وزارة التربية تنظم حركة استثنائية لتسديد شغورات بإدارة المدارس الابتدائية    انطلاق جلسة عامة للنظر في مشروع تنقيح القانون عدد 69 لسنة 2003 المتعلق بمراكز الاصطياف وترفيه الأطفال    الرياحي: أسعار لحم الضأن لدى القصابين خياليّة وأرباحهم في الكلغ تصل إلى 20 دينار..    فتوى تهم التونسيين بمناسبة عيد الاضحى ...ماهي ؟    لاعبة التنس الأمريكية جيسيكا بيغولا تكشف عن امكانية غيابها عن بطولة رولان غاروس    الكشف عن وفاق إجرامي قصد اجتياز الحدود البحرية خلسة..وهذه التفاصيل..    متى موعد عيد الأضحى ؟ وكم عدد أيام العطل في الدول الإسلامية؟    في قضية رفعها ضده نقابي أمني..تأخير محاكمة الغنوشي    أخبار المال والأعمال    معهد الإحصاء ..تواصل ارتفاع الأسعار.. وتراجع طفيف لنسبة التضخّم    أستاذ إقتصاد :'' وضعيتنا مع صندوق النقد غير مرضية ..''    «فكر أرحب من السماء» شي والثقافة الفرنسية    مشروع مصنع ثلاثي الفسفاط الرفيع المظيلة على طاولة الحكومة    النادي الإفريقي: هيكل دخيل رئيسا جديدا للفريق خلفا ليوسف العلمي    في الصّميم ..«البقلاوة» تُعيد الترجي إلى الأرض    كرة اليد ..بن ثاير والزهاني يقودان الريان للتتويج بالبطولة    ماذا يحدث بين محرز بوصيان ووزير الشباب و الرياضة ؟    وزير الداخلية الليبي لقيس سعيد : ''الاستعدادات جارية لإعادة فتح المعبر الحدودي''    عاجل/ أمطار أحيانا غزيرة تصل الى 60 مم بهذه الولايات بعد الظهر..    حوادث: 13 حالة وفاة خلال يوم واحد فقط..    يدرّب أفارقة في العامرة .. إيقاف مدرّب «كونغ فو» سوداني    هطول كميات من الأمطار عشية اليوم ..التفاصيل    المتلوي: مروج مخدّرات خطير يقع في قبضة الأمن    أريانة: منحرف يهدّد رجلا وإمرأة ويفتكّ سيارتهما    الفنان بلقاسم بوقنّة في حوار ل«الشروق» قبل وفاته مشكلتنا تربوية بالأساس    الفنان بلقاسم بوقنّة في ذمة الله .. وداعا صوت الصحراء الصادق    عدد من المناطق التابعة لولاية بنزرت تشهد اضطرابا في امدادات المياه بداية من العاشرة من ليل الثلاثاء    رئيسة قسم أمراض صدرية: 10% من الأطفال في تونس مصابون بالربو    بعد إطلاق منصة مشتركة مع ليبيا وتونس.. وزير الداخلية الإيطالي يعلن تحرك عالمي لوقف تدفقات الهجرة غير النظامية    البطولة الانقليزية : كريستال بالاس يكتسح مانشستر يونايتد برباعية نظيفة    عاجل- قضية الافارقة غير النظاميين : سعيد يكشف عن مركز تحصل على أكثر من 20 مليار    سيدي حسين: مداهمة "كشك" ليلا والسطو عليه.. الجاني في قبضة الأمن    إشارة جديدة من راصد الزلازل الهولندي.. التفاصيل    عاجل/ هجوم على مستشفى في الصين يخلف قتلى وجرحى..    اتصالات تونس تنخرط في مبادرة "سينما تدور"    هزة أرضية بقوة 4.9 درجات تضرب هذه المنطقة..    ورقة ضغط أم استكمال لحرب الإبادة؟ .. الاحتلال يدفع ب3 فرق لاجتياح رفح    أميركا تتغيب عن الحضور: روسيا تشهد اليوم تنصيب بوتين رئيسا    أولا وأخيرا .. دود الأرض    تحقيق فلسطيني بسرقة 70 مليون دولار من البنوك في غزة    مشروع لإنتاج الكهرباء بالقيروان    سعيد.. سيحال على العدالة كل من تم تعيينه لمحاربة الفساد فانخرط في شبكاته (فيديو)    في لقائه بخبراء من البنك الدولي: وزير الصحة يؤكد على أهمية التعاون المشترك لتحسين الخدمات    اتصالات تونس تنخرط في مبادرة 'سينما تدور'    رياض دغفوس: لا يوجد خطر على الملقحين بهذا اللقاح    بمناسبة اليوم العالمي لغسل الأيدي: يوم تحسيسي بمستشفى شارل نيكول حول أهمية غسل الأيدي للتوقي من الأمراض المعدية    فيديو/ تتويج الروائييْن صحبي كرعاني وعزة فيلالي ب"الكومار الذهبي" للجوائز الأدبية..تصريحات..    تصنيف اللاعبات المحترفات:أنس جابر تتقدم إلى المركز الثامن.    مدنين: استعدادات حثيثة بالميناء التجاري بجرجيس لموسم عودة أبناء تونس المقيمين بالخارج    الفنان محمد عبده يكشف إصابته بالسرطان    نسبة التضخم في تونس تتراجع خلال أفريل 2024    الفنان محمد عبده يُعلن إصابته بالسرطان    بطولة الرابطة المحترفة الثانية : برنامج مباريات الجولة الثانية و العشرين    وزارة الشؤون الثقافية تنعى الفنّان بلقاسم بوڨنّة    مواطنة من قارة آسيا تُعلن إسلامها أمام سماحة مفتي الجمهورية    خطبة الجمعة ..وقفات إيمانية مع قصة لوط عليه السلام في مقاومة الفواحش    ملف الأسبوع .. النفاق في الإسلام ..أنواعه وعلاماته وعقابه في الآخرة !    العمل شرف وعبادة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كيف وجدت تونس بعد عشرين عاما من الفراق؟ ؟ ؟
نشر في الحوار نت يوم 21 - 05 - 2011


سؤال ظل يلح علي آبيا إلا أن يبوح بسره..

سؤال كلما حاولت قمعه ذكرني بأن اليوم هو : 21 مايو آيار 2011 وليس 13 يناير 2011..

خرجت من تونس مهد الذكريات التي لا تنسى خائفا أترقب يوم الجمعة 30 نوفمبر 1990..
ثم عدت إليها لأول مرة يوم الجمعة 1 أبريل نيسان 2011..

أمضيت هناك ستة أسابيع كاملة..
ستة أسابيع مرت كومض البرق الخاطف..

خرجت منها قبل أزيد من عشرين عاما خائفا أترقب..
ثم ودعتها باكيا..

لم أكن أظن أني سأبكي بل ظللت بجأش لا يأبه بمراسيم الوداع..
ظللت واثقا من عيني ألا تسكب قطرة ماء..

فما إن بكى من حولي من المودعين حتى أطيح بجأشي في لمح البصر..

عندها أدركت أن حب الوطن غريزة لا تزيدها الطنطنات الكاذبة عن الوطنية..
غريزة مثل كل غريزة ولا تختلف في شيء أبدا عن أي غريزة..

عندها أدركت أن الأحاسيس والعواطف إثارات وما كان مرتهنا إلى الإثارات لا تجفف ينابيعه إلا بإعتزال مواطن الإثارات قدر الإمكان..

دعك من هذا فهو حديث روح وهمس قلب وما كان ذاك شأنه فلا سلطان عليه للسان ولا لقلم.

دعك من هذا لأعرض عليك بعضا من الهم المشترك من وحي عودتي إلى الحبيبة تونس.

1 لم أدرك أني كنت أنوء بأثقال الغربة.

أجل. كنت أتبرم من وحشات الغربة سيما في بلد مثل ألمانيا ولكني كنت أدفع ذلك بالإنحراط في بعض الأعمال التي توفر حدا من الإستقرار النفسي. كان تلاقينا في المهاجر عامة وفي ألمانيا خاصة مضادا حيويا فاعلا جدا يخفف من آلام الوحشة وإرهاقات الغربة. لم يكن المرء يخلو بنفسه كثيرا لتجد تلك الهموم سبيلها إلى النفس آمنة دون مقاومة. ولكن بمجرد أن وطأت أحب أرض إلي طرا مطلقا والإسلام ديني عرفت أني كنت غريبا. أدركت أني إنتقلت من عالم إلى آخر في حقل العلاقات البشرية. خرجت من تونس قبل أزيد من عشرين عاما ولكم أكن أحمل صفة خال ولا عم. بمجرد عودتي إلتف حولي زهاء عشرين من الأطفال والشباب : هذا يناديني يا عمي وذاك يا خالي. بل إن بعضهم تزوج وأنجب الأبناء. خامرني شعور تمتزج فيه الفرحة بالحزن الثقيل. ربما يرجح الحزن بالفرحة أحيانا. شعور يناديني من مكان قريب : أين طوحت بك الأقدار الغلابة فجعلتك غصنا كاد أن يفقد جذعه؟ شعور حزين لا يسليني فيه سوى أن الذي أصابني لم يكن سوى في سبيل الله وحده سبحانه.

2 أي قيمة روحية للرحم حالت دوننا ودونها كوارث الظلم ونكبات القمع؟

شعرت بدفء الرحم لأول مرة في حياتي. لم أكن وصالا للرحم قبل عشرين عاما غفر الله لي ولكم أجمعين . كانت صلتي تكاد تقتصر على أداء واجبات التهنئة والتعزية. من المواضيع الدينية والفكرية التي أحب معالجتها في خطب الجمعة والدروس والمحاضرات والكتابة : موضوع الرحم. وأجمل ما قيل فيها أنه سبحانه أمر بتقواها إلى جانب تقواه في أول النساء وأنه لم يرض لها سوى إسما مشتقا من أحب أسمائه إليه : الرحمان وأنها معلقة في العرش تدعو مع إطلالة كل فجر جديد من عمر جديد : اللهم صل من وصلني وإقطع من قطعني. ظللت في العشرين عاما المنصرمة خارج تونس أتحدث عن ذلك فلما شعرت بدفء الرحم لأول مرة في حياتي أدركت قيما جديدة ومعاني لصلة الرحم والأنس بالأرحام. عرفت أن الوحدة الوطنية بله الإنسانية إنما تبدأ من تلك الخطوة الأولى. ألا يصح أن نقول : من كان لرحمه قاطعا فهو للوحدة الوطنية والبشرية أقطع؟ أجل. ذلك ما أعتقده دون جدال.

3 طريق آخر إلى الجنة مفتوح ممهد دون عقبات.

هو الطريق الذي قال فيه سبحانه : „ إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما وإخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب إرحمهما كما ربياني صغيرا “. لم أكن بارا بوالدي قبل عشرين عاما برا أرضى به اليوم عن نفسي. وفي مقابل ذلك لم أكن عاقا عقوقا ظاهرا من جانب ولم يكونا بحاجة إلى بر خاص بسبب أنهما لم يبلغا يومها الكبر من جانب آخر. لم أدرك معنى التركيز القرآني على حالة بلوغ الكبر إلا بعد عودتي إلى تونس حيث والد بلغ الكبر بل كبر الكبر أما الوالدة فقد توفاها سبحانه إليه والله وحده يعلم إن كانت تضمر في صدرها لي رضى يمهد إلى الجنة سبيلا آمنا مطمئنا أو غضبا يقود إلى النار قضاء مقضيا لا تنفع معه عبادات كاذبة ولا أعمال خير مآلها الإحباط لا قدر الله سبحانه علي وعليكم . وجدت هناك والدا يحتاج إلى من يؤاكله ويشاربه وينادمه ويسهر على قضاء حاجته. ساهمت مع أهل البيت في ذلك الخير ونفسي تقول لي : أنظر إلى هذا الجهاد اليومي الذي لا يكاد ينقطع ساعة أو ساعتين من ليل أو نهار. أنظر إلى المجاهدين المجهولين الذين تتسابق الملائكة على تدوين مجاهداتهم. أين كنت أيها المحروم؟ كانت المدة قصيرة لا تحملني على تأفف يندلق به صدري بما غرز فينا سبحانه من غرائز لا نملك وأدها ولكن نملك بفضله تهذيبها. ولكن كنت أقول لنفسي : أي جهاد دائب لا تنقض عراه ذلك الذي يأتيه أهل بيتك وإني لأغبطهم على ذلك الخير ورب الكعبة . جهاد يصل الليل بالنهار على إمتداد عشرين عاما كاملة قضيتها أنت في المنفى. لولا التوازن الذي أحمده بإذنه سبحانه إلى حركة النهضة التي تربيت في أحضانها على قيم التكامل والتوازن ..لولا ذاك لهتف الشيطان بهتافه المعهود : أرأيت كيف أن السياسة تقطع أمامك طريقا مضمونا إلى الجنة؟ ذلك التوازن هو الذي يسليني بل يملؤني ثقة ويقينا بأن مقاومة الظلم والطغيان والفساد هو كذلك طريق إلى الجنة مضمون العواقب. الطرق كثيرة ومتشابكة ولكنها محكومة بحاكمين : سلم مراتب الأعمال أي الأولويات من جهة و الرضى بقدر الرحمان لك فهو ينزلك مقامك الذي أنت به جدير وهو معنى من معاني نهيه : ولا تتمنوا ما فضل الله بعضكم على بعض.

4 الناس في تونس مؤدبون وعلى خلق عظيم.

لا أقول ذلك تزلفا أو ملقا بمثل ما يفعل بعض الساسة جريا وراء أصوات إنتخابية. لا ورب الكعبة. بل لمست ذلك مرات ومرات. كلما بادرت إلى الإستعانة برجل منهم للإبانة عن طريق أو حمل متاع أو غير ذلك .. كلما بادرت بذلك ألفيت خلقا عظيما وأدبا جما. يظل الواحد منهم يسير معك مئات من الأمتار بل أميالا أحيانا لإبانة طريق ضل عنك لطول الفراق. قلت في نفسي : لم أكن أنا كذلك قبل عشرين عاما. لم أر خصاما ولم أسمع كلمة نابئة واحدة بله فاحشة. ألم تكن طرقاتنا قبل عشرين عاما فيها من أنكر المنكر أي سب الجلالة ما فيها؟ قلت في نفسي : إرادة الله سبحانه غلابة. أراد الذنب المقطوع وعصابات الفساد في الأرض شيئا مرا بهوية البلاد وخلق أهلها ولكنه سبحانه أراد بهم خيرا. حتى عند الإحتكاك ببعضهم بسبب ضيق في الطريق العام مثلا أو في الأسواق فإنك لا تسمع سوى الكلمة الطيبة.

5 خطة تجفيف منابع التدين لم تقتلع التدين ولكن جففت منابع التعلم.

لا أظن أن هناك خطة في التاريخ والدنيا أشد إثما وخيانة من خطة تجفيف المنابع التي إعتمدها الذنب المقطوع بن علي وعصاباته المفسدة. أن تحارب خصمك بالحديد والنار أو بالمواجهات الإعلامية التشويهية أو بأي صورة أخرى .. هي حرب إما أن يكون مبناها الخديعة أو الغدر. أما أن تعمد إلى محاولة يائسة فاشلة مسبقا لتخريب الذاكرة وإعدامها وهي ذاكرة أمة عريقة.. تلك هي الخيانة العظمى التي يجب أن يقدم سدنتها إلى محكمة تونسية لحما ودما. تلك هي الخيانة العظمى لأنها خيانة ضد هوية أمة بأسرها. من ثبت تورطه في تلك الخيانة فلا تحميه شعارات كذوبة يحتمي بها من مثل التقدمية والديمقراطية. ليس ذلك من باب المحاكمات الفكرية أو الثقافية. العدوان على الثوابت القطعية للأمة دينا وخلقا لا يتستر عليه بإسم حرية الرأي. حرية الرأي فيما فيه خلاف بيننا. تخريب العقول أقسى علينا من تخريب البيوت والعمران ألف مرة ومرة. قادة حملات تجفيف المنابع ليسوا أقل خطرا من أذناب الحزب الحاكم المنحل ولا من البوليس السياسي. هو ثلاثي آثم وفر له الذنب المقطوع حماية أمنية وسياسية حتى لو توزعت الأدوار. أليست معجزة القرن أن يحكم التونسيون على تلك الخطة التجفيفية الآثمة بالنقض الصارم غير القابل لأي مراجعة ولا إستئناف. لم يقصر التونسيون على ذلك فحسب بل أضافوا إليه مجدا آخر هو : تعلقهم بالدين والتدين وتعطشهم إلى العلم والتعلم ومن ذا ولدت الصحوة الثانية. تلك الخطة الآثمة نجا منها التونسيون ولكن أثرا ظل بارزا فيما رأيت وهو أثر ينشأ كما ينشأ أي عارض من بعد مرض خبيث عضال. ما أفلحت تلك الخطة الآثمة في إقتلاع التدين من صدور التونسيين ولكنها حجبت عنهم أقدارا من العلم الديني. ذلك ضرر هو في طريقه إلى الجبر سريعا إن شاء الله تعالى. العلم مثله مثل العمل في أي حقل مشروط بالحرية. ما إن إنداحت أبواب الحرية حتى عادت معارض الكتاب إلى البلاد بأثمان مقبولة وتنوع في العروض الفكرية مع رجحان للفكرة الإسلامية الوسطية المعتدلة.

6 الصحوة الثانية ليست تحديا ولا مشكلة ولكنها إضافة خير.

قالت العرب قالة صحيحة جدا. قالت العرب قديما : ليس من رأى كمن سمع. كنت أسمع عن الصحوة الثانية في تونس سيما بعد إرتبطت الظاهرة بأحداث سليمان في ديسمبر كانون الأول من عام 2006. إعتراني قلق وخامرني خوف. ثم تبين أنه الخوف الزائف ذاته الذي خيم علينا جميعا في بدايات سنوات المحنة الأخيرة ( محنة 1990 2011). كان يومها يساورنا قلق شديد عن مستقبل الإسلام في البلاد بعد الهجمات الكاسحة ضده ثم ما لبثت أن ولدت الصحوة الثانية لتكشف لنا أنه لا خوف على الإسلام في أرض فتحها بالحجة والبرهان. ما إن إنسكبت الطمأنينة في صدورنا من ذلك حتى خالجنا شعور آخر مخيف مبناه أن الصحوة الثانية قد تكون بديلا عن الصحوة الأولى صحوة حركة النهضة في أواخر ستينيات القرن المنصرم في خطابها الإسلامي الوسطي المعتدل. ترد إلينا الأخبار متضاربة. منهم من يهول ومنهم من يهون وكثيرا ما تضيع الحقيقة بين التهويل والتهوين. أنا اليوم ممتلئ أملا بل حقيقة أن الصحوة الثانية التي يسمونها في إيحاء غير إيجابي سلفية وما هي إلا سلفية إيجابية وهل أنا غير سلفي يجمع بين الأصل والعصر أو بين الإتباع والإبتداع أو بين الإتساء والتجديد أنا اليوم ممتلئ بأن الصحوة الثانية التي شرفتها أقدار الرحمان سبحانه لأن تكون سفينة إنقاذ للبلاد من براثن خطة تجفيف المنابع .. أنا ممتلئ بأنها إضافة فكرية لازمة للبلاد من جهة ومن جهة أخرى فإنها صحوة إلى الإعتدال والوسطية أدنى بكثير. هي مجموعة من الشباب المتدين الملتزم الذي حجبت عنه سنون الجمر الحامية إمكانيات التعلم بأدوات العلم المعروفة فلم يجد بدا من النهل من الفضائيات التي يشوبها الغث بمثل ما يشوبها السمين. هم في المحصلة شباب يتوقد حبا للإسلام وللإلتزام به وساهمت عوامل دولية ومحلية معروفة في تحريضه على ذلك. شباب يقبل الحوار والتعلم والإذعان إلى الدليل كما يعي الإختلاف والتنوع والتعدد. شباب فيما رأيت ينضح إخلاصا و لا سبيل معه إلا سبيل الحوار والترشيد ومحاولة بناء سلم الأولويات في طلب العلم بناء للفروع على أصولها ولأقوال الرجال على أدلتها. إذا إستوت من بعد ذلك تلك الصحوة الثانية على أساس تيار فكري له إختلافاته التعددية تحت ظل ثوابت الإسلام العظمى فليكن ذلك إضافة إلى الساحة التونسية. هي إضافة خير. غير أن الطابع العام فضلا عن مؤثرات الثورة وعوامل أخرى يوحي بأن التعدد الفكري والسياسي حقيقة ولكن المنهاج الإسلامي الوسطي المعتدل تفكيرا وإصلاحا هو الغالب على المشهد التونسي بسبب الإرث الزيتوني والمالكي ولا بأس من بعد ذلك من مكملات للمشهد الذي قررت السنن الكونية والإجتماعية بإذنه سبحانه ألا يكون إلا متعددا.

7 إن كاد ليضلنا لولا أن ثبتنا الله.

هذه حقيقة من الحقائق التي لا يدرك معناها سوى المهجر قسرا عن البلاد على إمتداد العقدين المنصرمين. نجح الإعلام المنافق للذيل المقطوع بن علي وعصاباته المفسدة في الترويج لأكذوبة المعجزة الإقتصادية ومن لم تنطل عليك تلك فإنه لم يكن بمنأى عن الوقوع في فخ غير بعيد عنها وهو أن عصابة السلب والنهب لئن تطرفت في محرقة الحريات فإنها شيدت بنى تحتية عتيدة. عندما أتحدث عن نفسي أقول بأني لم أصدق ذلك في البداية فلما كثر الحديث عن ذلك ويا للأسف عندما يكون شيء من ذلك من لدن بعض منا داخلني منه الذي داخلني غير أني إعتصمت بثابت لن أزال به معتصما وهو أني لست حمارا أعلف بأحسن علف في السوق لينعم صاحبي من بعد ذلك بظهري يعلوه بالدرة والسوط. تلك هي الفكرة التي جعلتني في منجإ من تزكية العصابة في الجانب الإقتصادي. فلما وطأت أرض الحبيبة تونس أدركت دون أي عناء أن المعجزة الإقتصادية التي كاد أن يضلنا بها رأس العصابة وأذنابها ليست سوى فرية من الفريات السمجات. طرق لا تتوفر فيها الحدود الدنيا من سلامة الجولان حتى في العاصمة والمدن الكبرى فضلا عن القرى والأرياف. إلا إذا كان التوسع العمراني هو المعيار لمعجزة إقتصادية تونسية وعندها يكون الحديث لهو أطفال.

8 إقبال منقطع النظير على النهضة.
ذاك مشهد لا تخطئه عين. مشهد يقر به الحاقد والخصيم قبل الصديق والخل. مشهد ما يجب أن يفهم إلا ضمن إطاره وسياقه وهو مشهد ما يجب أن يحجب حقائق أخرى كبيرة. الإقبال على النهضة مفهوم اليوم ولا يحتاج لتفسيرات وتأويلات. إقبال يفسره صمود النهضة : مساجين ومحبوسين داخل البلاد ومهجرين. إنقطع نسل النهضة وأضحى كسبها أثرا من بعد عين قالة أكل عليها الدهر وشرب رغم أنها حبيت بمتعاطفين كثر في شهور وسنوات ما قبل الثورة. ظلت النهضة حية وهو أمر يدعو هو الآخر إلى إعتبارات وإستبصارات نظرا في السنن الإجتماعية. لك أن تقول أن المجتمع التونسي إستطاع أن يجعل عقدين كاملين بالكاد من بطش الذنب المقطوع وعصاباته بين قوسين محكمين فما إن إنبلج عهد الثورة والحريات حتى إستعادت القوى السياسية والفكرية والنقابية والشعبية رصيدها الذي حجبته سنوات الجمر الحامية. لو لم تكن الثورة لما كان ذلك بذلك الإتساع ولكن الحاصل قطعا أن الضربات مهما كانت شنيعة وطويلة فإنها لا تقتل الدعوات وتئد الأفكار. لم يعد ذلك أمرا نظريا نقرأه في بطون الكتب ولكنه أمر نعيشه ونحياه. على أن الإقبال الكثيف على النهضة ما يجب أن يحجب حقائق أخرى مهمة من بينها أن بعضا من أولئك قد يقلون وقد يكثرون لا يزكون النهضة ثقافيا وبعضهم لا يزكونها سياسيا كما أن بعضهم يكفر عن ذنبه الذي إقترفه مع الذيل المقطوع وبعضهم الآخر يستصحب دوما إنتهازية ونفعية. كل أولئك في المشهد والزمان وحده كفيل بإعادة الإنتشار ليبقى النافع ويذهب الخبيث. ليس هناك جهل في العموم بالنهضة. حتى في شباب العقدين المنصرمين ليس هناك جهل فادح بالنهضة. أكثر التونسيين يدركون أن النهضة حزب إسلامي خصومته الأساسية مع الأحزاب الأخرى هي الإسلام. أكثرهم يدركون أن النهضة حركة أدنى إلى السلم منها إلى الحرب. أكثرهم يدرك ذلك وليس كلهم طبعا. ليس المطلوب من الناس أجمعين أن تتعرف إلى مواقف النهضة في كل كبيرة وصغيرة. ذلك أمل وحلم قد لا يتحققان لحركة فوق الأرض. هل يعرف المسلمون اليوم كل مواقف الإسلام من القرآن والسنة من كل القضايا المطروحة وفي كل الحقول؟ طبعا لا. العبرة دوما بالأغلب الأعم. حتى في قضية المرأة رغم حساسيتها فإن ما خفي عن الناس من مواقف للنهضة فيها فإن المشهد الشعبي العام الذي تكون فيه المرأة جزء من الصورة كفيل بجبر ما خفي. لك أن تقول بكلمة واحدة : النهضة بحاجة إلى توضيح مواقفها من القضايا التي تهم التونسي ولكنها ليست بحاجة إلى تبرير تلك المواقف فضلا عن الدفاع عنها دفاع المجرم الذي جاء معتذرا.
الفرق بين الموقفين كبير.

9 الفوضى من الإفرازات السلبية الأولى لثورة الحريات والكرامة.

ذلك أمر لا تخطئه عين لا في الشارع ولا في أي مكان تقريبا. لك أن تقول أن المجتمع التونسي كله بالكاد كان يعيش تحت كهف يحجب عنه النور فما أن إندك ذلك الكهف برحيل المخلوع حتى تدافع الناس نهما إلى الحرية وشرها إلى الكرامة ومن أثر ذلك التدافع حصل الذي حصل من بعض مظاهر الفوضى. فوضى في الإعتصامات الجزئية الجهوية المطلبية غير مقدرة للوضع العام أمنيا وسياسيا. وفوضى في التفصي من أداءات عادلة من مثل أداءات شركات الكهرباء والماء والهاتف وضرائب الجولان وغير ذلك. تلك مرحلة من الفوضى مآلها إلى الزوال يوما من بعد يوم. هي فوضى إنتقالية إستثنائية بسبب غياب الدولة وإنبساط الأمن من جهة وبسبب طول حالة الحرمان من الحريات والكرامة من جهة أخرى. على أنه بعد إنتصاب دولة الشعب الشرعية المنتخبة بمؤسساتها الديمقراطية لا يظنن أحد أن الناس سينتقلون من عالم البشرية إلى عالم الملائكة. ولكن العبرة دوما بالأعم الأغلب وليس بالشاذ والقليل إذ لم يسلم حتى مجتمع المدينة في عهده عليه الصلاة والسلام من مثل ذلك.

10 الناس بين الأمل والخوف.

الناس في تونس فيما رأيت قسمان يكادان أن يكونان متوازيين. قسم الشباب وهو من قام بالثورة إما أصالة أو بالإنتصار بأي صورة من صورة الإنتصار للثورة وشبابها. قد لا تعثر على شاب تونسي واحد لا يكون موقفه من الثورة حتى ممن لم يساهم فيها أبدا ولو بمظاهرة إيجابيا إيجابية ملؤها الأمل والتفاؤل والرجاء. وقسم الشيوخ الذين يأملون أن تحقق الثورة أهدافها ولكن الخوف يغلب عليهم بدرجات متفاوتة ولكنها كبيرة وكثيرة بل وخطيرة أحيانا. أغلب الشيوخ فيما رأيت هم كذلك. هناك تقسيم آخر رأيته رأي العين كما يقال : قسم الحضريين وهو يحاكي في مساهمته في الثورة وإنتصاره لها وعمله لذلك قسم الشباب آنف الذكر. وقسم الريفيين والبدويين وإن كان الحديث عن بادية في تونس لا يصح إلا نسبيا الذين يحاكي موقفهم موقف الشيوخ فيما أنف ذكره. أكاد أظفر لأول مرة في حياتي بالمعاني الإيجابية للحضر. الحضر الذين أشاد بهم مؤسس وأبو علم الإجتماع السياسي إبن خلدون. ورد فيهم حديث ولكنه إلى الوضع أدنى وإن لم يكن موضوعا فهو ضعيف شديد الضعف. ولكن المعنى ثابت. ما يهمنا هنا هو أن الناس في تونس فريقان حيال الثورة : الشباب يستوي في ذلك أن يكون شباب الحضر أو شباب الريف : شباب الحضر ساهم في الثورة مباشرة بل كان وقودها وكلما كان الحضر كثيفا ( العاصمة وصفاقس وسوسة ) كانت المساهمة أجلى وأنصع ولكن شباب الريف إما أن يكون ساهم فيها في أثناء إندلاعها أو هو من مناصريها من بعد وقوعها. الفريق الثاني هو فريق الشيوخ وتحكمه العلاقة آنفة الذكر ذاتها : شيوخ الحضر أشد وعيا وإنتصارا للثورة من شيوخ الريف.

11 من هم الثوار الذين طردوا الذيل المقطوع؟

تدبرت الأمر كثيرا وآليت على نفسي ألا أخط إلا حرفا ليس فيه حبة خردل من نفاق حتى لو كان نفاق أناس أبتغي منهم مساندة فكرتي. تدبرت الأمر طويلا فظفرت بما يلي وهو عندي ثابت حتى أتوصل بما يفيد ضده : ظفرت بأن الثوار الذين طردوا بن علي ووضعوا البلاد على طريق الحرية والديمقراطية ليس هم الشعب التونسي بأسره ولا حتى أكثره. لا. هم مئات من الآلاف من الشباب من ذوي الإنتماءات الحضرية في الجملة. البقية في حالة تفرج رغم أن أكثرهم وليس كلهم تصدق عليه القالة القديمة : قلوبهم مع الثورة وسيوفهم مع الذيل المقطوع بن علي وعصاباته المفسدة. أعني لو أن عدد الثائرين كان أكثر من ذلك لحققت الثورة من أول شوط ما يقطع على الدولة ومؤسساتها بل حتى على بعض الأحزاب السياسية التي تحولت إلى أدوار الحزب الحاكم المنحل أو إلى البوليس السياسي من مثل حزب الشابي أي إمكانية لإغتصاب جزء من الثورة وإجهاض بعض منها. أعني أن الثورة لم تكمل مشوارها في إزالة الدولة ومؤسساتها والأحزاب السياسية التي كانت موالية للدولة. أعني أن تسلم المجتمع المدني للثورة في شوطها الثاني لم يكن دوما آمنا من المطبات ومعافى من الأمراض. لن يزال تصوري هو هذا : من حق الثورات أن تكنس الدول ومؤسساتها كنسا فإذا كنست الدولة ومؤسساتها تسلمت قوى المجتمع المدني مشعل الثورة لتقودها إلى بناء دولة جديدة بإختيار شعبي. الذي حدث في تونس لم يكن كذلك مائة بالمائة. نجحت الثورة ولكنها لم تنجح بمعدل كبير يضمن عدم النكوص بالكلية. المرحلة الإنتقالية حبلى : قد تنجب صلاحا وقد تنجب طلاحا. صحيح أن الطلاح لن يرجع بنا إلى يوم 13 يناير ولكننا نأمل أن تكون ثمرة الثورة بقدر دماء زهاء ثلاثمائة شهيد على الأقل دون حساب شهداء آخرين منذ إنتصاب الإحتلال الفرنسي حتى اليوم. آخر معنى من ذلك يمكن إستنباطه هنا : الثورة التي تحققت فوق الأرض في تونس في حاجة ماسة إلى ثورة أخرى موازية في العقول والأفهام سيما عند شباب الأرياف وغيرهم.

الحالة الثورية عند التونسيين فيما رأيت مختلفة جدا كما ونوعا بين الشباب وبين الشيوخ من جهة وبين الحضريين وبين الريفيين من جهة أخرى.

الشعب التونسي حيال الثورة أشبه بجسم ظل يطاره المرض غير أن قلبه الحي النابض ظل معافى سليما يطرد الجراثيم بمضادات حيوية مكنوزة عنده حتى إنتصر ذلك القلب النابض رغم صغر حجمه نسبة إلى الجسم الكبير. ليس الجسم هو الذي قاوم ولكن مضغة فيه ظلت مقاومة. الفضل يرد إلى الجسم كله ولكن عند التفصيل لا يرد الفضل إلى تلك المضغة المقاومة.

12 الوعي بالحرية والديمقراطية أمامه مشاوير أخرى لازمة.

هي إشكالية تراثية قديمة دون ريب. ولكن ما يهمنا منها اليوم هو أن نجاح الثورة التونسية في تحقيق أهدافها ومقاصدها مرتهن بالكلية إلى تقدم الوعي بالحرية والديمقراطية والوحدة الوطنية والعدالة الإجتماعية والهوية العربية الإسلامية والإنتماء العروبي الإسلامي لتونس وقوانين التعدد والتنوع. ذلك تقدم يمكن توصيفه فيما رأيت بما يلي : قيادة النهضة وجزء كبير من نخبتها الفكرية وليس بالضرورة النخبة التنظيمية بلغ من ذلك الشأو الذي ربما ليس فيه مزيد لمستزيد. ذلك ليس مفاجئا لي ولا لمن يعرف أولئك سوى أن المحنة كانت مدرسة راكمت فيهم تلك الأبعاد وصقلتها. أما الذي فاجأني فهو أن كثيرا من أبناء الصف بالتعبير الجديد الذي إستعيض به عن تعبير القاعدة ليسوا على ذلك المنهاج من الصفاء العقدي والفكري حيال مبادئ وعزائم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وغير ذلك مما أنف ذلك وهو لصيق المشهد الذهني العام. التطور في كثير من أبناء الصف على هذا الدرب تحديدا لم يكن تطورا كبيرا. ربما أكون مختلفا عندما أقول وأكتب بأنه لا معنى للإسلام عندي إذا ديست فيه أي قيمة من قيم الحرية وحقوق الإنسان والوحدة والتعدد. أجل. لا معنى له عندي لأن الإسلام عندي هو حريتي والحرية عندي لا أثر لها في غير الإسلام. هو إرتباط جسد بروح. إذا كان بعضنا يعتبر أن ذلك تسويقا للخارج أو أمرا صحيحا ولكنه لا يبلغ المستوى الذي عبرت عنه هنا.. إذا كان بعضنا لا يشاطرني ذلك فإني وإياه لعلى صحة أو خطإ ولا مجال لإلتقاء سياسي إلا الإلتقاء الديني والبشري الذي لا يحجب عن مسلم ولا عن بشر فوق الأرض. بحثت عن تفسير فلم أجد. إستوى الناس في الداخل في المحنة ثم خرج هذا السجين القيادي بعقل إسلامي معاصر وخرج ذاك القاعدي من الزنزانة ذاتها بعقل إسلامي غير معاصر. أمر لم أفهمه ولكن له أخطار وآثار في مستقبل الأيام سيما إذا إنتمى صاحب العقل الإسلامي غير المعاصر إلى الحزب الإسلامي ( حزب حركة النهضة ). ذلك في الأعم الأغلب وقد تجد قياديا ينتمي بعقله المحافظ إلى الصف وقد تجد واحدا من الصف ينتمي بعقله إلى النخبة المتنورة.

13 الأخطار الفكرية تحدق بمستقبل الحركة.

هذا موضوع لا يناسب الحديث المبتسر فيه. لا بد من إطنابات وإسهابات. علاقة الحزب بالحركة في مستقبل الأيام من حيث الإقتباس من التجربة التركية بما يلائم التربة التونسية.. تلك علاقة تتطلب وعيا وليس جندية. الجنود دوما كثر سيما في ساعات اليسر ولكن جنود العقل قليل ما هم. عملية جراحية لا بد أن يقوم عليها أطباء نطاسيون وليسوا هواة ولا متربصين. ما هي حدود المرأة إذا سلمنا ولن أسلم حتى أوارى قبري أن لها حدودا في تحمل المسؤوليات السياسية والإقتصادية والإجتماعية العامة في الدولة والحضارة والثقافة والمجتمع والأمة؟ هل ننشأ محاربين للعالمانية فصلا للإسلام وليس للدين عن الحياة وليس عن قداسة الإجتهاد السياسي ثم نفيئ عالمانيين دون أن نشعر؟ أم هل ننشأ مخاصمين للجمود والتقليد وليس للإتباع فيما لا يليق به وبنا فيه سوى الإتباع ثم نفيء بقالة الإنحطاط الأولى : ليس في الإمكان أحسن مما كان ولم يترك الأولون للآخرين شيئا .. نفيء بذلك إلى تقليديين في الإدارة والسياسة والدولة والشؤون العامة أو إلى جامدين أصلا؟ ما الذين نقتبسه من التجربة الإدارية والديمقراطية الغربية؟ هل تستأنف الحركة من بعد إنفصالها عن الحزب حركة الإجتهاد والتجديد التي بدأتها عام 1982 في مشروع الأولويات؟ وأسئلة أخرى كثيرة وكبيرة وخطيرة لا بد لها من مقاربات. المؤسف أنها مقاربات لا تكاد تخرج عن دائرة النخبة القيادية إما لعجز إداري أو لعقم في إستيعاب الصف الواسع أو لأسباب أخرى أجهلها.

14 هذا ما رسب في : الحركة غير الحركة يا هادي.

أول لقاء حضرته بعد عودتي فيما أذكر هو إنتخاب المكتب المحلي بجرجيس. ما إن مرت دقائق تفرست فيها في الوجوه حتى قلت في نفسي : الحركة غير الحركة يا هادي. اليوم بدأ طور جديد في البلاد وفي الحركة. اليوم إعلان لوفاة الماضي وإعلان آخر مواز لميلاد المستقبل. ذلك ما وقر في صدري ثم أكدت ذلك كل اللقاءات التي حضرتها إلا ما كان منها مفتوحا للشعب كله بطبيعة الحال. شعور أثار في حزنا دون ريب. لن أزال أردد : لم أكن لأكون شيئا مذكورا لولا أنه سبحانه إنتشلني بحركة النهضة يوم 16 يونيو حزيران 1976.ولكنه في مقابل ذلك شعور إيجابي لحمته أن مستقبل الحزب وليس الحركة في أيدي الشباب والجدد وأجيال أخرى عمل بن علي على إطعامها مذاقا مرا للسياسة والإهتمام بالشأن العام فكانت النتيجة أن فر هو مذعورا وأقبل الناس على السياسة والشأن العام. حمدت الله سبحانه أن لي عملا في الحركة وفي حقول الدعوة والثقافة والفكر إرتجالا وحوارا وكتابة ولو لم يكن ذلك كذلك لفاتني ركب الحزب ولفظتني مراكب أخرى ليس لي فيها نصيب. ذلك أمر آخر عمق شعوري بالغربة.

تلك هي رحلة عودتي إلى الحبيبة تونس من بعد فراق طال عقدين وبضعة أشهر..
تلك هي الأحاسيس التي عدت بها إلى ألمانيا..
تلك هي مشاعري نقلتها إلى القارئ بأمانة..
منها ما يخصني دون غيري ومنها ما يشترك فيه غيري معي..

ولكن ما قصة الحنين إلى ألمانيا.

هنا درس بليغ. درس في تقليب القلوب. كنت دوما أقول في نفسي ولإخواني على إمتداد سنوات التهجير الطويلة : أظن أني آخر رجل يندمج في الحياة الأروبية سيما الألمانية إندماجا يزيل عنه بعض عناءات الفراق. كل ما في لا يدعو إلى الإندماج بل يخاصمه. حتى فاجأني شعور لم أعهده في حياتي من قبل قط. شعور إقتحم علي نفسي ذات يوم من الأيام الأخيرة في تونس في أثناء عودتي. شعور يشدني إلى ألمانيا. عجبت له لأول وهلة فلما فحصت الأمر ألفيت أني تعلمت من الأمة الألمانية أمورا غدت شرايين تسري حياة في نفسي. أمور هي من صميم الإسلام وما أكثر خلق الإسلام الذي فرط فيه أهله وتقمصه غيرهم بالسليقة والفطرة أو بمسطرة القانون حتى غدا عادة وتقليدا. إشتقت إلى ألمانيا لما فيها من أسباب النظافة والتنظم والترتيب والوفاء بالمواعيد والإحترام المتبادل بين الناس وصيانة الخصوصيات الشخصية لكل أحد فلا يتقحمها عليك أحد دون إذن منك وإنصراف الناس إلى العمل والنشاط وأخلاق أخرى كثيرة يضيق المجال عنها.

قلت في نفسي : سبحان مقلب القلوب. بالأمس القريب كنت أطير شوقا إلى تونس الحبيبة واليوم أشتاق إلى ألمانيا. ذلك هو الإنسان يألف ويؤلف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف.

أجل. تعلمت من ألمانيا أمورا كثيرة طيبة في الحياة. أمور ما أستبدل الذهب والفضة بها.هي قيم الإسلام لولا أن كثيرا من أمة الإسلام فرطوا فيها عن جهل أو لا مبالاة أو ترخص أو إكراها.

ما تعلمته من ألمانيا ما أريد أن أفرط فيه لأنه صنع حياتي صنعا جديدا.

كيف أجمع بين الحسنيين.

ذلك هو السؤال الكبير. كيف أجمع في قلبي بين تونس وألمانيا. بين رحمي وأهلي وبين قيم لا حياة لي دونها. هما حسنيان. الله علمنا أن الحسنى لا تكون إلا مزدوجة : ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة. هي مسؤولية مزدوجة كذلك. الإزدواج مكتوب علينا فطرة وسنة وواقعا. من رعى الإزدواج في أمره وحياته كان وسطيا ومن إنحاز إلى الأحادية إما أن يكون متكبرا ولا متكبر إلا الله سبحانه أو أن يكون وضيعا يعلى ولا يعلو.

هما حسنيان تتكافلان ولا تتقابلان.
هما حسنيان وليستا ضرتان.

الهادي بريك ألمانيا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.