..هكذا في تسعينات القرن الماضي نجازى بالشتائم وننعت بالمروق ونودع مغاغير سوداء تحول دون معانقة الأوطان وينتزع منا الوعي بالواقع فضلا عن التأثير فيه..إنها حواجز بمثابة مرايا محدّبة تعكس الصورة رأسا على عقب لتجعل منا جزافا مخلوقاتٍ طفيلية مؤذية تنطوي على الشر، تحمل بذور الفتنة ، "خمينية " الانتماء ، أصحاب نوايا مبيتة أو نوايا " مقعمزة " كما وصفنا أحد الوزراء الراحلين..نتربص بالسلطة الدوائر للانقضاض عليها ونتستّر بالدين لمآرب سياسية.. والأمرّ من السجن أن تسحب عليك صفات ورذائل كنت تكرس حياتك لمقاومتها والقضاء المبرم على منابتها وإذا بها تستحيل إلى تُهم تكبل يديك إلى الوراء وتنقلك على عربة صهريج إلى بر بلا أمان، بر من الأهوال والأغوال لا رحمة في كنفه ولا إنسانية تُعامل كأنك أكثر بكثير من عدو غادر..ولا مقام لك إلا في ظلمة الدهاليز... كذا أصبحنا وكذا صوّرتنا وسائل الإعلام " الحرة والنزيهة "بريشتها المبدعة والخلاقة وجعلت منا حشرات تلوّث الأجواء وما فتئت تروّج على صفحاتها أصنافا مصنفة من المبيدات.. أحيانًا كنا نضحك حقا بملء أفواهنا ونحن نُحشر جنبا إلى جنب مع قطاع الطرق والقتلة والمحتالين وتجار المخدرات.. كنا نسايرهم إلى حد التملّق ونحن دخلاء على عالَمهم..جئنا نضايقهم في عقر مضاجعهم..ولم يكن مجيئنا مرحَّبا به من طرفهم، فقد ضاقت السجون من كثرتنا وانسحبت عليهم قسوة المعاملة..واختنقت الأنفاس. ولقد صادف أن حُشر معنا في نفس الزنزانة رجل وسيم جدّا و"كرزمائي" جدا، عريض المنكبين جدّا جهوري الصوت جدّا ، طويل القامة، شديد بياض الثياب ، شديد سواد الشعر،لا يرى عليه أثر السجن ولا يعرفه منا أحد..ويتفشّى الخبر بطيئا عبر همس الأثير المتنقل من الأفواه إلى طبلة الآذان..ينبئنا بأننا ننام ونستيقظ بحضرة "السيد المعتمد "وقد جيء به مكبّلا من موطن شغله بإحدى معتمديات الجنوب صحبة أحد حجّابه بتهمة تزييف وثائق واختلاس أموال الحظائر المعدّة للمعوزين وضعاف الحال وفاقدي السّند.. قال إنه يحبّنا بلا حدود ويكن لنا الإجلال بلا حدود وذلك حتى قبل أن يتعرف على وجوهِنا ..ثم مضى ينصّب نفسه من جديد، عن قصد أو عن غير قصد..معتمدا في زنزانتنا ومسؤولا عنا..ليكرر على مسامعنا جملة من النصائح والتوجيهات بأسلوب متكلس مقيت..أسلوب زخرت به وسائل الإعلام واستهلكته وامتصت رحيقه حتى النخاع، أسلوب من قبيل : توخي الاعتدال والعدول عن التشدد، ونبذ التطرف والعنف والتسامح والوسطية والاعتدال وبلادنا مهد الحضارات وموضع قدم عليسا ومطمور روما التي أحرقت قرطاج عن بكرة أبيها ولم ينج منها حتى الواهن المستسلم... كنا صامتين ونحن ندرك أنه يروم القفز إلى الوراء لينفي 15 قرنا من تاريخنا وليعيد الاعتبار إلى الجنرالات الفينيقية المنهزمة و يجثو على ركبتيه موليا وجهه شطر القصور الرومانية النخرة و يخرّ ساجدا تعظيما لسواريها المتردمة ينفخ عبثا في صور قيمها المتغطرسة وهي التي داست وجود أجدادنا بحوافر البغال و الحمير... بعد أن جعلت منهم عبيدا تُعدّهم أكلة شهية للأسود الجائعة في مشاهدة "فرجوية" حافلة بالأسياد و الأمجاد...كنا صامتين..و السيد المعتمد يعِظنا..و لم يكن يسعنا سوى الصمت،أو الإيغال في الضحك، أو البكاء، في بلد تتصدر فيه اللصوصيّة و الاحتيال و الابتزاز و استغلال النفوذ و التزوير.. واجهات المنابر لتسدي إلى الناس من عليائها فيضا من النصائح و المواعظ و الحِكم و التوجيهات.. صامتين و نحن نتساءل من أيّ مخزن جمع وليّ أمرنا تلك المفردات... أم تراه اختلسها من جملة ما اختلس من أموال المعدمين... درر يدور بها لسانه بذلاقة المحترف...المحنك... صامتين..و يأبى ديننا، و تأبى شمائلنا أن تخدش مشاعره و لو بكلمة واحدة، رغم يقيننا أنّه فاقد للمشاعر و للضمير معا.. و نحن نعمل على اندمال الجراح لا على تعميقها.. صامتين لأنّ الكلمة في مثل هذا المقام تفقد روحها و مغزاها لتصبح ضربا من الطّنين أو النقر على الخشب... صامتين.. لأنّ الممارسة وحدها كفيلة بتمييز الخيط الأبيض.. من الخيط الأسود..