وفي التسعينات تدلهم سنوات القهر والحصار، وتوضع تحت مجهر المراقبة الإدارية المستمرة، تحصي أنفاسك بدقة متناهية بواسطة أحدث ما توصل إليه العقل البشري من إبداع علمي: الحاسوب..في كل ساعتين بالتدقيق أنت ملزم بالقهر لا بالقانون بمباشرة مخفر البوليس تقطع المسافات مترجلا تحت حر الصيف أو زمهرير الشتاء لتعلن عن تواجدك وتوقع بإمضائك، ولا يكون الإمضاء إلا بالقلم الجاف ، ولن يسلّمك الأعوان هناك أقلامَهم "حتى لا تلوثه بأصابعك" وحاشى لأصابعك الطاهرة من التلوث، لذلك كان لزاما عليك أن تمضي بقلم تحمله معك ؛ ويصبح ذلك شغلا تتعاطاه يوميا بعد فصلك عن وظيفتك كأستاذ ومربي، وعن المجتمع بأسره بمن في ذلك أقرب المقربين إليك من أهلك وذويك؛ ويتم التّوقيع على كراس مودع هناك، وعلى صفحته الأولى تُشد صورتك وملخص سريع "لسوابقك العدلية"، كراس تشتريه بنفسك وتغلفه بغلاف هم يحددون لك لونه وحجمه وكيفية التغليف..وفي كل زيارة للمركز تنال ما تجود به عليك قرائحهم من ضروب السباب وأصناف الشتائم ولإذلال؛ وتداس كرامتك يوميا تحت نعل أبسط الأعوان.لكل منهم الحق بأن يتسلى باستنطاقك استنطاقا طويلا مفصلا يحوم حول جزئيات حياتك ومنعرجاتها منذ أن ولدتك أمك إلى يوم الناس..كما يتعمد تركك قائما في زاوية الانتظار دون الالتفات إليك لفترات تطول أو تقصر، وفجأة يلتفت إليك أحدهم، وتشعر أن لحظة الانعتاق بدأت تقترب لتنهي مهمة الإمضاء على الكراس ولتخرج سالما معفى؛ غير أن ذلك لا يحصل إلا بعد فحوص طويلة يجريها أحدهم على قسمات وجهك وسائر بدنك بنظرات ملؤها السخرية والامتهان..ولكي تؤول هذه الفحوص إلى نهاية آمنة عليك أن تقابلها بدورك بملامح الرضا والاستسلام، أو حتى الندامة : ارفع له يدك بالتحية، بُشّ له. ابتسم ابتسامة بريئة صافية تعبيرا عن ندمك على ما حصل منك. أما هو، فمن حقه المطلق أن يظل مكشرا عن أنياب نخرها السوس والتبغ؛ وقد يتحول العبوس إلى سخرية تستبطن الشماتة والتشفي..وخاصة إذا صادفك بمعية ثلة من زملائه، عندها ينهال عليك وابل من الأسئلة : متى وُلدت ؟ متى ستموت ؟ لا تقل الله أعلم، لأننا أيضا نعلم . هل تقرّ بأن وجودك في هذا الكون يفسده ؟ ما هي الوزارة التي كنت تنوي استلامها فيما لو انتصرت الحركة التي كنت تنتمي إليها طبعا ؟ ما هو قيس حذائك المتهرئ ؟ إنه الوحيد على ما يبدو..؟ أرجح أنه مثقوب من الأسفل، أمَا تنوي ترقيعه ؟ أجزم صادقا أنك تداركته بالترقيع وأنت الحازم في المحافظة على أناقتك، أليس كذلك؟ ما اسم "الملاخ" الذي تولى ترقيعه؟ هل كنت تعرفه؟ هل تسلم منك أجرة ؟ لعله امتنع عن ذلك تزلفا إلى الحزب الذي كنت علما من أعلامه ؟ ولا تزال يا حضرة الوزير.. قل لي هل كنت تزور إسرائيل..؟ للدعوة في سبيل الله طبعا..ولا أعني غير ذلك.. "تل أبيب" مكتظة بالمساجد..أليس كذلك ؟ هل صادف أن التقيت ب "شارون"..؟ ولو لاحتساء قهوة على الرصيف..أدرك أن حبل المودة بينكما متين.. اعترف..اعترف..الإقرار فضيلة..ما لك صامت يا شارون؟ من أين تعول أفراد أسرتك يوميا وأنت العاطل عن الشغل ؟؟ فضلا عن أن الله هو الرزاق، هل فكرت في السرقة ؟ قل له : هل فكرت في الإقلاع عنها ؟ ويربّت أحدهم على كتفك ويلامس براحته طرف ذقنك تمهيدا لِلَطمة أو لكمة على البطن موجعة.. كذا يسترسلون في طلق حممهم الجهنمية غير أنهم في نهاية المطاف الطويل يجدون أنفسهم عاجزين عن اختراق جدار أصم .." لم تتحرك.. لم تتغير..ترفع إليهم عينين لا يمكن لأي كلمة في الكون أن تقولها أو تعبر عنها..كانت نظراتك احتقارا..تجاوزا كأنك لا تراهم ولا تسمعهم، لم تكن في تلك اللحظات حيا فقط ..كنت مملوءا بالبذرة التي تعرف أنها تواجه الشتاء لكن لا ترى سوى الربيع...وأيضا بتفاؤل شجرة التين التي تترك أوراقها تتساقط، لأن أوراقا أخرى فتية وشديدة الخضرة تنتظرها وستأتي...كانت نظراتك ثابتة ...مستقرة...شديدة اللمعان تقول ما لا يمكن أن يقوله أي شيء على هذه الأرض.كنت صلبا كعود الرمان..قويا كخيط الحرير ثابتا كالأرض أو الجبال مسترسلا كالأنهار وكان صمتك تحديا أكبر من الكلمات..صمت كالسهام أو كمسلة توخز أعينهم.." وعند نهاية كل أسبوع أو في بداياته وفي ظلمة الليل المخيف والناس نيام والشوارع مقفرة ولا كائن حي يدب على وجه الأرض ترسو أمام بابك عربة المخفر بأضوائها الكاشفة المثيرة للفزع ممتلئة بالعساكر يطوّقون بيتك ويقتحمون بابه بعنجهية يعسر على القلم تشخيصها وتفتَّش الحجرات وأحيانا تمزًّق الحشايا وتبعثر الكتب وتداس البسط والسجاجيد وتحجز الأوراق حتى أوراق النبات والشجر المحفوظة العلب لتتداوى بها..وتنتهي الزوبعة كحرب خاطفة تؤول إلى صمت مطبق..مخلفة وراءها عويل صبية وابتهالات أم.. """""""""""""""""""""
حصار ، وذا هو شكل من أشكاله، حصار من حولك فولاذي مدجج ولا قوى الأرض قاطبة لها القدرة على اختراقه..حصار محكم الأقفال، أصم أشرس من جدران السجون، يستمد نسغه من منطق الاستكبار في بؤرة لا تخمد فيها حرائق الظلم أبدا، لكن تخمد صرخة المنكوب وأنة اليتيم ونشيج الثكلى ؛ حصار آثم ما برحت تحمل أوزاره على عاتقك، والراية مرفوعة يمينك وتسير الهوينى بين جحافل المستضعفين والمجاهدين صوب مرافئ النجاة..عبر السباخ ولا قطرة ماء، عبر القفار ولا ظلال؛ تسير والخطى ثابتة والروح لا تكل والأمل لا ينضب لكن الجسد..ذلك الإطار الزجاجي الرقيق، السريع الانكسار..سرعان ما أخذ يتهشم، هكذا نحل عودك، داهمتك الأسقام لترسو بك في محطة السرير الأبيض لبضعة أيام، ثم أسابيع وفي لحظة ما وفي غفلة عن الأسماع وعن الأبصار حصل الانعتاق الأبدي...الله أكبر...دُمّرت حصون الزمان والمكان وتحطمت سلاسل الكيد والبطش، لترفرف الروح مشرقة بنور ربها ؛ كذا ينتهي كل كائن حي تُحجب عنه الشمس وتجفف عنه منابع الماء ، كذا ينهار ولا يضمحل، ينهار مهما علت همته وعظم إيمانه واشتدت قدرته على مغالبة الطغيان ..مغالبة كنت تطوي مراحلها في طمأنينة وأناة ، لكنها استمرت بلا روافد، ولا ظهير، ولا صهوة، ولا صهيل ولا سنان، ولا حتى موضع قدم على أرض الأجداد والأحفاد..وماذا على الحسين أن يفعل في كربلاء الخذلان ، إلا أن يتلقى الشهادة بثغر باسم وهمة عالية... كذا كان شأن ضحايا النازية في غرف الغاز، في المحتشدات، مع شيء من الفوارق، فقط من حيث التقنيات: * النازية في بلادهم تعمل في العلن، وتعمل نازيتنا في طي الكتمان. * يختنق ضحاياهم في لحظة واحدة، وتكتم أنفاس ضحايانا في أوقات مبعثرة. * تضمهم محتشدات مؤسسة ومعترف بها ، لها أقبية وسقوف وقضبان، محتشدات قائمة بحراسها وعسسها، وتظل مساكننا ومدننا وقرانا وفضاءاتنا محتشدات مقنعة محجوبة عن الأبصار. * يختنقون بغاز الخردل، ونختنق بغاز القهر والهوان. * نازيتهم تقليدية تُمارس بطرق بدائية أو متخلفة، يقف وراءها فكر عنصري وينفذها مجرمو حرب بيد أن النازية عندنا معصرنة ، مأمونة العواقب، مؤمّنة من التهم، تعمل بأحدث تقنيات القرن الجديد : تحرق بلا نار، تصعق بلا كهرباء، تكبل بلا سلاسل، تنكل بلا أصفاد، تطعن بلا سكاكين، تطلق بلا رصاص.. إنها النازية الذهنية أو الافتراضية، نازية الحواسيب والانترنت، تحيط بها هالة من "الفكر المستنير " تتشح بنسيج من آلاف الشعارات المزركشة ببريق التسامح والانفتاح ولاعتدال والمحبة والمساواة والتنمية والوطنية والتحضر والضمير... ولئن كان لضحايا النازية أنصار أوقفوا النزيف وقلبوا الموازين فهل نظل غلى البد في زمرة الغرباء والمهجرين والمنبوذين في مربع الإقصاء؟؟وهل تُهدر روحك الغالية بلا ثمن؟ولا أحسب إلا أن دمك الطاهر غطى الأفق ونقّى من الدنس كل بيت وكل زقاق وكل حبة من تراب الوطن..دم مهدور، ولا صوت مستغيث ولا جار مجير ولا يد توقف النزيف..كذا تظل رياح الجور هوجاء تحطم الأغصان وتقلع الجذوع وتمزق الأوصال، ولا حامي يحمي من طائلة الجفاف..وتجدب الأرض وتجدب النفوس على السواء.. كذا اختنقت أنفاسك أيها العزيز علينا، في طي الكتمان الأصم، وهرعنا بنعشك إلى ذلك المكان المسيّج المعزول في يوم مدجن عصيب والرذاذ يبلل رؤوسا مكشوفة وشعرا أشعث.. سرنا في موكب صامت ضئيل.. أحذية مرقعة وهندام رث قديم ووجوه غائمة..سرنا الهوينى، وسيارة المخابرات ترافقنا..يلفّنا عجز حتى عن التكبير، وفي بهو الجامع عيّنوا من يؤمنا في الصلاة عليك، كما عيّنوا من أي مسلك تعبر الجنازة، ومن أي باب ندخل المقبرة، وفي أي موقع يُحفر القبر، ومن أي باب يتم التفرق والخروج.. هنالك بالضبط يقع تشتيت المشيّعين وهم ليسو في حاجة إلى ذلك ، أو يوقف البعض منهم للإدلاء بهويتهم وبنوعية العلاقة التي كانت تربطهم بك أيها الفقيد..ثم بعدها هل يسدل الستار؟ هل تموت البذرة في جوف الزمن السحيق... أيها الحبيب الرابض هناك، لبّيت نداء الواجب وهبت، فداءا للدعوة روحك وجسدك بلا وهن فوهبك الله العزة والشهادة والمجد.. نم قرير العين، راضيا مرضيا..ثق وأنت في علم الغيب بأن هذه القبور الشائكة من حولك والمبعثرة ستتفجر براكينها يوما وينصهر إسفلتها وحديدها ونحاسها في حمم ، حمم ونحاس منصهر...يدك أديم الأرض كل الأرض.. وبدخانه يغشى البحار كل البحار...آت هو ذلك اليوم الذي سيتحول فيه رمادك إلى صواعق مدمدمة ورعود تجرف سيولها ركام الرواسب والظلم والاعتداء، عندها فقط ستيْنع البذور التي غرستها يداك ، وتثمر التربة التي وطأتها قدماك، ثق...ستنفجر براكينها طالما سجد لله مقهور أو جأر إليه صوت مغمور أو تضرعت إليه أكف الأبرياء..ثق بالله وأنت بجواره... ثقة لا تنفصم..آت...هو... ...ذلك اليوم... ربيع 2001