بسم الله الرحمان الرحيم كان الإعلام ولازال سلطة غير مُتوّجة ، تتبوأ في الحكومات مراكزَ السيادة ،مقرّاته كالثّكنات تشييدا وتحصينًا ، وصُنّاعه ذوي نفوذ وقوة ، وكما كان كل شيء في عقود خلت إلى غير رجعة ، يسير في تيار واحد بأمر واحد لصنم واحد ، كان الإعلام وسيلة تمجّد وتجمّل ، وترفع وتخفض على هوى الاستبداد ، ولا فرق بين عصا البوليس وعصا الإعلام في القمع والقهر، بل إن لهذه الأخيرة أثرا لا يزول ولو زالت كل آثار القمع المادي ، لأن الظلم بالكلمة أشدّ وأبقى . لقد كان الإعلام بجميع وسائله، في تونسنا ما قبل الحرية، مسخّرا لخدمة الطغاة ومن حولهم من متنفّذين وحرّاس النظام في الداخل والخارج ، سواء كانوا رؤوس أموال أو مثقفين أو ساسة ، تونسيين أو أجانب ، يصنع رأيا عاما في جميع المجالات بكل تخطيط وحرص ، للوصول إلى غايات محددة ، أولها تكريس ديكتاتورية الفرد والحزب الواحد، مما يخلق الجو المناسب والبيئة الضامنة للوصول إلى تلك الغايات ،ثانيها جعل تونس دولة لا استقلالية لقرارها تسير في ركب الدول المهيمنة بتكريس التبعية الاقتصادية وتكبيلها بالديون ، وثالثها، القطع المتدرج مع مقومات الهوية والذي وصل لأوْجِه في العقد الأخير من الحقبة المظلمة من تاريخ البلد ، وتقديم الثقافة الغربية كبديل "جميل " لتلك المقومات ، ومن ثمَّ خلق تبعية ثقافية جعلت من بلدنا عضوا غريبا وشاذّا عن بيئته العربية الإسلامية ، ولعب الإعلام لتحقيق هذه الغايات دوره المنوط به ، وكان دورا محوريا فاعلا خدم هذا المشروع بكل "إخلاص" وإتقان بعد أن أشرف عليه ثلة من المنبتّين العلمانيين ، المؤمنين فعلا بأهدافه ، ووُضعت أكبر المؤسسات الإعلامية الحكومية وهي الإذاعة والتلفزة التونسية ، بين يدي عصابة من المتغربين من أعداء الوطن والهوية ، ورغم أن هؤلاء قد فشلوا في تجميل الديكتاتورية ، فأنهم نجحوا ولو نسبيا في خلق رأي عام يبتعد عن القيم الأصيلة بالقدر الذي يقترب من القيم الوافدة البديلة. وأشرقت شمس الثورة على أرض أصابَ أركانها العفن، وخِلْنا أنّ تونس السابعة ستصبح تونس الرابع عشر ، لكن شيئا من ذلك لم يحدث، وتواصل الخطاب الخشبي الذي بَلِي من كثرة الاستعمال ، وبقيت نفس الوجوه تطالعنا وكأنّها تذكّرنا بأن لا شيء حدث ،رغم مُسارعة مسؤولي دار الإذاعة والتلفزة إلى حذف الرقم 7 واستبداله بعبارة ذات دلالات تُنبِؤُ بالقطع التّام والنهائي مع ممارسات الاستبداد ، وجعل قناتنا ، صوتا للجميع لا فرق فيها بين فئة و أخرى ، معبّرة عن انشغالات الوطن جميعا ، بكل جهاته دون إقصاء أو استثناء . لقد بقي المواطن التونسي لسنوات طويلة ،يدفع مِن قُوت يومه أداءات بعنوان الإذاعة والتلفزة ، لتسدّد المجموعة الوطنية ككلّ ثمن البث الفضائي و الأرضي على السواء ، دون أن تعبّر هذه المؤسسة يوما عن مشاغله ، أو تتحدث صادقة باسمه ، بل الأمرّ من ذلك أن تقتصر مهمتها على تجميل و تمجيد نظام مستبدّ فاسد ،لا يعنيه من أمر المواطنين سوى ما يؤدونه من رسوم وضرائب للمحافظة على وجوده والتهيئة لبقائه، ولكن الأنكى والأدهى ، أن يثور هذا الشعب في وجه الاستبداد وينجح في دكّ كُبرى حصونه ، ويقف عاجزا أمام مؤسسة سمّت نفسها زورًا "الوطنية" ، وما هي بالوطنية. إن الوطنية ، أيها السادة عبارة أقل ما يفهم من معانيها ، أنها لسان حال الوطن بجميع شرائحه ومكوّناته، تعبّر بصدق عن ضميره ، لا تُقصي أحدا ولا تجامل فئة على حساب الأخرى، وتونسنا عبّرت بعد الثورة بكل وضوح على أنّها البلدُ الطيّب الوفي لهُويته ، الحريص على ثقافته الأصيلة ،التي لم تنجح سنوات القهر والقمع في تغييبها أو النّيل منها، واسألوا إن شئتم مراكز سبر الآراء التي تؤكد يوما بعد يوم ، أنّ غالبية الشعب التونسي يميل إلى الحفاظ على روابطه الثقافية كبلد عربي مسلم . إن العدل والديمقراطية يقتضيان أن يُعطَى كل جزء من هذا الوطن حقه حسب عدده وكثرته ، لكن هذا المنطق كان ولا يزال مقلوبا في أذهان أقليّة ، لست أدري كيف استطاعت أن تسيطر بعد الثورة على مفاصل المشهد الإعلامي التونسي ، ومضى وَرَثة الاستبداد يُكملون خطا تغريبيا مشوَّها لهذا البلد ، لا تظهر في شاشات وصفحات إعلامهم غير مشاهد الانبتات الغريبة عن ثقافة هذا الشعب ، حتى وصل الأمر بالمشرفين على ما سُمّيت بالوطنية ، أن لا يُسمح لأي مذيعة محجّبة بالظهور على الشاشة ، وان لا تُصوَّر مشاهد الريبورتاجات الميدانية دون تزيينها بصور المُتبرجات ، حفاظا على صورة نمطية غريبة للمجتمع التونسي ، رسمتها عقود القهر ، وزيّنها ورثة الديكتاتورية ، وانتهى بهم الحال إلى إنكار المدّ الجماهيري الجارف لبعض الأحزاب المُناصرة للهوية الأصيلة ، بل والعمل على إقصاء تلك الأحزاب عن المشهد الإعلامي الرسمي، والتركيز على نشاطات الأقليات السياسية . إن الوطنية ، يا هؤلاء المشرفين دون وجه حق على إعلامنا الرسمي تقتضي أن نُعطي حقّ كل ذي حقّ في هذا المرفق العمومي الذي يموّله الشعب بكل فئاته ، وأن نعبِّر بكل إنصاف عن مشاغل و تطلعات مواطنينا دون تمييز أو إقصاء ، فما بالكم أن تكون الفئة المُقصاة ،أغلبية هذا الوطن وأكبر مكوّناته ، والجَليّ بعد كل ذلك أنّكم لا تعبِّرون عن "وطنية" صادقة ، بل تمثّلون جَمعا قليلا من الذين تربَّوْا في أحضان الظلم والديكتاتورية ، ساهمتم بما استطعتم في إحيائها ، فلمّا ماتت ، ركبتم ثورة قتَلَتِها ، بعد أن ورِثتم عنها الاستبداد. والى أن يأتي اليوم الذي تفيئون فيه إلى جموع شعبكم ، وتتحلّوْن بالأنصاف في أدائكم ، أو تُزاحون كما أُزيح أولي نعمكم ، فستظل الوطنيةُ في عيوننا "لا وطنية" . محمد أبو عدنان العرضاوي أستاذ علوم التربية تطاوين في : 2011/07/31 مصدر الخبر : بريد الحوار نت a href="http://www.facebook.com/sharer.php?u=http://alhiwar.net/ShowNews.php?Tnd=20435&t=لا وطنيةُ " الوطنيةِ "&src=sp" onclick="NewWindow(this.href,'name','600','400','no');return false"