتي في مواجهة مستقبل قابس    الرابطة الأولى: تشكيلة شبيبة العمران في مواجهة النادي الإفريقي    عاجل: الإدارة الوطنية للتحكيم تجمّد حسام بولعراس مرة أخرى...علاش؟    عاجل..انقطاع الإنترنت والاتصالات وتحذير من توقف الخدمة الصحية في غزة..    الدينار التونسي يتراجع أمام الأورو إلى مستوى 3.4    أكثر من 100 شهيد في مجازر ارتكبها الاحتلال في قطاع غزة    الحماية المدنية: 597 تدخلا منها 105 لإطفاء حرائق خلال الأربع والعشرين ساعة الماضية    المريض هو اللي باش يطلب استرجاع المصاريف من الكنام.. تفاصيل جديدة    مقارنة بالسنة الفارطة: زيادة ب 37 مدرسة خاصة في تونس    أسباب غير متوقعة وراء نقص حالات الزواج عند التونسيين    الكورة اليوم ما تفلتهاش... هذا برنامج المقابلات للرابطة الأولى    الإحتلال يقصف مستشفى الرنتيسي للأطفال بغزة    بنزرت: إصابات خفيفة في انقلاب حافلة عمّال بغزالة    طقس اليوم: سماء قليلة السحب    عاجل: طلبة بكالوريا 2025 ادخلوا على تطبيق ''مساري'' لتأكيد التسجيل الجامعي..وهذا رابط التطبيقة    القيروان: النيابة العمومية تأذن بتشريح جثة العرّاف ''سحتوت'' بعد وفاته الغامضة    جريدة الزمن التونسي    لمدة 48 ساعة فقط.. جيش الاحتلال يعلن عن ممر آمن لإخلاء سكان غزة جنوبا    مشاركة تونسية لافتة في الدورة 13 من المهرجان الثقافي الدولي للمالوف بقسنطينة    فيلمان تونسيان ضمن مسابقات مهرجان الجونة السينمائي    وفاة روبرت ريدفورد: رحيل أيقونة السينما الأميركية عن 89 عامًا    لأوّل مرة: هند صبري تتحدّث عن والدتها    راغب علامة عن زوجته: لم تحسن اختياري    انطلاق المخطط الوطني للتكوين حول الجلطة الدماغية    كلمات تحمي ولادك في طريق المدرسة.. دعاء بسيط وأثره كبير    أولا وأخيرا ..أول عرس في حياتي    أبراج باش يضرب معاها الحظ بعد نص سبتمبر 2025... إنت منهم؟    مع الشروق : الحقد السياسيّ الأعمى ووطنية الدّراويش    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الهوية بين وظيفتها وأخطار العولمة
الهوية في مواجهة الاستعمار قديما والعولمة حديثا (3): بقلم سالم حداد
نشر في الشعب يوم 29 - 03 - 2008

ننشر فيما يلي الحلقة الثالثة من مقال الصديق المناضل الأستاذ الكبير سالم الحداد حول الهوية والعولمة.
قبل أن نتوضح هذه العلاقة لابد أن نرفع اللبس الحاصل بين العولمة والعالمية وعلاقة كل منهما بالهوية، فهل من مفارقة؟
أ وظيفة الهوية
حتى ندرك أهمية الهوية لابد أن نتعرف على وظيفتها في حياة الشعوب والأمم، وأن نتساءل هل يمكن أن تؤدي هذه الوظيفة في ظل العولمة كما أدتها في ظل الاستعمار ؟
سبق لدول الاستعمار التقليدي أن احتلت العديد من البلدان بقوة السلاح لكنها لم تنعم بالراحة، فقد هبت الشعوب تدافع عن سيادتها وكان العنصر المحرك للمقاومة هو سلاح الهوية، فقد أبت هذه الشعوب أن يسعى الاستعمار لمحو لغتها وثقافتها بما في ذلك دينها.ولما أدرك المحتلون خطورة الهوية غيروا إستراتيجيتهم فاتجهوا إلى محاربتها. وفي هذا الإطار ظهر الظهير البربري في المغرب الأقصى وتركز التجنيس في الجزائر وانعقد المؤتمر الافخارستي الكاثوليكي في تونس. وليست العولمة الإمبريالية إلا تواصلا للمحاولات الرأسمالية الاستعمارية السابقة.
فالهوية حافظت على الروابط التي جمعت الأمة عبر مسيرتها التاريخية ومتنت نسيجها الاجتماعي ووحدت نظرتها إلى الكون والحياة، وهي حاملة للتراث بكل أشكاله وحاضنة له، وهي مصدر اعتزاز للأمة تتمايز بها عن الآخر، وتقوم بدور تعبوي خاصة في الفترات التي يصبح فيها كيان الأمة مهددا، فهي ترفض الذوبان والتماهي في الآخر. كما أنها الأرضية التي يمكن أن ينهض عليها أي بناء وحدوي في المستقبل، وبهذا فالهوية ليست انتماء إلى الماضي إلا بقدر ما يساعدها ذلك على صنع المستقبل.
وبذلك يمكن اختزال وظيفتها في:
حاملة وحاضنة للتراث
ممانعة ومقاومة ترفض الذوبان والتماهي في الآخر
صانعة للمستقبل
تلك هي وظيفة الهوية،فكيف ستتعاطى معها العولمة التي لم تقتصر على عملية هدم ما هو موجود بل تسعى لإعادة صياغة العالم اقتصادا وسياسة وثقافة بما يحقق مصالح الإمبريالية الجديدة؟
ب أخطار العولمة على الهوية
هناك من شبّه العلاقة العولمة بالهوية بأنها علاقة الصياد بالطريدة، وبالتالي لا مجال للتعايش بينهما، فالأولى تهدد الثانية في وجودها، ويمكن ذكر بعض أخطارها:
1 انحلال الهوية الوطنية والقومية وتشكل هويات طائفية
لا يتوقف غياب الدولة عند تداعياتها الاجتماعية والاقتصادية بل قد يكون ذلك سببا وخاصة في العالم الثالث إلى العودة لمرحلة ما قبل الدولة حيث تنفرط الروابط القانونية والسياسية التي تأسس عليها مفهوم المواطنة لتستيقظ روابط العصبيات القبلية والعشائرية والدينية والمذهبية، فيتفكك المجتمع وينعدم الأمن وتنتشر الفوضى فتنحل الهوية الوطنية والقومية وتتشكل هويات طائفية ، وهو ما حصل في العراق.
2 تبعية المؤسسات التربوية والمعاهد العلمية
في إطار العولمة التي صارت تجسد الغلبة الحضارية تتعرض اللغات الوطنية إلى العديد من التحديات ولعل أهمها :
تبعية المؤسسات التربوية ومعاهد البحث العلمي لغة ومناهج إلى نظيراتها في دول أوروبا الغربية بالرغم من أن هذه الدول لجأت إلى الترجمة حينما أدركبة للمؤسسات الأمريكية. فالمؤسسة العلمية والتربوية في بلداننا العربية ما زالت أسيرة الاتباع المعرفي ولم تجرؤ على طرق أبواب الإبداع العلمي والتقني.ومن أهم أسباب ذلك هو محدودية وعي السلطة بأهمية العلم وتوطينه في المجتمع وتوظيفه في خدمة الشعب. ومن الأكيد أن التبعية العلمية ستكرس التبعية الاقتصادية والسياسية والثقافية وستزيد في تنامي هجرة الأدمغة الوطنية لتراكم معارفها وخبراتها في الدول المصنعة، وسيكون من أبسط نتائجها حرمان اللغة العربية من استحداث معجم لغوي علمي يواكب التطورات العلمية وتتغذي به الأجيال الصاعدة.
وقد شهد الوطن العربي مبادرتين علميتين جريئتين ضمن رؤية إستراتيجية لتحقيق الأمن القومي، كانت الأولى في مصر في عهد الرئيس جمال عبد الناصر وكانت الثانية في العراق في عهد الرئيس صدام حسين الذي أولى أهمية خاصة للعلم والعلماء، وأرسى أرضية لنهضة حقيقية، ولعل هذا التوجه هو من جعلت الإمبريالية الأمريكية تسارع بشن حرب استباقية فتجهض التجربة العراقية.
3 تهجين اللسان العربي
إن العولمة تشيع أنماطا من التعابير ومعجما من المصطلحات الجديدة ستؤدي إلى تهجين اللسان العربي حيث ستتسرب العديد من المصطلحات والتعابير إلى اللغة الأم فتصير لغة هجينة وملوثة، وهذا ما نلاحظه في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة. والمؤلم حقا أن الالتجاء إلى التعبير الأجنبي في الكثير من الظروف لم في اللغة بل لكسل في الباث ومحدودية وعيه الوطني الحضاري. ولم يكن هذا الانسياق منحصرا في شرائح الشباب بل إن العديد من المربين المؤتمنون على وعي الأجيال يجارون هذا التهجين اللغوي مع أنهم يعرفون خطورته الحضارية
4 تشويه التاريخ الوطني والقومي تقليص الإحساس بالانتماء الوطني
خاضت العديد من حركات التحرير في بلدان العالم الثالث معارك دامية وسجلت صفحات من التضحية من أجل استقلال شعوبها، وصارت محور اعتزاز الأجيال اللاحقة، غير أن هذه العولمة تحاول أن تدخل الدول الوطنية في متحف التاريخ باعتبارها عجزت عن تحقيق آمال شعوبها، فصارت تضحياتها عملا عبثيا،وقد تتحول إلى عوامل إدانة، فالقيم التي كنا نعتز بها كالكرامة والوطنية والتعلق بالمبادئ، قد تتحول إلى مصدر استخفاف بأصحابها وليس من باب الصدفة أن تصر فرنسا عن رفضها الاعتذار عن الجرائم التي ارتكبتها في الجزائر، واعتبار عملية التوسع الاستعماري الذي كان إفرازا لتراكم رأس المال في القرن التاسع عشر عملية تمدينية قامت بها فرنسا نحو الشعوب البربرية ، ولعلها تريد أن توحي للأجيال الصاعدة بأن تعيد النظر في القيم الوطنية التي توارثتها.
5 غسل الأدمغة
بلا شك أن العولمة توظف أمضى الأسلحة الإعلامية في حربها على الهوية المجسمة للبنية الفكرية والنفسية ألا وهو سلاح الصورة الجذابة القادرة على اختراق أغوار الإنسان والتوغل في عقله الباطني، وهذا سيجعله معرضا لاهتزازات واضطرابات نفسية وفكرية قد تكون سببا في انفصام شخصيته وإحساسه بالنقص إزاء الآخر الغالب الذي صدّر أنماطا من السلع وأنماطا من السلوك والقيم تؤثر في قناعته وفي رؤيته وتشككه في مقومات هويته، فيغيب لديه الوعي بمكونات وجوده السياسي والاقتصادي والثقافي وتتفجر لديه الرغبة المكبوتة فيتحول إلى كائن استهلاكي مستلب يقبل على متع الحياة والنهل منها بشغف ، وهذا هو الهدف الذي تسعى إليه العولمة من خلال التركيز على الجوانب الحسية والغريزية في الشخصية واعتماد عنصر الإثارة وخاصة لدى الشباب الذين يفتقدون إلى التوازن في بنيتهم الفكرية والنفسية. وكل ذلك يتنزل مبدأ أساسي من مبادئ العولمة ألا هو حرية الإنسان بما في ذلك حرية الجسد، وكل اعتراض يعتبر عملية ارتدادية وشد إلى الوراء.غير أن العولمة التي تطلق العنان لهذا النمط من الحرية تتغافل عمدا عن الأنماط الأخرى من الحقوق الطبيعية الأولية بما في ذلك حق الإنسان في الغذاء والكساء والتعليم والصحة والعمل وحقهم في التعبير وحق الدول في امتلاك ثرواتها وتسخيرها لخدمة شعوبها. وكل دولة تحاول أن تفعل ذلك تصنف ضمن محور الشر تشن عليها الحروب الاستباقية وتدمر كيانا ومؤسسات فتنتشر الفوضى وتتيقظ العصبيات وتشرذم الهوية الوطنية والقومية إلى هويات عرقية أو دينية أو مذهبية.
تلك هي تأثيرات العولمة في الهوية، لكن هل نتوقع أن تقضي العولمة على الهوية؟
لقد كانت هذه المسألة محل نقاش بين منظري العولمة، ويكفي أن أستحضر رأي المنظر هنتنتون.
يماهي هذا المنظر للعولمة بين مفهومي التغريب والتحديث، ويطرح سؤالا : هل يمكن لشعوب العالم أن تفقد هويتها وأن تتغرب حتى وإن استهلكت بضاعة الغرب واستمعت إلى موسيقاه وشاهدت الأفلام الأمريكية واستنسخت العديد من أنماط حياته من حيث اللباس والمأكل والسلوك؟
في رأيه إن سياسة التغريب التي توختها الدول الغربية مع مستعمراتها في القرن التاسع عشر والقرن العشرين لم توفق في طمس هوية الشعوب بل إنها أفرزت مقاومة عنيفة، فقد أبت الشعوب المولى عليها أن تفرط في موروثها الثقافي وأن تتماهى مع الثقافة الغربية.
فالتغريب الذي انتهجته الدول الاستعمارية أفضى إلى مزيد من الانغلاق والتمسك بالهوية والتصادم، لأنه لامس المظاهر الخارجية في حياة هذه الشعوب ولم يتوغل في أعماقها، فروح أية حضارة تتجاوز هذه المظاهر، فهي اللغة والعادات والقيم التي لا تتغير ولا تنال منها الحداثة، كما أن التحديث والنمو الاقتصادي لا يؤديان إلى التغريب بل على العكس من ذلك ستؤديان إلى مزيد من التمسك بالتقاليد الأصيلة، وقدم مثالا على ذلك امرأة محجبة تدخن وترتدي الدجين وترتاد السينما والمسرح وتضع المساحيق، ومع ذلك فإن هذه المرأة لن تخرج من دائرة الحضارة العربية الإسلامية لأن حضارة العولمة لامست السطح ولم تتوغل في أعماق الحضارية التي تتمثل خاصة في اللغة والثقافة.
فهذا الدرس التاريخي هو الذي ستستفيد منه العولمة الثقافية التي لا يجب أن تتجه لغزو الأرض بل لغزو العقول والأنفس لانتزاع ما فيها باعتباره سبب التخلف ثم إعادة شحنها بنمط جديد من الرؤى سيشكل خلفية تقدمها. وهذا الذي أطلق عليه هنتنغتون ب « صدام الحضارات».
لذا على الغرب أن يتخلى عن وهم العولمة الثقافية وأن ينمي حضارته في مواجهة حضارات العالم وفي مقدمتها الحضارة الإسلامية. وهذا يتطلب وحدة الغرب بزعامة أمريكا في مواجهة الحضارات الأخرى.
غير أن هذا الرأي يقابله رأي آخر وهو رأي الأمريكي الجنسية الياباني الأصل فاكوياما الذي يعتقد أن الحضارة الغربية التي تنهض قاعدتها على النظام الديمقراطي هي نهاية التاريخ، وبالتالي فإن كل إيديولوجية أخرى ستزول لأنها لا تلبي حاجة الإنسان إلى الحرية والديمقراطية كما يلبيها النظام الليبرالي الذي يقوم على اقتصاد السوق.
وبقطع النظر عن هذين الموقفين الذين يبدوان متناقضين لكنها في نهاية المطاف يؤولان إلى نتيجة واحدة وهي رفض هوية الآخر والعمل على محوها، فإن العولمة تمثل عملية هدم لكل ما يعرقل سيطرتها في العالم،فإلى أي مدى ستكون قادرة على إزاحة الهوية؟
رابعا: كيف تتصدى الأمم لتحديات العولمة؟
شهد العالم الكثير من التحركات على مستوى الجماهير وعلى مستوى منظمات المجتمع المدني، حيث تسارع هؤلاء إلى المبادرة بتكوين العديد من المنتديات الاجتماعية على مستوى وطني وإقليمي وعالمي بهدف التأسيس لعولمة مضادة تتصدى للعولمة الإمبريالية. غير أن هذه المبادرة على أهميتها مازالت تفتقر إلى الأسس النظرية التي تقوم عليها، لذلك فهي أقرب إلى مواقف الرفض منها إلى رؤية إستراتيجية كما هو شأن العولمة الإمبريالية. وهذا ما يمكننا من القول: إن العولمة نجحت لحد الآن في أن تقلص مهام الدولة وأن تحد من فاعلية الإيديولوجية التي تشكل الوعي، وأن تهمش العديد من شرائح المجتمع، لكنها عجزت لحد الآن عن أن تحدث فلولا في قلاع الهوية، والسؤال المطروح هو: إلى أي مدى ستصمد أمام هذا الغزو الجارف، هل ستستسلم أم أنها ستنجو بنفسها كما نجت الحمامة المطوقة عندما تعاونت مع بقية الحمام الذي وقع في شرك الصياد، فحزموا أمرهم ووحدوا جهودهم واستنهضوا قواهم إلى أن تمكنوا من فك أغلالهم وتحرروا من الخوف الذي سكنهم من جبروت الصياد. فكيف نتصور هذه المقاومة؟
لقد أكدت التجارب السابقة أن هناك ثلاثة أساليب للتعامل مع العولمة الثقافية:
1 الانبهار بها والعمل على الترويج لها باعتبارها الحل الأمثل للتقدم والخروج من التخلف. وهذا سينتهي بالهيمنة الاقتصادية والتبعية الحضارية.
2 رفضها بصفة مطلقة باعتبارها آلية للإمبريالية العالمية للسيطرة على العالم واستنزاف خيراته، وتكون النتيجة الانغلاق على الذات وتحمّل تداعيات الموت البطيء.
3 المقاومة الواعية وتتمثل في :
تفعيل المجتمع مع الجوانب المضيئة في العولمة
لا يمكن أن نتجاهل أن ظهور العولمة كان نتيجة لعدة عوامل سياسية واقتصادية، غير أن هذا ما كان ممكنا لو لم يواكبه تطور علمي تجسد خاصة في الثورة المعلوماتية، ولذا لا مجال لأي إصلاح أو تنمية لا تتمثل انجازات هذه الثورة ومحاولة استيعابها وتوظيفها، فالمراهنة على الحداثة وهضم آلياتها وفي مقدمتها التقانة والعلم وتوطينهما في المجتمع العربي هو الشرط الضروري لتحقيق نقلة نوعية في حياتنا. وبذلك تكون الهوية قادرة على مجابهة العولمة التي تسعى لطمسها باعتبارها حركة جدلية تتفاعل مع التحولات التي تمر بها الإنسانية فهي انتماء للماضي واستيعاب للحاضر واستشراف للمستقبل.
الانخراط في المشروع الديمقراطي
هناك إشكالية مطروحة في عالم السياسة والاقتصاد حول علاقة الديمقراطية بالتنمية وعلاقة الهوية بهما معا، هل يمكن تحقيق التنمية في ظل أنظمة دكتاتورية؟ وهل بإمكان أي شعب فقد إحساسه بذاته أن ينتج وأن يبدع؟
لقد بينت الأحداث أن التطور الاقتصادي مع الاستبداد السياسي ممكن،وهذا ما حدث في الشيلي في نظام بينوشي العسكري بعد أن وقع اغتيال الديمقراطية في شخص ألندي وغير ذلك من الأنظمة.غير أن هذه التنمية في هذه البلدان غالبا ما تكون بعوامل خارجية ولخدمة أهداف سياسية واقتصادية، فالإمبريالية الأمريكية التي قضت على هذا النظام الديمقراطي التقدمي خوفا من تسرب عدواه في حديقتها الخلفية، أغدقت الأموال على مشاريع النظام العسكري حتى تؤكد فعالية النظام الرأسمالي ودور أمريكيا في المنطقة. لكن الدول الديمقراطية التي تحتكم إلى منظومة قانونية سياسية واقتصادية واجتماعية هي المؤهلة أكثر من غيرها على تحقيق التنمية الشاملة، وهذا ما حصل سواء في آسيا أو في أوروبا. أما الدول العربية والإفريقية فإنها لم تصل إلى هذا الهدف بالرغم من أن الكثير منها لا يعوزه المال الذي تدره الثروات النفطية.
فالرهان لا يكون إلا على الأنظمة الديمقراطية التي تثق بشعوبها وتنزل مواطنيها المنزلة الإنسانية التي تستحقها، فقد انتهى إلى غير رجعة مجتمع القطيع، مجتمع الراعي والرعية ليحل محله المجتمع الحر المهيكل الذي تتعايش فيه الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني على اختلاف آرائها وتباين مواقفها.
ومن الأكيد أن إسهام الجماهير في المعركة الحضارية لا يقل أهمية عن إسهامها في المعارك السياسية والاقتصادية بل إن عامل الهوية سيكون أقوى حافز للشعوب لحماية ذاتها وصيانة كيانها وتحقيق مناعتها العلمية والتنموية. ولعل هذا العامل هو الذي عطل نجاح مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي رفضته الأمة العربية باعتباره مسقطا عليها ويحمل خلفية استعمارية. وقد يكون عامل الهوية أهم دافع لتكوين تجمعات إقليمية، تنهض على الاقتصاد البيني تتوزع فيه المهام بين الضعفاء حتى يحولوا ضعفهم إلى قوة تمكنهم من ناحية من تمتين نسيجهم الاقتصادي وتساعدهم من ناحية أخرى على تحسين ظروف التفاوض مع الثمانية الكبار الذين يتحكمون في السوق العالمية.
ومن هنا فالهوية تقوم بدور مزدوج: فهي من ناحية حاملة وحاضنة للمخزون الحضاري وهي من ناحية أخرى صانعة للمستقبل. وهي ليست انتسابا إلى الماضي إلا بقدر ما هي تمثل للحاضر واستشراف للمستقبل، فنحن لا يهمنا أن نعرف كيف كنا إلا بقدر ما يساعدنا ذلك على معرفة كيف يجب أن نكون.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.