نور الدين العويديدي أوقدت الحاجة منانة الكانون ووضعت إبريق الشاي فوقه، ومشطت شعرها الأشيب بمشط قديم لازالت تحتفظ به من جهازها يوم زواجها قبل نصف قرن أو يزيد، وحاولت أن تجمّل نفسها قدر ما تستطيع، وهي تعد براد الشاي لزوجها.. ورويدا رويدا بدأ الإبريق يقرقر ويغني، وتصاعد البخار في الجو مشيعا جوا من البهجة والأنس في الكوخ المائل للسقوط. وفاحت رائحة الشاي الزكية، حتى وصلت أنف زوجها جحا المضطجع على ظهره، وليس له ما يحلم به سوى براد شاي من تلك التي اعتاد على شربها أيام زمان.. حك جحا أنفه بكمه، وتنحنح طويلا حتى خشي على حلقه أن يطير من مكانه، وفرك عينيه، واستوى جالسا، معتمدا على ركيزة في الكوخ، مستعينا بعصاه، التي لا تفارقه، وقال: - جحا: يا منانة يا بنت الحرام .. أنا نرقد وأنت تشعلي البراد.. تتمني نموت باش تشربيه وحدك. - منانة: ووه يا جحا أنا نحضر لك فيه، وأنت ديما نيتك كوجهك، ما عندك ثقة في حد.. تي راهو حرام عليك.. والله كنت نحضر فيه ليك يا غلبة يا قهرة. وما حبيتش نقومك كان والبراد طايب جاهز باش. - جحا محاولا إصلاح العلاقة بعد أن أوشك أن يفسدها: آه بالله سامحيني يا مرا حسبتك باش تشربيه وحدك. - منانة: آش بي أنا بقرة مش نشرب صطل وحدي. - جحا: سامحيني ها المرة، وإلا مش تشديني شدة عزوز في سارق.. أنا غالط يا للا.. سامحيني براس بوك. هدّأت منانة من غضبها، وسكبت الشاي الأسود في كأس قديم، تغير لونه حتى عاد باهتا لا لون له، وأضافت له النعناع، وقدمته لجحا، الذي فرك يديه كطفل يوشك أن يستلم حبة حلوى.. رشف الرشفة الأولى والثانية، ورفع صوته المبحوح بالغناء.. - جحا: يا ليل يا عين.. آه يا منانة من غيرك أنت الدنيا ما تساويش زوز دورو.. زايد معاك يا مرتي يا باهية يا تحفونة.. براد الشاي من ايديك ينسي الباي في هموم الحكم والحكومة. - منانة: أيا باهي كي عجبك يا جحجوحي الغالي.. أنا راني من غيرك الدنيا تظلام في عيوني، ونولي عمياء ندهدص. فتل جحا شاربيه بثقة زائدة وزهو عظيم، وتدفق الدم في شرايينه، حتى كأنه شاب في العشرين. وهمّ أن يقف ليقبل منانة من خديها، لكن عظامه النخرة خانته، فحاول الاعتماد على عكازه، ولكن دون جدوى، فزحف حتى اقترب منها، وحاول بلهفة المراهقين تقبيلها، لكنها نفرت منه كأنه وحش ضار مفترس. - منانة: ابعد مني سخطة تسخطك.. أنا حالفة لا نخليك تمسني.. خاطر البارح حلمت بيك مازلت في التجمع، وتدافع على ابن علي الكلب، وتقول حتى أنت اللي ما فماش قناصة، وإذا واحد منكم يلقى قناص يجيب هولي توا نحطو في الحبس. - جحا: يا مرا يا سخطة موش قلت ليك ما تدخليش السياسة في داري.. موش قلت ليك أنسي ابن علي.. موش قلت ليك من هاك العام ما فماش قناصة، وأنك مش تدخلي البلاد في حيط أنت وجماعة الثورة متاعك. - منانة: ووه يا غلبة يا جحا يا ولد العورة، هذه دار هذه، وحتى أنت وليت تفهم في الثورة، وتفهم في الدنيا وين ماشية.. ما تخربوها كان أنتم وجماعتكم.. على خاطركم كالقراد ما تعرفوا كان تمصوا دم الناس. - جحا: أيا سكري فمك وإلا توا نضربك بها اللقحة نكسر لك راسك. - منانة: أنتوما جماعة الحكومة ما تعرفوا كان الضرب والزلاط.. على خاطر تربيتوا في مدرسة العصا واللقحة والزلاط... ورحمة أمي ورحمة أمي ألا ما ناديلك رجال البلاد يكسروا لك قرنك ويفهموك قدرك. وبينما هما في ذلك الجدل الصاخب والصياح، والبراد قد أوشك على الاحتراق، إلا من بقية باقية من الشاي المعتق، مرت بالقرب من الدار مظاهرة صاخبة يصيح المشاركون فيها على قلب رجل واحد: الشعب يريد إسقاط النظام.. الشعب يريد إسقاط النظام.. تونس تونس حرة حرة والتجمع على برة. وقفت منانة مزهوة فرحانة، وهي تنظر لجحا، وقالت له: - منانة: آش رايك ناديهم لك توا يكسروا لك راسك.. نقول لهم اللي أنت نهار الكل تمدح في ابن علي وتسب في الثوار ورجال البلاد.. بدأ جحا يرتعش خوفا، وبعد هنيهة سقط على الأرض مغشيا عليه، وانكفأ على ثيابه الوسخة ما بقي في البراد من شاي أحمر، وكادت ثيابه تحترق.. وسمعته منانة يقول فيما يقول هاذيا غير عالم: الشعب يريد إسقاط المدام.. فرفسته بقدميها وخرجت تعرج من باب الكوخ، لتجد دجاجاتها هائجات، والديك الرومي يردد كأنه من زمرة الأمن الغاضب: قلقل قلقل قلقل قلقل قلقل قلقل