كان اليوم ساخنا وربيعيا بامتياز أو ربما هكذا بدا لي سيما وأني قضيت الليل كله أو جله وأنا أتصور نفسي متخطيا باب المعهد الذي غادرته قسرا وجورا منذ 19 سنة، هل ألبس البدلة الرمادية ؟ لا لا فهي تذكرني بلون بدلة جلادي وهي تتطلب ربطة عنق وهذه تكتم أنفاسي ..، أم ألبس بدلتي الثانية وهي الخيار الأخير فحملة التجويع الممنهجة التي مارسها النظام السابق لم تمكني من توسيع ملكيتي لا في الملابس ولا في غيرها من ضرورات الحياة، ولكن الذهاب منذ اليوم الأول ببدلة فيها الكثير من الرسميات قد تجعلني في مقارنة من حيث الهندام والأناقة مع أحد رموز العصابة التي كانت تحكم البلاد بعد أن فاجأ الجميع بالهيئة التي برز بها في المحكمة في تحد صارخ لقوانين إدارة السجون وبذلك الشكل ربما أكون قد سجلت عودة سلبية لا سمح الله، وجالت بخاطري أكثر من فكرة وأنا أنتظر الصباح الذي ما إن بزغت شمسه حتى بدأت في تجهيز نفسي من ملبس وتصفيف شعر وترتيب أوراق نعم أوراقي فالأوراق كانت ولا زالت هامة فبورقة صغيرة تم الزج بالعديد في السجون وبمثلها يتم إعادة الإعتبار لهم وإعادتهم إلى سالف عملهم علما وأن العديد مازال إلى اليوم ينتظر وقة العبور من العهد القديم إلى عهد الثورة والحرية والكرامة رغم وضوح المرسوم الخاص بذلك وعن هذا التلكؤ أحيل السلطة المؤقتة إلى تتبع أمر إعادة المطرودين مع الإدارة الجهوية للفلاحة بنابل التي قد تدفع بالبعض للدخول في اضراب جوع من أجل أن تنفذ هي نص المرسوم الرئاسي القاضي بإرجاع المحاكمين سياسيا إلى سالف عملهم. كانت المسافة الفاصلة بين المعهد ومنزلي 55 كلم وقد خيل إلي أني قطعتها في برهة زمنية قصيرة،لقد ذهبت في سيارة خاصة أعارني إياها صديقي وهو لا يهتم بالسياسة ولكنه أشفق علي من النقل العمومي خوفا من أن أباشر أول يوم من العمل في حالة يعرفها كل من يستقل ذلك النوع من وسائل النقل، لم يتغير المعهد من حيث الموقع وألوان الطلاء كانت هي نفسها الأخضر والأبيض تناغما مع ألوان النادي الرياضي لحمام الأنف ولكن فاجأتني طريقة تعامل الإدارة مع التلاميذ كان فيها الكثير من اللطف ومن طول البال وللعدل فحتى التلاميذ كانوا كذلك حتى من حاول منهم الدخول من ممر الأساتذة سرعان ما يعدل عن فكرته أمام عملية المنع اللبقة والهادئة التي يقوم بها بعض الموظفين والعملة، كان التلاميذ يرتدون كنزة "تي-شيرت" أكحل عليه كتابة تشير إلى الشعبة التي يدرسون بها مثل "باك أنفو" أو "باك رياضيات" وكان الزي موحدا بين البنات والأولاد وما هي إلا دقائق حتى دخلت مجموعة من التلاميذ مصحوبين باللافتات وآلات الطبل والصافرات واعتلى كل فريق طابقا من المعهد وبدأت الأهازيج والأغاني في تنافس بين التلاميذ كل فريق يفتخر بشعبته ويعدد خصالها لقد تحول المعهد إلى ما يشبه مدارج ملعب كرة القدم صياح وزغاريد وحماس متقد انتهى باشعال كل فريق ما تحصل عليه من شماريخ في السوق السوداء. في لحظة انتشاء قلت في نفسي ها هي عودتي تتم في يوم أغر وها أنني أحضى باستقبال جماهري ولكن سرعان ما رجعت بي الذاكرة إلى حادثة أصحاب الكهف الذين فروا من ظلم وجبروت الملك ونكران أهل قريتهم لدعوتهم وكان من قصتهم ما كان وعند عودتهم وجدوا الأمر قد انقلب إلى ما كانوا يدعون إليه.. نعم لم أجد توصيفا لحالتي تلك سوى في أصحاب الكهف فعندما أخذوني وراء الشمس ووراء النور كنت أطالب مع خلاني بشيء من الحرية والكرامة للجميع وهو ما كان مفقودا آنذاك كما أن العلاقة بين التلاميذ والإدارة كان يطغى عليها العلوية والأوامر والزجر بعيدا عن تفهم تطلعات ونفسيات التلاميذ حيث كانت ساحة المدرسة تقفر عندما يبرز فيها مدير المعهد أما اليوم فقد شاهدت تلاميذ المعهد في ذلك المشهد وهم يتفاعلون ويصعدون طاقاتهم بكل حرية وفي كنف الاحترام واللياقة وإطار المعهد يواكب فرحتهم تلك مع اختلاف تقييماتهم، لقد تخوفت من انفلات الأمور وتحول الاحتفال إلى فوضى لكن العكس الذي حصل فمع منتصف النهار انتهى كل شيء مع حركة نبيلة ومسؤولة من التلاميذ الذين طلبوا من إدارة المعهد السماح لهم بتنظيف المعهد من كل ما نتج من بقايا ورق وديكور وحبال وأعقاب الشماريخ وهو ما حصل فعلا. لقد اكتشف أهل الكهف قدرة الله في قلب الأمور والأوضاع من النقيض إلى النقيض واكتشفت أنا يوم عودتي من كهفي الصغير الذي لم أختره بل حاصرني فيه النظام البائد اكتشفت أن الحرية والكرامة والعلاقة الأبوية بين الإدارة والتلاميذ تبقى قيما ثابتة لصنع جيل واع حر ومتزن الشخصية حتى وإن تحول المعهد إلى مدارج لكرة القدم في مشهد يسمونه التلاميذ ب"دخلة الباك سبور" الحبيب ستهم