نعم بدأت الثورة العربية في تونس...نعم هرب المخلوع ونجحت البلاد في قصم ظهر إحدى أعتى ديكتاتوريات بداية هذا القرن، ولعلها أعلنت نهاية التاريخ! وبدأت الأيام تناطح الأيام والشهور تتوالى وسفينة نوح تبحث عن مرساها، والعواصف لا تكل وركن البيت من طوب أجوف ومناطق الرماد تتكاثر والأفق لا يخلو من ضباب ومواطننا يبحث عن ملاذ آمن، يبحث عن مرآة غير عاكسة، مرآة تريه صورة الآمل والحالم، تريه الواقع الجديد الذي سكب من أجله الدموع والدماء وأظلته الأحزان والمحن! إن هذه الثورة قامت من أجل المواطن، من أجل حليب طعمه كرامة وكرامة لونها حليب! لكن مناطق الرماد لا زالت تتوسع وأحجب وغشاوات وأسترة تمنع عنه الرؤيا وتفزعه من تلمس الآفاق... يجوز في حاله كالمنتظر دوره عند الحلاق، يسمع من غريب الأخبار ما يلطف به الفؤاد أو يفزعه حتى يمر الزمن وهو قادم على حلق لا يأمن نهايته! طلب مواطننا كرامة...قالوا له ترقب فالكرامة كنز لا يفنى، وتتطلب زيارة المشعوذين وقارئي الفنجان لإخراجه، وإحضار الجن والعفاريت للتمكن منه! طلب شغلا...قالوا له ترقب فالبطالة قدر ولا يمكن محاربة الأقدار، وعصا السحرة ليست موجودة في الأسواق، وموسى كان سبّاقا فولى هاربا لولا أن تداركته مشيئة الرحمان! طلب خبزا...قالوا له الخباز منكم والخبز عليكم والمرق ليس في الحسبان، وأشعب كان كريما على موائد الجيران! طلب عنوانا...قالوا له العناوين كثيرة "والبركة ما ثماش" حب الوطن عنوان، والمواطنة عنوان، وحقوق الإنسان عنوان، والأخلاق والقيم عنوان...لكن ساعي البريد ظل الطريق أو اختلطت عليه العناوين أو فقد السمع والبصر والفؤاد! العيش في السراب ليس عيشا كريما، العيش في السراب هو فرار من الواقع اضطرارا تحت مسميات كثيرة..."الواقع صعب...التركة ثقيلة... لا تستعجلون...ليس لعب صغار...!" أقوال تتبعها أقوال، والقارب تتقاذفه الأمواج من كل جانب وفي كل حين، والأنظار بدأت تنظر إلى السماء بعد أن عقمت الأرض، وجواب السماء لم يتغير "لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" والمهدي دخل غيبته، ويكاد مواطننا يدخل غيبوبته...ولكن! العيش في السراب هو عيش الإخفاق وعيش الإحباط وعيش اليأس، ولم تبدأ الثورات إلا حين تغلق الأبواب وتسدّ النوافذ وتعلو المتاريس، وتنخفض السقوف حتى تلامس الرؤوس، وتجف الأرض حتى يتشقق ردائها، وتقلع السماء حتى يسوَدّ لونها، حين ذاك ينادي مناد : "هيت لك" ولا مكان حينئذ للسراب ولكن للمجهول!!! الدكتورخالد الطراولي مؤسس حركة اللقاء الإصلاحي الديمقراطي ماي 2011