نشره إبراهيم نوار في الثاني من مايو وبينما كنت أشارك في المؤتمر السابع لفلسطينيي أوروبا حول حق العودة جاءني نبأ انتقال والدي إلى الرفيق الأعلى .. كنت من الذين شاركوا للإعداد وتنظيم المؤتمر ولم أرد أن يكون لهذا الحادث تأثير على مجرى الأمور ولكن ما آلمني كثيرا هو اتصال أحد مسؤولي السلطة لإبلاغي بإمكانية السماح لي بالعودة ورؤية والدي ولكن بعد الامتثال لشروط حقيرة ومهينة أعرف جيدا أن والدي ما كان ليقبل بها وهو على قيد الحياة. وكان عنوان المؤتمر وقد حضره ما يزيد على عشرة آلاف مشارك: "العودة حق، لا تفويض ولا تنازل". ولا أخفي أنه خلال السنوات العشر الأخيرة وعبر مشاركاتي في مؤتمرات العودة كانت الحالة التونسية ماثلة أمامي باستمرار.. وكنت كثيرا ما أرد على السؤال: "لماذا لا ترجع إلى بلدك"؟ بالقول لنعمل سويا على عودة 8 ملايين فلسطيني لوطنهم وأرضهم المغتصبة ونساعد ما يقرب من عشرة ملايين تونسي على استرجاع حق المواطنة في بلدهم. وربما من المفيد التذكير بأنه لا توجد أية قضية مرفوعة ضدي أو ضد أي من أفراد أسرتي ولا يوجد أي حكم قضائي بحقي ولكن دفاعي عن أصحاب الحقوق وتعريف الشعب وأصحاب القرار بسويسرا بالمظلمة المسلطة على الشعب التونسي اعتبر جرما يحرم صاحبه من أبسط حقوق المواطنة كحق السفر إلى بلده وزيارة أسرته وإلقاء نظرة الوداع على الوالد. وفي سنة 1998 تقدمت زوجتي بطلب تجديد جوازها لدى السفارة التونسية ببرن وقيل لنا وقتها أن الأمر سوف يتطلب بضعة أسابيع. ومرت الأسابيع والأشهر ولم نتلق أي رد. وتقدمت بطلب لتغيير جوازي القديم ورغم مراسلاتي المتعددة للجهات المختصة لم نتلق أي رد كتابي وذلك منذ ما يزيد عن 11 سنة. وأريد التنبيه بأنه خلال السنوات الأخيرة ومنذ صائفة 2005 قابلت بجنيف عددا من الأشخاص قدموا أنفسهم على أنهم مبعوثين لتسهيل عودة المهجرين وأن الأمر يتم تحت إشراف مباشر من بن علي الرئيس الحالي لتونس. كانت كل هذه اللقاءات تنتهي كما بدأت لسبب بديهي أن عقلية هؤلاء لا يمكنها استيعاب أصل المشكلة وأن الحل هو سياسي وليس إنساني وجماعي وليس فردي ويتم في إطار مصالحة وطنية حقيقية وليس عبر هبة من أطراف تعوزها الشرعية. ويؤسفني التذكير بأن هناك قائمة مستهدفة بهذه الحملة وأن البعض من هؤلاء ولأسباب خاصة بهم ركبوا سفينة الوهم وأن بعضهم بدأ في الترويج لبضاعة بن علي الفاسدة. وأثناء شهر نوفمبر 2008 وضمن فعاليات الملتقى العربي الدولي لحق العودة الذي انعقد في دمشق كنت ألقي محاضرة بعنوان: "حق العودة وحقوق الإنسان" وكان الأمر يتعلق بفلسطين إلا أن أول متدخل من الحضور كان رئيس جمعية حرية وإنصاف التونسية الذي ذكرني وذكر كل الحضور بأن عودة المهجرين إلى أوطانهم (وذكر الحالة التونسية) هي مطلب أساسي وغير قابل للمساومة. وقد تمكن والدي عليه رحمة الله من زيارتي سنة 1998 بعد سبع سنوات من الفراق وكان دائما يقول لي: "لا ترجع إلا ورأسك مرفوعا .. وأي تضحية في سبيل الوطن تهون". وكان والدي أميا ولكن كانت له مواقف وصولات. ففي سنة 1990 كان يقول لي "نحن يا ولدي لا نحتاج لتزوير التاريخ لنثبت ولاءنا للوطن ومحاربتنا للمستعمر". وكان يقول هذا الكلام بعدما قام النظام الحاكم بتزوير الانتخابات التشريعية في 1989 وبعدما بدأت وسائل النظام الدعائية تتحدث عن دور لبن علي في محاربة الاستعمار الفرنسي. وكنت أقف إلى جانب والدي بمقربة نفق[i] بطول مئات الأمتار وبمدخله شجرة تين كبيرة وكان يقول:"لما كنا نحمي المقاومين ونمدهم بما يلزم داخل هذا النفق كان غيرنا يعمل مخبرا متعاونا مع الاحتلال الفرنسي واليوم نرى شهادات الزور تتوالى لتجعل من النكرات أبطالا ومقاومين". وروى أبي أن مخابرات أمن الدولة استجوبته سنة 1998 في محلات الشرطة في ولاية (محافظة) المهدية ولمدة 12 ساعة متتالية وكان الأمر يتعلق بخيانة ابنه (صاحب هذه المراسلة) لوطنه وتشويه سمعة البلاد بالخارج... وكان من ضمن الأسئلة: "هل زوجتك (أي أمي) وبناتك يلبسن الحجاب؟" فغضب عليه رحمة الله غضبا شديدا وقال لهم: "إن كان ولدي يشوه البلاد بالخارج فأنتم دمرتم البلاد في الداخل ..لم يكن الاستعمار الفرنسي يتدخل في لباس نسائنا وبناتنا وما كان يتدخل في معتقداتنا الشخصية ومع ذلك حاربناه...لهذا أنا موقن أن الأجيال القادمة لن ترضى بالظلم الذي تسلطونه على الشعب". ولم يكن والدي يتابع الأخبار ولا يفهم كثيرا منها ولكن كان يتصل بي ويسألني إن كان هناك حدث ما متصل بالوضع التونسي وكنت في غالب الأحيان أشرح له بعض الأمور ولما سألته مرة عن سبب سؤاله قال لي :"كلما تزورنا دورية للشرطة أعرف أن هناك حدث ما وكلما كانوا قساة معنا في السؤال أعرف أنه حصلت لهم مشكلة وأن الأمر كله في صالح الوطن فنصبر ونقول هذا نصيبنا ومساهمتنا في التغيير. وكان يقول لي: "لما كنت متابعا من أجهزة الشرطة أعرف أنك وأصدقائك على حق فلا بد من التضحيات ولا تتراجعوا...الوطن يحتاج لرجال لحمايته... وكنت اتصلت به في اليوم التالي من رحيل بوش عن كرسي الرئاسة لإعلامه وتهنئته وقد فاجأني بالقول: "هذا الإنسان رحل غير مأسوف عليه وتتبعه لعنة التاريخ..ذهب "جورج" بوش وترك البوشيات العربية لتتبعها لعنة شعوبها". واتصلت به لطلب الإذن بالذهاب إلى غزة إبان القصف الصهيوني في جانفي/يناير 2009 وذلك ضمن وفد برلماني سويسري وقال لي بالحرف الواحد :"هذا أقل ما يمكن أن يقدم لأهل غزة مشددا على ضرورة الذهاب لمؤازرتهم ومساندتهم". وهنا أريد أن أوضح أن السلطات المصرية رفضت السماح لنا بالعبور متعللة بالظروف الأمنية وخوفا على سلامتنا ورغم توقيعنا على كافة الالتزامات التي نتعهد فيها بتحملنا تبعات الذهاب إلى غزة ... ولم تسمح لنا إلا بعد توقف القصف الصهيوني وكأنها أصبحت تخاف علينا أكثر من خوف الوالدين على الأبناء. سيبقى يوم 2 مايو 2009 يوم رحيل والدي محمد بن بلقاسم بن علي بن عمر الغربي مناسبة أتذكر فيها هذه المواقف من رجل بسيط وصادق وستبقى سيرته نبراسا لي ولأبنائي وأحفادي وأصدقائي من حولي. أنور الغربي جنيف /سويسرا