يعتبر الجاحظ مسعود الصغير أن مفهوم "الثقافة" قد ولد ولادة مادية من حيث الدلالة الوضعية الأولى. فالدلالة في اللغة العربية عامة، بدأت بداية مادية؛ بحيث تولد المفردة مقترنة بمسمى مادي أولا، ثم تبدأ في التجريد والإنفصال عن علاقتها المادية البدائية، لتتطور دلالتها حسب السياق اللساني. فالشيء يكون أولا، ثم اللفظ المعبر به عنه. فأصل الكلمة في اللغة العربية من مادة "ثقف، يثقف". ففي لسان العرب ثقف الرجل ثقافة، أي صار حاذقا. وغلام ثقف، أي ذو فطنة وذكاء. ويقال ثقف الشيء وهو سرعة التعلم. و"الثقافة" حديدة تكون مع القواس¬¬¬[صانع الأقواس]؛ والرماح[صانع الرماح]؛ يقوم بها الشيء المعوج . وفي المعجم الفلسفي لكريستيان كودان Godin، تعني الثقافة في معناها الفيزيائي، العمل في الأرض من أجل جني ثمار لم تعطاها تلقائيا أي الأرض المزروعة ومنتجاها. وفي المعنى الفكري أو المعنوي هي فعل تنمية أو تهذيب القدرات النفسية أو الذهنية من أجل جني نتائج لم تنتج تلقائيا، وهي مجموع الأرباح المحصل عليها، وقد نقل شيشرون (106-43 ق.م) كلمة الثقافة إلى مجال الروح في إطار إثبات تشابه الحقل الروحي مع تهذيب الأرض والتعليم: ثقافة الروح (cultura animi)، ترجمة لاتينية عن Paidéia لها بذروها وثمارها، فكما أن الفلاح يقتلع النباتات الضارة من حقله، فالثقافة تقتلع عيوب الروح. وفي معناها الأنتروبولوجي، تعني الثقافة مجموع الإنتاجات المادية(التقنيات، الفنون...) وغير المادية (الأسطورة، الخرافات، المعتقدات...) الخاصة بشعب معين. وعادة ما تستعمل الثقافة كرمز الحضارة، لكن تم التفريق بين هذه الأخيرة والثقافة، لأن حقل توسع هذه الأخيرة أي الثقافة أقل وأصغر بكثير من حقل الحضارة كما أن حضارة الإنبعاث والنهضة والحضارة الغربية تحتويان على عدة ثقافات، فالألمانيون يضعون Kulturكتعبير للتداخل الروحي للحضارة، وخارج الطرق والأساليب المتحضرة . هذا المنحى الأخير الذي يحضر في تعريف مفهوم الثقافة باعتباره حضارة هو الذي يستحضره رالف بيلز إذ يعتبرها مجموع أساليب السلوك النمطية التي يتعلمها المرء من خلال عضويته في جماعة إجتماعية . وهذا ما يفيد أن فعل التثقيف يستلزم ضمن ما يستلزمه: الإجتماع البشري، التعلم، الإصطلاح، اللغة. وكما يقول سليم دولة الثقافة هي من منظور أنتروبولوجي نسيج من الموز لا تنشأ من فراغ وإنما أوجدها ذلك الكائن الذي يعي الموت دون سواه ، وهو الأمر الذي يجعل "شروط التأنسن تختلف، وتتغير، وتتباين، وتتحول وفق منطق الاختلاف فإذا وجدنا الهنود يفرضون على المرأة أن تقبر مع زوجها عند موته فإن هذا الإجراء الذي يمكن اعتباره إجراما في شأن الأنثى تعتبره ثقافة الهنود من السلوك النمطي وكل من لا تمتثل لهذا الإجراء تعتبر آثمة لا أخلاقية، شاذة ووقحة وفي كلمة الوقاحة دلالة على اختراق سلم القيم الاجتماعية، هناك تصلب يبديه الشاذ أو العاق إزاء "المحمود الاجتماعي" . وبالنسبة نورثروب فراي هناك ثلاث طرق لتعريف الثقافة ف"هناك أولا الثقافة كأسلوب حياة، أي تلك الطرق التي يمارس المجتمع من خلالها طقوسه الاجتماعية اليومية. تتضمن هذه الطرق آداب المأكل، والمشرب والملبس. إن أسلوب العشاء الجماعي عند الصينيين واستخدامهم العيدان في مقابل أسلوب الأكل الفردي، واستخدام أدوات الطعام في شمال أمريكا هو أحد أمثلة هذه الآداب. ثانيا، هناك الثقافة كإرث مشترك من الذكريات والعادات التاريخية المنقولة بشكل رئيسي عبر اللغة المشتركة وهناك ثالثا، التعبيرات الخلاقة في المجتمع، التي تتجسد في هندسة البناء، الموسيقى، والعلوم، والمؤسسة التعليمية، والفنون التطبيقية" . كما يستعمل مفهوم الثقافة في تحديدها النظري الأولي كمرادف لمفهوم المعرفة، فيقال إن ثقافة مجتمع أو امة أو طبقة أو جماعة إجتماعية ، هي طريقتها في معرفة الأشياء وبناء إدراك حولها. ولاشك في الاشتراك في المعنى بين الثقافة Cultureوالمعرفة Connaissanceمرده إلى أن كليهما يحمل معنى الوعي Conscience، وهو تمثل الشيء وإدراكه وإدراكه، أي تكوين صور ذهنية عنه تؤسس نوعا من الفهم له، وقدرا من القدرة على تنظيم وترتيب العلاقة بين عناصره بشكل ينزاح فيه الغموض والاستغلاق عنه، فيبدو أقرب ما يكون إلى الشيء "الواضح" . وقد بين معجم كودان ذلك، حيث تستعمل ثقافة الطبقة مثلا كمفهوم ذو أصول ماركسية يعني مجموع أساليب العيش والتفكير الخاصة بطبقة معينة، وتستعمل ثقافة الأغلبية لتعني مجموع التمثلات والاختيارات المميزة للأغلبية الأفراد في المجتمعات الديمقراطية الحديثة وهي في آن واحد مقررة ومثارة من طرف وسائلا إعلام الأغلبية . يتضح إذن أن مفهوم الثقافة لا ينحصر في دلالة واحدة، وكما بين هيرسكوفيتس، يوجد ما يقارب 160 تعريفا لهذه الكلمة، وإزاء اختلاف "علماء الأنثروبولوجيا والفلاسفة ومؤرخي الأفكار حول صياغة تعريف موحد للثقافة صاغ هيرسكوفتيس تعريفه الخاص كالتالي: الثقافة إنما هي كل ما أضافه الإنسان إلى الطبيعة وأنها كل ما يعارض الخام أي أنها كل ما هو اصطناعي وأنها ليست إلا مجرد استجابة لما بيولوجي" . وكما يصعب الفصل بين ما هو طبيعي/بيولوجي وما هو ثقافي /مكتسب، يصعب الفصل بين الثقافة والحضارة، فكلاهما يعبر عن مفهوم مركب ومتشابك، وآية ذلك أن مفهوم كل نمن الثقافة والحضارة أصبح-على سبيل المثال- أحد المتغيرات الأساسية في علم الإجتماع، وعلم الأنثروبولوجيا، كما أن مفهوم الحضارة أصبح يطلق على وصف أشياء وعمليات ونظم، وانساق فكرية مختلفة ومتعارضة؛ ليس في مقاصدها ونتائجها فحسب، وإنما في عناصرها ومكوناتها أيضا، مما اقترب بهذا المفهوم إلى مثل مفاهيم الحداثة والتقدم والرقي؛ الأمر الذي يؤدي إلى طمس دلالات المفهوم" . الصعوبة ذاتها تتبدى في الجمع بين الثقافة والمعرفة، وهنا يوضح بلقزيز أنه إذا كان بوسعنا النظر إلى المعرفة كلحظة من لحظات الثقافة، هي لحظة إنتاج التصورات النظرية حول موضوعات العالم الخارجي(=الطبيعي الاجتماعي)، ففي الوسع ملاحظة الجغرافيا الأوسع التي تغطيها الثقافة في ميدان التعبير، والتي تفيض عن حدود التعبير المعرفي بوصفه تعبيرا نظريا مجردا، أو تعبيرا تجريبيا مختبريا عن العالم . إن هذه الصعوبات تجتمع لتحيل على تعقد الظاهرة الإنسانية في أبعادها ومكوناتها المختلفة والتي تجعل من التمييز النظري بين الطبيعي والثقافي في الإنسان أمرا يطرح في الواقع إشكالات وعلامات إستفهام كثيرة تبقى معلقة، أهمها: هل تمثل الثقافة امتدادا للطبيعة أم قطيعة لها؟ وما هي تمظهرات هذه العلاقة في السلوك والشخصية الإنسانيين على مستوى الحق واللعب والمرأة مثلا؟