ترسيم 850 عونا وقتيا مكلفا بالتدريس وتسوية وضعية بقية الأعوان تباعا خلال هذه السنة (جامعة التعليم الأساسي)    الحرس البحري ينجد 11 بحارا كانوا على متن مركب صيد تعرض للعطب قبالة شاطئ هرقلة    بودربالة والسفير الإيطالي يؤكدان ضرورة تكثيف الجهود لمواجهة ظاهرة الهجرة غير النظامية تعزيزا للاستقرار في المنطقة    العجز التجاري الشهري لتونس يتقلّص بنسبة 4،16 بالمائة موفى مارس 2024    الملتقى الوطني الأول للماء: يفتح حوارا وطنيا حول إشكاليات الماء في تونس    وزارة التجارة تتخذ اجراءات في قطاع الأعلاف منها التخفيض في أسعار فيتورة الصوجا المنتجة محليا    نابل: الاحتفاظ بشخص محكوم بالسجن من أجل "الانتماء إلى تنظيم إرهابي" (الحرس الوطني)    ''تيك توك'' يتعهد بالطعن أمام القضاء في قانون أميركي يهدد بحظره    الرابطة 1 ( تفادي النزول - الجولة الثامنة): مواجهات صعبة للنادي البنزرتي واتحاد تطاوين    صان داونز -الترجي الرياضي : الترجي على بعد 90 دقيقة من النهائي    البطولة الافريقية للجيدو - ميدالية فضية لعلاء الدين شلبي في وزن -73 كلغ    أكثر من 20 ألف طالب تونسي من غير المتحصلين على منح دراسية يتابعون دراساتهم العليا في الخارج خلال السنة الجامعية 2023 - 2024    عاجل : تترواح أعمارهم بين 16 و 19 سنة ... الكشف عن شبكة دعارة في منوبة    منظمات وجمعيات: مضمون الكتيب الذي وقع سحبه من معرض تونس الدولي للكتاب ازدراء لقانون البلاد وضرب لقيم المجتمع    الجزائر تسجل حضورها ب 25 دار نشر وأكثر من 600 عنوان في معرض تونس الدولي للكتاب    المؤرخ الهادي التيمومي في ندوة بمعرض تونس الدولي للكتاب : هناك من يعطي دروسا في التاريخ وهو لم يدرسه مطلقا    المنستير: افتتاح ندوة المداولات حول طب الأسنان تحت شعار "طب الأسنان المتقدم من البحث إلى التطبيق"    أحدهم حالته خطيرة: 7 جرحى في حادث مرور بالكاف    يلاحق زوجته داخل محل حلاقة ويشوه وجهها    عاجل/ إصابة وزير الاحتلال بن غفير بجروح بعد انقلاب سيارته    بطولة الرابطة المحترفة الاولى (مرحلة التتويج): حكام الجولة الخامسة    القلعة الصغرى : الإحتفاظ بمروج مخدرات    تم انقاذها من رحم أمها الشهيدة: رضيعة غزاوية تلحق بوالدتها بعد أيام قليلة    توزر: المخيم الوطني التدريبي للشباب المبادر في مجال الاقتصاد الأخضر مناسبة لمزيد التثقيف حول أهمية المجال في سوق الشغل    الرئيس المدير العام لمركز النهوض بالصادرات: واقع المبادلات التجارية بين تونس وكندا لا يزال ضعيفا    مأساة جديدة في المهدية: يُفارق الحياة وهو بصدد حفر قبر قريبه    وقفة احتجاجية لعدد من أصحاب "تاكسي موتور" للمطالبة بوضع قانون ينظم المهنة    أريانة: حملة مشتركة للتصدي للانتصاب الفوضوي    سيدي بوزيد: انطلاق ورشة تكوينيّة لفائدة المكلّفين بالطاقة بالإدارات والمنشّآت العمومية    عاجل/ في ارتفاع مستمر.. حصيلة جديدة للشهداء في غزة    70 بالمئة من الأمراض تنتقل من الحيوانات ..مختصة في الثروة الحيوانية توضح    كم تبلغ معاليم مسك الحساب بالبريد التونسي؟    موعد انطلاق أشغال الجزء الرئيسي للجسر الجديد ببنزرت    تراجع إنتاج التبغ بنسبة 90 بالمائة    13 قتيلا و354 مصابا في حوادث مختلفة خلال ال24 ساعة الماضية    وقفة احتجاجية ضد التطبيع الأكاديمي    السعودية على أبواب أول مشاركة في ملكة جمال الكون    فريق عربي يحصد جائزة دولية للأمن السيبراني    الحكومة الإسبانية تسن قانونا جديدا باسم مبابي!    الرابطة الأولى: كلاسيكو مشوق بين النجم الساحلي والنادي الإفريقي .. وحوار واعد بين الملعب التونسي والإتحاد المنستيري    لاعب الترجي : صن داونز فريق قوي و مواجهته لن تكون سهلة    أخصائي في أمراض الشيخوخة: النساء أكثر عُرضة للإصابة بالزهايمر    وزارة المرأة : 1780 إطارا استفادوا من الدّورات التّكوينيّة في الاسعافات الأولية    تُحذير من خطورة تفشي هذا المرض في تونس..    عاجل : القبض على منحرف خطير محل 8 مناشير تفتيش في أريانة    أمين قارة: إنتظروني في هذا الموعد...سأكشف كلّ شيء    دورة مدريد : أنس جابر تنتصر على السلوفاكية أنا كارولينا شميدلوفا    وصفه العلماء بالثوري : أول اختبار لدواء يقاوم عدة أنواع من السرطان    طقس الجمعة: سحب عابرة والحرارة تصل إلى 34 درجة    إثر الضجة التي أثارها توزيع كتيّب «سين وجيم الجنسانية» .. المنظمات الدولية همّها المثلية الجنسية لا القضايا الإنسانية    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    تنزانيا.. مقتل 155 شخصا في فيضانات ناتجة عن ظاهرة "إل نينيو"    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    تتويج السينما التونسية في 3 مناسبات في مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة    قبلي : اختتام الدورة الأولى لمهرجان المسرحي الصغير    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حوار مع الشيخ راشد الغنوشي بمناسبة الذكرى 29 للإعلان عن حركة النهضة
نشر في الحوار نت يوم 06 - 06 - 2010


بسم الله الرحمن الرحيم
بمناسبة احتفال حركة النهضة التونسية بالذكرى 29 للإعلان عنها يسعدنا أن نقدّم لقرّاء الحوار نت هذا الحوار المطوّل مع رئيس الحركة.
من هو الشيخ راشدالغنوشي؟
ولد سنة 1941 بالحامة بالجمهورية التونسية.
تحصل عام 62 على شهادة التحصيل شهادة علمية تسندها جامعة الزيتونة تعادل شهادة الباكالوريا حديثا .
تحول إلى القاهرة وسجل بكلية الزراعة عام 64.
نشب الخلاف الناصري البورقيبي المعروف فطرد الطلبة التونسيون ومنهم الغنوشي.
تحول إلى دمشق بسوريا ودرس الفلسفة بها عام 64 وتخرج مجازا عام 68.
- انتسب إلى الفكر الناصري عاطفيا في البداية ثم انتسب إلى الاتحاد الاشتراكي في دمشق.
في دمشق 15 .6. 66 تحول من الناصرية إلى الفكر الإسلامي دون انتساب تنظيمي.
بعد تخرجه من الفلسفة بدمشق عام 68 انتقل إلى باريس حيث التحق بجامعة السوربون لإعداد رسالة دكتوراة.
في باريز كانت تجربته الدعوية الأولى مع جماعة الدعوة والتبليغ، كما شغل موقع الأمين العام لجمعية الطلبة المسلمين.
دعته ظروف عائلية إلى العودة إلى البلاد.
زار في طريق عودته الأندلس وتأثر أيما تأثر بعظمة الآثار الإسلامية وخصوصا جامع قرطبة. وعندما وصل إلى الجزائر تعرّف على المفكر الراحل المعروف مالك بن نبي، وكان قد درس كتبه وأعجب به، فتأثر به أيما تأثر
وفي تونس تعرف خلال زيارته لجامع الزيتونة على عدد من الشبان كانوا يحضرون حلقة للشيخ ابن ميلاد، قاده أحدهم إلى حلقة صغيرة تجتمع في جامع سيدي يوسف، فوجد ضالته، وبعثت في نفسه الأمل، لاسيما بعد تعرفه في الأسبوع الموالي على أبرز شاب في تلك الحلقة الشيخ عبد الفتاح مورو، فانصرف عما كان يعتزمه من العودة إلى باريس، وكان ذلك في صائفة 1969. وتقدم بطلب تشغيل لوزارة التربية، فعين أستاذا للفلسفة في معاهد تونس، وانطلق مع تلك الثلة القليلة في عمل إحيائي دعوي حثيث.
باشر الدعوة على هامش قاعات الدرس وفي المساجد وفي جمعية المحافظة على القرآن الكريم ومن خلال تنظيم زيارات سنوية صيفية صحبة ثلة صغيرة من الشبان إلى الجزائر حيث يحضرون مؤتمرات الفكر الإسلامي ويحظون بلقاءات خاصة مع المفكر الكبير المرحوم بن نبي، وكذلك من خلال مقالاته الصحفية في جريدة الصباح التونسية شبه حكومية ثم في مجلة المعرفة
بعد ثلاث سنوات من العمل الدعوي على طريقة جماعة التبليغ جابت المجموعة مساجد كثيرة في العاصمة وضواحيها دعوة إلى الصلاة وإلى الخلق الإسلامي، وتوسع عملها مع انتقاله إلى القيروان، فأخذ عدد الملتفين حول نواة "الجماعة الإسلامية" يتسع، فبدأت أجهزة الأمن تتنبه إلى هذا الكيان الذي يتخلق، وقد استقرت القناعة أنّ حركة التحديث قد قبرته إلى الأبد. وكان لقاء سوسة سنة 1973 في جامعها الكبير، حيث اجتمع حوالي خمسين من الدعاة قادمين من العاصمة ومن القيروان وقفصة ومنطقة الساحل، بغرض التوزع في المنطقة للقيام بالدعوة، كان تاريخا فاصلا إذ أقدمت أجهزة الأمن على محاصرة الجامع واقتياد العناصر القيادية إلى منطقة الأمن الذي جاءته الأوامر بعد أخذ ورد إلى ترحيل كل الشبان كلا من حيث أتى. وهو ما فرض على المجموعة إعادة النظر في منهاج عملها تقديرا أنه نشأ في بيئات مفتوحة ولا يصلح للتعامل مع بيئات بوليسية مغلقة، فكان من ذلك توزيع عمل المجموعة إلى مستويين مستوى دعوي مفتوح موجه إلى الرأي العام عبر المسجد وكل المنابر الإعلامية والثقافية، ومستوى تنظيمي تكويني خاص موجه للطليعة، وكانت مجموعة الشبات تجد الرعاية والتوجيه من قبل عدد من المشائخ أهمهم الشيخان محمد صالح النيفر وعبد القادر سلامة عليهما الرحمة والرضوان لتحديث أسلوب الدعوة.
فكان التأسيس الجديد عبر مراحل وأطوار أهمها المؤتمر التأسيسي للجماعة في منوبة عام 79 ثم الإعلان عن ذلك عام 81 ضمن ندوة صحفية. قوبل ذلك بأول حملة استئصالية في العام ذاته
نال شهادة الكفاءة في البحث من كلية الشريعة عام 85 على كتاب (القدر عند ابن تيمية).
أعد أطروحة للدكتوراه بعنوان الحريات العامة في الدولة الإسلامية لكن حالت ظروف الاعتقال دون نقاشها ثم تبناها مركز دراسات الوحدة العربية بلبنان ونشرها.
عضو مؤسس بالندوة العالمية للشباب الإسلامي وبالمؤتمر القومي الإسلامي لإدارة للحوار والتعاون بين القومية والإسلام، ول"حلقة الأصالة والتقدم" للحوار بين ثلة من المفكرين الإسلاميين والغربيين، وعضو مؤسس للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.
عضو مؤسس بكل من المجلس الأروبي للإفتاء والبحوث والاتحاد العالمي لعلماء المسلمين وللرابطة العالمية للمفكرين الإسلاميين بالكويت
اعتقل مرات كثيرة وحكم عليه بالسجن لعشر سنوات عام 81 ثم بالمؤبد عام 87 ثم بمؤبدات أخرى بدءً من عام 92 محكمة ابتدائية ثم محكمة أمن الدولة ثم محكمة عسكرية...

قامت عدة أطروحات جامعية حول فكره منها أطروحة الباحث الفسطيني، عزام التميمي، بجامعة لندن "راشد الغنوشي...الديمقراطي الإسلامي".
متزوج وأب لستة أبناء ولعدد من الأحفاد.
من مؤلفاته:
- الحريات العامة في الدولة الاسلامية.
- نحن والغرب (بالاشتراك).
-من تجربة الحركة الإسلامية في تونس.
- القدر عند ابن تيمية.
- مقاربات في العلمانية والمجتمع المدني.
- الحركة الاسلامية ومسألة التغيير.
- القضية الفلسطينية بين مفترق طريقين.
- المرأة بين القرآن وواقع المسلمين.
- حقوق المواطنة في الدولة الإسلامية.
- حق الاختلاف وواجب وحدة الصف.
- من الفكر الإسلامي في تونس.
- تمرد على الصمت.
- الوسطية السياسية في فكر الشيخ القرضاوي.
- ما لا يحصى من المقالات والحوارات جمع بعضها الصحفي في كتاب من مثل "مقالات" و"حوارات قصي درويش" وغيرها.
ترجمت بعض كتبه إلى لغات أجنبية منها الإنجليزية والفرنسية والتركية والفارسية والأردية والكردية.
لمزيد التعرف على ضيف الحوار.نت يمكن الرجوع إلى موقعه الشخصي:
www.ghannoushi.net

------------------------------------------------------------------------
------------------------------------------------------------------------
نص الحوار

الحوار.نت: الشيخ راشد, مرحبا بك ضيفا كريما على الحوار.نت كما يطيب لنا أن نغتنم هذه المناسبة لنزف إليك أطيب التهاني وإلى إخوانك معك في حركة النهضة سيما إلى رئيسكم المسجون الدكتور الصادق شورو..

الشيخ الغنوشي: بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله: أحيي موقع الحوار وجهوده التنويرية المناضلة. شكرا لكم وجزاكم الله خيرا. وبدوري أهنئكم بهذه المناسبة السعيدة وأنصار النهضة وأبنائها وبناتها المستمسكين بثوابتها في كل جبهات البلاء والعطاء سواء كانوا مهاجرين في سبيل الله في أرض الله الواسعة أم مرابطين في الأرض الطيبة قابضين على الجمر ينيرون بصمودهم وعطائهم الدروب المعتمة، أم رابضين كالأسود وراء القضبان لا تلين لهم قناة، شاهدين على عظمة الإسلام وهوان أعدائه، يتقدمهم الشيخ البروفسور المجاهد الصادق شورو... تهنئة خاصة حارة إلى شباب تونس الذي يتحرك في كل مواقعه مقارعا للطغيان ليس فقط في ميدان الفضاء الافتراضي (الإنترنات) حيث تحتدم أضخم المعارك بين شباب تونس رسل الحرية وبين أجناد الظلم والظلام، بل أيضا في الفضاءات الأخرى، الفضاء الجامعي والساحات العامة حيث تتوالى مبادرات الشباب لكسر أطواق العسف الأمني الخانقة لحريات شعبنا وطموحاته، تهنئة خاصة إلى شباب الصحوة الإسلامية أمل تونس في التحرر والعدل واستعادة الكرامة المسفوحة.

الحوار.نت: هل يمكن أن تلخص لقرائنا الوضع الراهن لحركتكم بعد مسيرة عمرها اليوم أكثر من أربعة عقود بالنظر إلى أنّ التأسيس الأولي الأصلي كان عام 1969.. وخاصة بعد المحنة الأخيرة التي خيمت على الحركة على امتداد عقدين كاملين
الشيخ الغنوشي: منذ سنة 1981وعقب أول إعلان للحركة عن نفسها حركة سياسية إسلامية تعمل في إطار القانون وذلك في أثر إعلان النظام عن قبوله بالتعددية، والحرب على هذا التيار الإسلامي متواصلة لا تكاد يهدأ أوارها قليلا حتى يعود أشد التهابا: محاكمات 1981 شملت حوالي 500 من القياديين ومن عموم الصف. أطلق سراحهم صائفة 1984، لتشن عليهم حملة أشد في ربيع 1987شملت حوالي عشرة آلاف من كل المستويات. حصل انفراج بسقوط الطاغية العجوز لم يلبث طويلا لا سيما بعد الفوز الباهر الذي حققته الحركة في انتخابات أبريل1989، فانطلقت الحملة لتحصد هذه المرة الأخضر واليابس فشملت حوالي ثلاثين ألفا بما لا نظير له في تاريخ البلاد. ولم يقتصر الأمر على استهداف المناضلين وعوائلهم بخطة شاملة للتدمير والقتل الناجز أو المقسط وإنما شملت الخطة أسرهم وأصدقاءهم بل تجاوزتها إلى ما هو أخطر أي إلى استهداف أرضيتهم القيمية والعقدية الإسلامية بالتجفيف والتقويض عبر خطة "تجفيف الينابيع"، حدث ذلك ضمن ظروف دولية وإقليمية مساعدة لسلطة القمع من مثل انهيار المشروع الديمقراطي في الجزائر والحرب على العراق وصعود مشروع التسوية والحرب على الإرهاب ضمن تمدد المشروع الامبريالي الذي امتطت السلطة صهوته، فجوزيت بقبولها أول شريك في الجنوب لأوروبا. منذ ذلك الحين جرت تحت النهر مياه كثيرة: صمد بفضل الله أبناء النهضة وبناتها في وجه العاصفة وموازين القوة المتغلبة ، فانتصر اللحم على السيف، واستعصت الإرادة المؤمنة على حراب الجلادين، شويت جلود وأزهقت أرواح وشردت عوائل، أما الركوع فلم يكن إلا للواحد الأحد، وما كادت العشرية الحمراء تمر حتى بدأت الغيوم الداكنة تنقشع... تعثر مشروع التسوية والشرق أوسطية وتوقف، وتوحلت في رمال المقاومة الإسلامية والممانعة آلة الحرب الرأسمالية الزاحفة وبدأت مؤشرات عجز وإفلاس بنوكها وشركاتها العملاقة وفي الجزائر بدأ التبشير بالوئام الوطني وصمدت المقاومة في فلسطين والعراق وأفغانستان... وفي الداخل أسفر التبشير بديمقراطية بلا إسلاميين عن خديعة كبرى خلاصتها قمع لكل صوت يرتفع مطالبا بحقوقه، ونهب واسع للثروة العامة والخاصة من قبل عوائل متنفذة وإفساد عام للبلاد والعباد... فأخذت قطاعات من النخب متزايدة تعلي الصوت بالاحتجاج على القمع وأخذت وشائج التواصل بين الحركة والتيارات المعارضة الجادة تستعيد ما كانت عليه من تعارف وتعاون على قاعدة الدفاع عن حرية للجميع، الأمر الذي عرّى أسطورة الخطر الأصولي على مكاسب الحداثة التي أسست عليها اللسلطة قمعها للحركة الإسلامية ومن ثم فرض الصمت والهيمنة على الجميع... عرّاها من كل أساس داخليا وخارجيا؛ الأمر الذي فرض على السلطة أن تخلي تباعا على دفعات متزايدة من ضحايا القمع، كان آخرها السنة الماضية، لولا أن أعيد الرئيس السابق للنهضة الشيخ الدكتور الصادق شورو، إلا أنّ السجون لم تشك في دولة الاستقلال من البطالة يوما... فقد حل جيل جديد من الإسلاميين محل آبائهم النهضويين.
الحركة اليوم تعيش مرحلة تحول هامة جدا:
ففي داخل البلاد - وهو الوجود الأساسي لها - يحاول الآلاف من أبنائها الذين غادروا السجون بأجساد منهكة تطير بها أرواح مشرقة يحاولون رغم الحصار الرهيب المضروب عليهم – خلافا لأمثالهم في ليبيا حتى الجماعة المقاتلة ممن تتولى الدولة مساعدتهم على ترميم أوضاعهم الاجتماعية والبدنية بالتعويض لهم عما فاتهم، وإعادتهم إلى أعمالهم - استئناف حياتهم بامتهان أي مهنة مشروعة، واستعادة التواصل مع أنسجة المجتمع الحقوقية والمهنية والثقافية والسياسية، وهم اليوم عنصر يتنامى فعله وأثره باطراد في كل ذلك.
الثابت أنه مع ما تعرض له دعاة الإسلام والحرية منذ زهاء ثلاثة عقود وبخاصة العقدين الأخيرين من أهوال لم يعرف لها تاريخ البلاد مثيلا، إذ لم يقتصر القمع على المنتمين بل تعدى إلى كل من له بهم صلة بما في ذلك أسرهم إذ أخضعت لخطة تجويع وعزل وحملت العديد من الزوجات على تطليق أزواجهنّ، إلا أنّ الله ثبّت عباده المومنين، فما نجح القمع لا في استدراجهم إلى مستنقع العنف رد فعل على عنف السلطة، فهذه حركة إسلامية إصلاحية ديمقراطية أصّلت لمناهج العمل المدني السلمي، ولا نجح في عزلها عن المنتظم السياسي التونسي فقد عادت جزءً منه. وبكل اطمئنان نقول: إنّ الحركة بفضل الله قد اجتازت بنجاح امتحان البقاء الذي أخضعت له، وهي اليوم بصدد التعافي وإعداد نفسها لاستثمار ما زرعت في مجتمعها من قيم وأمثولات ونماذج نضالية مشرّفة لا تكاد تخلو منها أسرة تونسية. الحركة واقعة ضمن تيار الصحوة الإسلامية الصاعد في البلاد حاملة مشروع الهوية والحرية والعدالة وتحرير فلسطين والوحدة المغاربية والعربية والإسلامية والتحرر من تيارات الهيمنة الدولية، جزء من التيار الإسلامي الصاعد في العالم المتحالف مع كل التيارات التحررية المناهضة للعولمة المهيمنة.
المؤكد أنّ الحركة في حالة صعود، وليس أمام السلطة أي سلطة تريد أن تحكم البلاد بقدر معقول من العدل والحرية إلا التعامل معها ضمانا للاستقرار الضروري لكل مشروع تنموي جاد. ففي تونس وضمن عالم يتصاعد فعل الإسلام فيه حتى لتكاد ترتبط به أهم القضايا الدولية، لم يعد متسع كبير لحكم معقول وتنمية مأمولة دون استيعاب للتيار الإسلامي ضمن المنتظم السياسي، دون غش ولا تحكم. وإذا كانت بلاد الغرب ذاتها قد أخذت تتهيأ لعملية إدماج التيار الإسلامي بعد جفوة وعداء طويلين (فاز في الانتخابات البريطانية الأخيرة بعضوية مجلس العموم تسعة نواب مسلمين) فهل سيبقى الإسلام غريبا في دياره الأصلية؟ الحقيقة أنّ فرص سياسات الإقصاء والقمع والخداع ودولة الحزب الواحد دولة البوليس في الاستمرار آخذة في النفاد وتجدف خارج المستقبل. "النهضة" في البلاد تنتعش بعد أن نجحت بفضل الله في استيعاب الضربة القاصمة التي وجهت إليها، في زمن مناسب جدا لعدوها، وكما يقال الضربة التي لا تكسر ظهرك تقويك، تنتعش في سياق انتعاش صحوة الإسلام وصحوة الحراك السياسي والمجتمعي.
أما "النهضة" المهاجرة فقد توفقت بفضل الله في الذب عن الكيان، عن هويتها، حركة إسلامية وسطية ديمقراطية، بما أفضى بخطة العدو في إلقائها تحت بلدوزر الإرهاب، إلى الخيبة المريرة، ذبت عن فكرتها ووحدتها منتصرة لمظلومية شعبها ومساجينها وتجميع الضغوط لإطلاق سراحهم على دفعات، وبذل الرعاية الممكنة لعوائلهم التي أخضعت لخطة عزل وتجويع رهيبة، كما مدت خيوط التواصل مع المعارضة الديمقراطية الجادة. وكان لها إسهام معتبر على الصعيد الدولي في تطوير الفكر الإسلامي الوسطي الديمقراطي، وفي الدعوة للإسلام وتوطينه في الغرب، وفي اكتساب خبرات هائلة في مهاجر ممتدة على أزيد من خمسين دولة... النهضة المهاجرة اليوم تعيد ترتيب أوضاعها بما يؤسس لوجود مهجري دائم داعم لتيار الحرية والعدالة والإسلام في البلاد، مساهم في توطين الإسلام والدعوة إليه في كل المهاجر، بالتعاون مع كل القوى التحررية

الحوار.نت: هل يمكن أن تحلل لقرائنا أهم إنجازات الحركة منذ تأسيسها حتى اليوم وفي مقابل ذلك أهم إخفاقاتها مع الإحالة إلى أبرز الأسباب لذلك قدر الإمكان..

الشيخ الغنوشي: يحسن بالإضافة إلى ما قدمنا وضع الحركة في سياقها التاريخي فنقول وبالله التوفيق:
ولدت الحركة الإسلامية في تونس ممثلة في خطها العريض في السبعينات ب"الجماعة الإسلامية" وفي الثمانينيات ب"حركة الاتجاه الإسلامي" ثم "حركة النهضة" منذ نهاية الثمانينيات، ولدت من رحم المجتمع التونسي لتلبيّ طلبا ملحا للهوية، تولّد لديه جراء تجربة تحديثية علمانية متطرفة بل مغشوشة قادتها دولة الاستقلال، بزعامة متولّهة بنموذج فرنسي يعقوبي علماني متطرف، استهدف بالتفكيك والتقويض المجتمع الإسلامي العربي الموروث، عقائد وشعائر وقيما ومؤسسات، بلا تمييز بين صالح وفاسد وبين إسلام وتقاليد بالية، مسخّرا من أجل فرض نموذجه أدوات الدولة الحديثة عبر التعليم والإعلام والقانون والثقافة والاقصاد...، فكان من ذلك شطب المؤسسة الزيتونية العتيدة حارسة العروبة والإسلام في البلاد والمنطقة ومنتجة أجيال من العلماء والأدباء والقضاة... ونسف القضاء الشرعي وتفكيك مؤسسة الوقف العتيدة التي كانت تستوعب حوالي ثلث الملكية في البلاد لخدمة المجتمع وسندا لمؤسساته ولقوته، بما جرده من كل نفوذ مقابل تغول الدولة متحكما وحيدا في مستقبله، وبلغ الهجوم حد الدعوة لانتهاك حرمة الصوم... واستباحة الزنا والخمور والقمار، وتجريم زيّ الحشمة والتقوى، والتصدي بقوة الدولة والحزب الواحد المتماهيين مع الزعيم المتأله، لكل صوت معارض.

في نهاية الستينات بدأ هذا المشروع التفكيكي تظهر ثماره، تحلّلا في الأسرة والشباب حتى هجرت المساجد... فاقتضت رحمة الله أن تستيقظ في الناس مشاعر الخوف على مقومات شخصيتهم من التبدد فولدت الحركة الإسلامية، على يد ثلة من الشباب خريجي المعاهد الحديثة متفاعلة مع ثلة قليلة من بقايا المؤسسة الزيتونية... فانبعثت من ذلك دعوة إسلامية متأججة تنبض بالحياة تنفض عن الإسلام غبار الانحطاط، باثة روحا جديدة في شرايين المجتمع، تحيي المساجد وتعمرها بالأجيال الشابة، ناشرة وعيا بالإسلام متفاعلا مع تيارات الحياة الجديدة يجادلها فيقبل منها ويرفض وفق معاييره، ف"الإسلام يعلو ولا يعلى"، كما بيّن ذلك ابن مسعود رضي الله عنه، ويعيد تجسير العلاقة بين المسجد وبين الحياة التي مضت بها مشاريع التحديث الأهوج بعيدا، فاحتدمت المجادلات في مراكز العلم والثقافة عن دين الله بين دعاة الإسلام الجدد وبين أصحاب العقائد العلمانية التي كانت سيطرتها تامة على الجامعة ومراكز الحداثة، وكان للمسجد وللصحافة مثل "مجلة المعرفة" وللنشاط الطلابي والتلمذي وفي دور الثقافة، ولما تطور من نشاط نقابي في نهاية السبعينيات أثر فاعل في تشكل تيار إسلامي واسع، فما مرت السبعينيات حتى كان التيار الإسلامي يزاحم بجدارة تيارات العلمنة. وانداحت المصلّيات في مراكز التعليم والإدارة والعمل، واستعاد الشارع المنفلت قدرا من الحشمة، فشهدت سنة 1974 ظهور أول حاملة لزي التقى.
تفاعل التيار الإسلامي الحديث الذي ولد متتلمذا أساسا على تيارات الحركة الإسلامية المشرقية مع رياح الإحداث العاصفة داخل البلاد وخارجها مثل أحداث المواجهة العاصفة بين الدولة وبين الحركة النقابية، كما تفاعل مع بدايات ظهور الحركة الديمقراطية وحركة حقوق الإنسان، وتفاعل خارجيا مع بعض التجارب الإسلامية التجديدية مثل التجربة السودانية بصدد مشاركة المرأة ودورها الفاعل، والتجربة الإيرانية في أبعادها الثورية المنتصرة للمستضعفين... ومع الفكرالاجتماعي لمالك بن نبي وعلي شريعتي... أثمر كل ذلك مراجعة مهمة جدا لفكر النشأة الأولى المحافظ، في اتجاه استيعاب إسلامي لبعض منجزات الحداثة على صعيد حقوق المرأة والإنسان والمواطن وتأصيل الفكر الديمقراطي والانحياز إلى قضايا العمال والمستضعفين. فكان لذلك أثره المقدر في امتداد أسباب الحوار والتواصل والتعاون مع قطاع واسع من الحركة الديمقراطية التونسية، ومع الحركة القومية ومع منظومة حقوق الإنسان العالمية ومع كثير من القوى التحررية. كما كان له أثره في قطاعات واسعة من التيار الإسلامي في الإقليم وفي العالم في اتجاه التفاعل الإيجابي مع الفكرة الديمقراطية والتيارات العلمانية الحاملة لها. وحتى بعد الذي نجح فيه نظام القمع إلى حين في تأليب التيارات الحديثة ضد النهضة وتخويفها منها فسرعان ما تم التغلب عليه وعادت أسباب التواصل، وكانت هيأة 18أكتوبر تعبيرا عن ذلك.
الثابت اليوم أنّ معركة الهوية وهي الساحة الأساسية التي استثمرت فيها الحركة أهم جهودها وحققت فيها أهم إنجازاتها أنها قد حسمت لصالح الهوية العربية الإسلامية.
وليس من شك في أنّ النهضة واقعة في مهب رياح صاعدة، فقد بدأت بالظهور بواكير بركات دماء شهدائها والصمود الخارق لمساجينها ووفاء مهجريها، بدأت تؤتي أكلها على أكثر من صعيد ضمن صعود تيار الصحوة الإسلامية العالمية جزء من تصاعد تيارات الممانعة والمقاومة للسياسات الهيمنية الامبريالية والصهيونية وتوحل أساطيله في الرمال الإسلامية وتدهور اقتصادياته العملاقة وتساقطها كأوراق الخريف، بينما خصوم النهضة لا يعدون كونهم عربة خلفية في قافلة قوى الهيمنة المتوحلة. النظر القصير الحسير الذي تخدعه الظواهر الخداعة أو الأطماع الوهمية هو الذي يعجز عن رؤية المشهد على هذا النحو، فلا يرى أنوار الفجر سافرة ولا يرى ما يتكشف عنه الصباح من قوى إسلامية وتحررية صاعدة وقوى ظلامية طاغوتية متذيلة للامبريالية والصهيونية ولعصابات المافيا غاربة بل تحتضر.
هذا لا يعني أنّ المعركة حسمت نهائيا ولا يعني أنّ النهضة لم ترتكب أخطاء في إدارة المعركة وقد بادرت بتقويم مسيرتها، ولا أنها قد حققت أهدافها ولكنها اليوم أقرب إليها من أي وقت مضى، وإنما يعني شيئا واحدا أنها في سياق مسار صاعد وخصومها في مسار آفل، مستقبل النهضة أمامها ومستقبلهم وراءهم. مسيرتها ستذكر وتحمد وتشرف بها الأجيال القادمة، وهم لن تبكيهم سماء ولا أرض وإنما ستشيعهم بما يستحقون

الحوار.نت: يتردد في بعض وسائل الإعلام والتحاليل أنّ قيادة الحركة بين خط سياسي معتدل يدعو إلى الحوار والمصالحة مع السلطة واتجاه آخر يتجنب ذلك يأسا منه أو من المناخات الراهنة ما هي حقيقة الموقف.
الشيخ الغنوشي: منذ مؤتمر 1995 وما جاء بعده من مؤتمرات لم يختلف النهضويون حول مطلب المصالحة وهو مطلب تكاد تجمع عليه المعارضة الجادة، إلا أنّ المشكل أنّ مادة المصالحة تتضمنّن بالضرورة معنى المشاركة، بينما تثبت التجربة المتكررة انعدام الشريك حتى الآن.
إنّ السلطة وهي الشريك الأساسي المفترض في تحقيق أي مصالحة لم تثبت منذ انتصابها ولم يشهد سلوكها يوما على توفر هذا الاستعداد للتعامل مع مواطنيها على أساس المواطنة أي الاشتراك في امتلاك البلاد واكتساب الجميع فيها حقوقا متساوية. السلطة وهي برنامج الحكم المشغّل للدولة لم يتوفر يوما منذ استيلائه على الدولة منذ "الاستقلال" لم تعترف للتونسيين حتى الآن أنها نائبة عنهم وكيلة لهم بل هي المالكة لهم المتصرفة بإطلاق في شؤونهم .رضي من رضي وغضب من غضب .الحقوق هنا تغدو هبات وعطايا ومكارم. وأبسط مثال على ذلك جواز السفرأي حق التنقل لم تتعامل معه السلطة يوما على أنه حق للمواطن بصرف النظر عن اتجاهه. ولو كانت مسألة جوازات السفرمسألة حق من حقوق المواطنة، لم يمنع الشيخ عبد الفتاح مورو منذ أكثر من عقدين من السفر وابن عيسى دمني وكذا حمادي الجبالي ومحمد النوري المحامي وآلاف غيرهم ويسمح لغيرهم؟ هذا في أمر وثيقة بسيطة ترسل للمواطن في الديمقراطيات بالبريد فكيف بوثائق أخطر منها مثل الحصول على رخصة جريدة أو جمعية أو حزب أو المنافسة في انتخابات.في ظل سيادة هذاالمنتظم السياسي الاستبدادي المتخلف لا حديث جادا عن مصالحة إلا أن يكون المقصود هدفا نهائيا يُراد الوصول إليه وفرضه عبر نضال ناصب يعدّل موازين القوة لصالح الشعب. أما إذا كان القصد استجداء هذا الهدف بالكلام المعسول الذي يقلب حقائق الأمور ويتستر على طبائع الاستبداد الراسخة من طريق وبذل الرشاوى للقائمين عليه والمستفيدين منه فلا نهضويا جادا أومناضلا من أي اتجاه يمكن أن يتصور إمكان حصول ذلك من هذا الطريق. نحن في النهضة حركة تغييرية جادة، مبرّروجودها جهادها الدائب من أجل تغيير واقع علاقات الاستبداد والإذعان والقهر القائمة بالوسائل السلمية الشعبية وليس التطبيع معها.
ويحسن من أجل تقريب طبائع الاستبداد القائمة إلى من لا يزال منها في ريب أن أورد له طرفا مما كان يدور بيني وبين مستشار للرئيس كان مكلفا ب"التفاوض" معنا صائفة 1988بحثا عن "مصالحة". لقد أدركت بعد عدة جلسات "تفاوض" مع مستشار الرئيس أنه كان يبذل وسعه من أجل إعادة تشكيل تصوراتي السياسية حتى أتمكن من التعاطي الإيجابي مع المنظومة السياسية الرسمية، فكان يقول لي: إنّ الرئيس هو الذي يرسم الأهداف وهي واضحة جدا ويرسم الطريق الموصل إليها، ويحدّد سرعة السير، فأسأله وأنا ما دوري؟ فيجيب: أنت تقدّم مطالبك إلى الرئيس متيقنا أنه سيستجيب لها بالقدر المناسب في الوقت المناسب، وإياك أن تحاول الضغط عليه، لأنه لا يتحمل ذلك ولا يسمح به بل قد يدفعه ذلك إلى السير في الاتجاه المضاد لك. وعندما اختليت بنفسي وتأملت في هذه النصائح تجلت لي الصورة مرعبة: الرئيس وحده هو من يرسم الأهداف والطريق إليها وسرعة السير. وأنت تقدم مطالبك دون أي ضغط قد يعرضك لغضبه، حسبك أن تثق فيه الثقة المطلقة على أنه يوما ما سيستجيب لك بالقدر المناسب لك. وإذا علمنا أنّ السياسة المدنية هي فنّ تبادل الضغوط بين قوى سياسية تتصارع سلميا لتنتهي في النهاية إلى وفاقات وتسويات، فإذا سحبنا هذه الآلية من السياسة فماذا يبقى منها؟ لا شيء، غير صورة لحاكم تبوّأ مقام الألوهية بغير حق، فقد تعلمنا في أدب الدعاء مع الله أن ندعوه سبحانه دون ممارسة أي صورة من صور الاستعجال والتأقيت واثقين تماما أنه سبحانه يسمعنا وسيستجيب لنا حتما في الوقت الذي يقدّره سبحانه، فهو أعلم بمصلحتنا، إن لم يكن في هذه الحياة الدنيا يكون قد ادخر لنا ذلك في الآخرة فما عند الله خير وأبقى. واضح أنّ ما يمارس اليوم في البلاد من "سياسة" ينتمي لمرحلة ما قبل السياسة بمعناها الحديث، إنها مرحلة العبودية والرق، علاقة السيد بالعبد.

الحوار.نت: ما هي مطالبكم اليوم من سلطة بن علي وما هي الحواجز دون مصالحة وطنية تونسية وما هي علاقتكم بالأحزاب السياسية التونسية وما هي آفاق التعاون بينكم في قضية الحريات الأساسية؟
الشيخ الغنوشي: ليس للنهضة عموما مطالب خاصة بها، مطالبها هي نفس مطالب المعارضة الجادة كما بلورتها في حدها الأدني "السميق" هيأة 18أكتوبر وتتلخص في مطالب الحرية الأساسية بدءً بإفراغ السجون من مساجين الرأي وفي طليعتهم الشيخ صادق شورو وآلاف من شباب الصحوة ورفع كل القيود المكبلة للحياة السياسية وللمواطن المتمثلة في منظومة القوانين التعسفية: قانون الصحافة والجمعيات والأحزاب والمساجد والانتخابات والجوازات..الخ. باختصار إعادة هيكلة النظام السياسي كما قدمنا، واستعادة التوازن المختل في الحياة الاقتصادية بوضع حد للنهب، واحترام مقومات الهوية العربية الإسلامية للبلاد ومقومات الاستقلال عامة. وكلها منتهكة في العمق من طرف النظام القائم ولا معنى لأية مصالحة جادة دون تحققها. قد ينفع في ذلك التدرج وهو المعقول ولكن بشرط أن لا يفرضه طرف واحد هو السلطة على الآخرين وإنما أن يكون ثمرة مشاورة شعبية عامة ووفاق بين كل القوى في المعارضة والحكم، وهو تصور للمصالحة وللسياسة أصلا غير وارد في قاموس السلطة وخارج عن خبرتها وما اعتادت، وما من سبيل لإقناعها به دون حملها عليه حملا بنضال شعبي ناصب يعيد في النهاية السيادة للشعب والأمور إلى نصابها ويضع الحصان أمام العربة خلافا للوضع المقلوب القائم.
أما علاقتنا بالأحزاب السياسية المعارضة ودعك من الهياكل الإدارية المصنوعة على عين الأمن، فهي علاقات حوار وتعاون في حدها الأدنى،نسعى إلى الارتقاء به إلى ما نصبو إليه من تشكيل جبهة وطنية واسعة تجعل التغييروإرساء نظام ديمقراطي حقيقي وبرلمان تونسي ظلاّ حلما مجهضا منذ زهاء قرن ونصف من نضال شعبنا، نضالا خذلته الجغرافيا أي الجوار الأروبي المتواطئ مع الاحتلال ومخلفاته، جبهة وطنية تفرض التغيير وتعيد تشكيل هيكل الدولة بما يوزع سلطاتها المتغولة، توزيعها على أوسع نطاق مركزيا وجهويا، فرديا وجماعيا. وما حاجة بلد صغير أكثر بلاد العالم انسجاما إلى هذا التمركز الشنيع للسلطات في يد فرد واحد وفي العاصمة، أوليس الأنسب نظاما برلمانيا ورئيسا رمزيا وحكما محليا منتخبا واسع السلطات؟

الحوار.نت: هل يمكن لتونس أن تحتضن حركتكم من جديد سيما بعد ورود تحاليل كثيرة موثقة تفيد بأنّ النسيج الاجتماعي في البلاد شهد اختراقات خطيرة في اتجاه اهتزاز كيان الأسرة ونشوء ظواهر اجتماعية غريبة من مثل الأمهات العزباوات والجريمة الجماعية المنظمة وتمزق سبل التكافل حتى في دوائر الرحم القريبة الدافئة وتواصل تراجع النمو العمراني (الديمغرافي) وغير ذلك..
الشيخ الغنوشي: لقد تعرض المجتمع التونسي منذ زهاء قرن ونصف لمتوالية من الخطط التفكيكية على يد الاحتلال وأشد منها على يد دولة الاستقلال، تفكيكا يتجه إلى حد سواء إلى عالم الأفكار والقيم والمعتقدات وإلى عالم المؤسسات من مدرسة ومسجد ووقف وأسرة وجمعية ولغة، بغرض إحلال الشخصية الغربية محل الشخصية العربية الإسلامية بكل مقومات الشخصيتين. والحقيقة أنّ ما عجزت عنه دولة الاحتلال مثل القضاء على التعليم العربي الإسلامي إحباطا لمشروع لتحديث تونس في إطار عربي إسلامي كان قد قطع خطوات هائلة في جامع الزيتونة، لحساب مشروع آخر للتحديث في إطار النموذج الغربي الفرنسي، وجاءت دولة الاستقلال منتصرة لهذا الأخير وكأنّ الاستقلال ليس إعلان انتصار العروبة والإسلام على مشروع الفرنسة وإنما العكس هو الصحيح. ولذلك لم يكن صدفة أن كان من بواكير قرارات دولة الاستقلال القضاء على نظام التعليم الزيتوني الذي كان قد امتد على طول البلاد وشمل كل مراحل التعليم، بما حول نظاما للتعليم إلى مجرد معهد تابع للجامعة التونسية، نظاما يستوعب عشرات الآلاف من التلاميذ إلى نظام لا يستوعب غير بضع مئات، حاكما على أبناء وأساتذة ذلك النظام بالتشريد والتبديد. وكان من آخر الحملات على الشخصية التونسية في كل المجالات الحملة الأشرس والأشمل التي انطلقت في التسعينيات يقودها في مجال التعليم محمد الشرفي خليفة لسلفه محمود المسعدي تنفيذا لخطط دولية ماسونية حملت عنوان تجفيف الينابيع. فلا عجب أن تثمر تلك الخطط المتوالية تفكيكا هائلا في عالم القيم وفي عالم السلوك على كل المستويات وأن تحتل تونس المراتب الأولى في تفكك الأسرة (الطلاق) والعزوبية والانتحار والجريمة المنظمة والعنف في مجال الأسرة والمدرسة والشارع وبذاءة اللغة وانحطاط السلوك العام، ونضوب النسل، بما أصاب تونس دون كل بلاد العالم الثالث بشيخوخة مبكرة وضعتها على طريق الانقراض فأي مشروع هذا؟ هل يكون النظام البوليسي إذن إلا منتجا طبيعيا لهكذا مجتمع ولك أن تقول نظام عصابات المافيا. يقول المستشرق البريطاني الأمريكي هاملتون جب متحدثا باسم السياسة الغربية إزاء تونس:"لقد أردنا أن نجعل من تونس حقلا لتجريب الحضارة الغربية لنرى إلى أي مدى يمكن لبلد إسلامي أن يسير في تاريخ الغرب وحتى تكون التجربة صالحة لنقلها إلى بلاد إسلامية أخرى" النص نقله الدكتور محمد محمد حسين. تاريخ الأدب الوطني في مصر. وواضح أنّ أكثر من سياسة غربية في العالم الإسلامي انطلقت من تونس ثم لحق بها غيرها مثل تجربة تحديد النسل وهي سياسة غربية موضوعة للعالم الثالث وخصوصا عالم الإسلام، وسياسة القضاء على التعليم الإسلامي وسياسة تجفيف الينابيع وسياسة التطبيع مع إسرائيل ومحاربة الحركات الإسلامية. سياسات مطلوب من كل دول عالم الإسلام تطبيقها بحسب ما تطيق أوضاعها... وتونس سباقة... وما تراه فيها اليوم ستراه في غيرها بعد حين... ولكن رحمة الله سبحانه القوي المتين اقتضت تدافعا لا ينقضي بين قوى الخير وقوى الشر قوى البناء وقوى التدمير قوة الحياة وقوة الموت... ولذلك رأينا أنه في أوج صعود موجة التغريب في نهاية الستينيات انبثقت من جذور شجرة الإسلام أغصان غضة للصحوة الإسلامية وسرعان ما امتدت على طول البلاد وعرضها تعبيرا عن طلب مجتمعي عميق للهوية استشعارا للخطر عليها، وخلال عشرين سنة فقط وعلى إثر محنة طاحنة سنة 1987 كان مرادا لها أن تستأصل شجرة الإسلام... عبر الشعب تونس بشكل مذهل عن توجه عارم وبيعة جماعية لممثلي التيار الإسلامي، ما جعل العلمانية تستخرج أثقل أسلحتها وتنخرط في حرب شاملة أشد وأعمق من سابقتها، حتى غدت شعائر الإسلام كالصلاة قاعدة تصنيف وتمييز بين الأصولي وغيره فهجرت المساجد والمصاحف والكتاب الإسلامي، حتى خيّل لزوار تونس في التسعينيات أنّ الإسلام لم يمر من هنا ولم تصوت أغلبية الشعب منذ سنوات قليلة لصالح رموزه... ولكن ما إن أخذت موجة الهجوم تنكسر في نهاية تلك العشرية ممهدة لعشرية للعشرية الموالية عشرية الصحوة الإسلامية الثانية، بما دل بيقين عن عمق الإرث الإسلامي في الشخصية التونسية الإرث الذي أحيته الصحوة الأولى، وأن جذور شجرة الإسلام لم يطلها معول الدولة، جل ما طالت الأغصان... أما الجذور فضاربة في الأرض لا تنتظر غير الظرف المناسب حتى تنتفض بأغصان جديدة غضة حية متجددة رائقة يبدو معها الإسلام في عز شبابه مصداقا لوعد رسول الإسلام عليه الصلاة والسلام "يَبْعَثُ اللهُ عَلَى رأسِ كلِّ مائِة سنةٍ منْ يُجَددُ لهذِه الأمة أمرَ دِينِهَا".
وإذا كان التخريب في المجتمع التونسي قد بلغ بأثر الحملة الشرسة الأخيرة مبلغا خطيرا كما ذكرتم فذلك مبرر آخر لشرعية الانبعاث والحاجة للصحوة وللحركة الإسلامية من أجل بناء ما خرب واستعادة التماسك والإجماع إلى مجتمع قد فككته ومزقته شر ممزق خطط العلمنة والتخريب، بما يجعل مهمة استعادة الإجماع والتماسك والتضامن والتراحم إلى المجتمع التونسي على رأس اهتماماتهم، وذلك يقتضي النضال من أجل تحجيم سطوة الدولة ونفوذها على المجتمع حتى يستطيع أن يتنفس ويصلح من نفسه ويبني مؤسساته المستقلة.
ولولا فضل الله ورحمته وحفظه لدينه ما بقي في مثل هذه البلاد قبس من نور أو أمل في الإصلاح، ولكن الله حافظ دينه وأمته، ولذلك رأينا تعاقبا بين خطط التدمير وخطط البناء بين خطط الإفساد وخطط الإصلاح، فما أن يبدو لقوى الهدم أنها قد انتصرت وإلاّ ويجعل الله للمؤمنين مخارج من حيث لم يحتسبوا!...

الحوار.نت: هل يمكن أن تحلل لقرائنا أسباب الجمود الديمقراطي في تونس وهل أنّ المعارضة بصفة عامة وحركتكم بصفة خاصة مندرجة ضمن تلك الأسباب؟
الشيخ الغنوشي: ليس هناك جمود بل هناك حراك بطيء يعكس ميزان القوة بين الخارج والداخل التونسي. تونس بلد صغير مرهق بموقعه الجغرافي من اروبا (أقل من ساعة طيران)، بما جعل "سياساته" ترجمة للخارج أكثر مما تعبيرا عن الداخل. والمقصود بالخارج هنا الخارج الغربي، لأنّ الخارج العربي ضعيف التأثير جدا وخصوصا بعد انهيار المشرو ع الديمقراطي في الجزائر ودخول هذا القطر في التسعينيات في نفق مظلم من الفتن، وبعد فرض الحصار على ليبيا، وسقوط العراق تحت الاحتلال وانخراط المنطقة في متاهة التسويات، واعتماد الغرب سياسات الإرهاب والزحف الرأسمالي... ولقد استفاد نظام القمع في تونس من كل ذلك وركب تلك الموجات وجوزي بقبوله شريكا لأروبا، بما أطلق يده في قوى التغيير الداخلية. فدفعت أثمانا باهظة وخصوصا الإسلاميين، غير أنّ ميزان القوى هذا أخذ في التبدل في القرن الجديد: انهار مشروع التسويات ومعه اقتصاد السوق الرأسمالي ومشروع الشرق الأوسط الكبير مصطدما بقوة المقاومة الإسلامية والإنسانية، وأخذت الجزائر تتعافى من الإرهاب إلا أنها لم تتعاف من الفساد الذي يدفع بها إلى انتفاضة جديدة، وخرجت ليبيا من الحصار... وهو ما كان له بعض الأثر في ساحة البلاد إذ أخذت مفاعلات المجتمع ومقاوماته الداخلية تلتقط بعض أنفاسها متجاوزة بعض عوائقها الداخلية مثل كابوس التخويف من الإسلاميين على مكاسب الحداثة، وإعطاء الأولوية للثقافي على السياسي، بما يمثل عائقا أمام كل عمل مشترك بين جناحي المعارضة الإسلامي والعلماني ويجعل سلطة القمع أقرب إلى كل منهما من خصمه الأيدولوجي. فاستئصاليو العلمانية يرون في علمانية السلطة على استبدادها شريكا هو أقرب إليهم من الإسلاميين الخطر الأعظم دون تمييز بين معتدل ومتطرف، فيرتمون في أحضان البوليس، وكثيرا ما يكون ذلك مجرد ذريعة لخدمة مصالح شخصية ليس أكثر، وأنصار الهوية ولك أن تقول الجناح المحافظ من الإسلاميين يرون في اليسار عموما دون تمييز بين استئصالي ومعتدل، العدو الألد، فيعزفون على وتر التصالح مع سلطة القمع باعتبار الخلاف سياسيا فهو هيّن وليس دينيا، ولا تخلو دوافع بعضهم من المصالح الشخصية المعبرة عن نفاد الزاد النضالي والميل إلى الراحة. مع أنّ ما توصل إليه الطرفان من وثائق جامعة مهمة في المستوى الثقافي كفيلة بأن تخرج هذا الملف من شواغل العمل المعارض ليستمر الجدل حوله في مستوى المجتمع المدني، ويتفرغ المجتمع السياسي المعارض لمهمة التغيير مواجهة للاستبداد والنهب والتفريط في ما تبقى من الاستقلال. ينبغي أن نسجل بإكبار ما قامت به لجان الحوار التابعة لهيأة 18أكتوبر من جهد نزع الذريعة في التنكب عن العمل الجماعي الجبهوي المعارض حتى يتجه الجميع بإرادة موحدة لمواجهة مشكلات البلاد الحقيقي وعلى رأسها مشكلة الشرعية مشكلة الاستبداد. إنّ الإعراض عن مواجهة هذه الآفة الراسخة هو ما نقل الصراع إلى داخل صفوف الجماعات المعارضة، بل نقلها إلى داخل كل جماعة منها صراعا بين مدافع عن اتجاه التطبيع مع سلطة الاستبداد وبين الاتجاه إلى التغيير. لا يبعد أن تكون شيخوخة الطبقة السياسية الحاكمة كالمعارضة سببا من أسباب ركود الحياة السياسية. إنّ مستويات الأعمار لدى جملة الفاعلين السياسيين تنتمي لمرحلة ما بعد الخمسين، وهي بالتأكيد ليست المرحلة العمرية التي تصنع التغيير وتقود الثورات بل هي أميل للتصالح مع الواقع ومحاولة جني بعض الثمار قبل فوات الفرصة الأخيرة. الذي يلقي بعض خيوط النور على هذا المشهد القاتم هو دخول فئات من الأجيال الجديدة مسرح الأحداث فيما يبدو من نشاطها النضالي في فضاء الإنترنات... فالموقع الاجتماعي الفايسبوك يستقطب أكثر من مليون تونسي معظمهم شباب، وما يجري فيها من حوارات ساخنة وتحفزات للانتفاض لن تلبث حتى تنتقل إلى الشارع. الثابت أنّ السلطة خسرت بلا رجعة المعركة الإعلامية وهو تغير كبير لن يبقى معه وجه المنطقة كلها على ما هو خلال السنوات القليلة القادمة فإما أن يكون للقائمين على هذه الأنظمة المتخلفة الذكاء والجرأة للإقدام على التغيير من باب بيدي لا بيد عمرو أو تتم بشكل أو آخر إزاحتهم من داخل مؤسسة الحكم أو بضغط جماهيري وقد يفعلا باشتراك موضوعي.

الحوار.نت: هل يمكن أن تفيد قراءنا بكسب حركتكم في شتى المهاجر التي توزعتم عليها منذ عام 1981 ثم بصفة مكثفة منذ عام 1992
الشيخ راشد الغنّوشي: لقد شاءت الأقدار أن تشنّ الحرب الشاملة على الحركة في ظروف تحول دولي كبير أنهى ظروف الحرب الباردة لصالح المعسكر الرأسمالي الذي يعد نظام بلادنا جزء منه، واقتضته الحرب علينا تعميق انخراطه فيه، إذ قبل شريكا في ناديه، بما جعل أمر الهجرة صعبا فلا أحد يناسبه أن يظهر مساندا لمعارضة عضو في النادي الرأسمالي، وشريك في الحرب الكونية الصليبية على الإرهاب، وظف كل حقوقه في النادي وعلائقه في ملاحقة لصيقة دؤوبة لمهاجرينا مصمما على الإلقاء بهم تحت جرافة الإرهاب لطحنهم. فأن تنجح قيادة الحركة في إفشال خطة خصمها في تجريمها وإعدامها سياسيا بعد أن أحكم قبضته عليها في الداخل، وأن تنقذ صفتها السياسية حركة إسلامية وسطية ديمقراطية، فلم يكن بالأمر اليسير بل كان أعظم الكسب للنهضة المهاجرة بل للنهضة عامة، أسهم في ذلك ولا شك وأساسا صمود أبطال السجون، وثباتهم في الدفاع عن هذه الصورة في الأيام العصيبة الحارقة التي مروا بجحيمها. ونتيجة لذلك أمكن لحوالي ألفي مهاجر أن يظفروا بحق الإقامة في كل البلاد الديمقراطية وفق اتفاقية جونيف للاجئين، حيث انتهى بهم المطاف فالتقطوا أنفاسهم وبدؤوا يلملمون ما تفرق من شملهم واستئناف حياتهم بالتأقلم مع أوضاعهم الجديدة، فتعلموا لغات مهاجرهم وأخذوا يؤسسون لحياتهم الاجتماعية بحثا عن مهنة وبناء أسرة أو النضال من أجل لمّ شمل، وفي الوقت ذاته تجندوا للدفاع عن إخوانهم والانتصار لمظلوميتهم ومحاصرة أكاذيب السلطة ورشاواها للصحافة، وكذا التعريف بقضية تونس وإزاحة الوشاح السياحي البراق الخادع للكشف عن الوجه الحقيقي وجه القمع والبؤس والنهب والعدوان على الإنسان، على الدين والأخلاق والأرزاق. وتعاونت الحركة في ذلك مع مؤسسات حقوق الإنسان وأنصار الحرية داخل البلاد وخارجها, كما كان على الحركة أن تعرف عامة المسلمين بمظلمة الإسلام في تونس وأن تخاطب الضمير المسلم ليتحمل مسؤوليته إزاء الحملة غير المسبوقة التي يتعرض لها الإسلام ودعاته في تونس. كما كان عليها أن تبذل أقصى الوسع في رعاية عوائل الشهداء والمساجين وبعض المسرحين ولو بالحد الأدنى المقدور عليه فأسست في مهاجرها جمعيات إغاثية لهذا الغرض وللإسهام في التخفيف من معاناة المسلمين والضعفاء عامة. كما كان عليها أن تبذل الوسع في المحافظة على وحدة الحركة الفكرية والسياسية والتنظيمية ولم يكن ذلك سهلا بين مهاجر ممتدة عبر أكثر من خمسين دولة، واقتضى كل ذلك من بين ما اقتضاه:
1- إقامة وضع قيادي يعمل وفق قانون انتقالي ينظم قيام وعمل مؤسسات شورية ومناطقية منتخبة.
2- القيام بتقويم للمسار الذي آل بالحركة إلى هذا الوضع، وتم إقراره في أول مؤتمر مهجري سنة 1995 ونشر للعموم.
3- قيام عمل إعلامي وحقوقي عبر شبكة من المؤسسات والجمعيات التي أقامتها الحركة أو شجعت أعضاءها على ذلك.
4- قامت بعمل إغاثي استقطب ملايين الدولارات لصالح أسر الضحايا، أو شجعت على ذلك.
5- تواصلت مع قوى المعارضة في الداخل والخارج ويسرت فتح الطريق مجددا أمام العمل المشترك.
6- ربطت صلات للحركة مع ممثلي التيار الوسطي في الحركة الإسلامية في العالم ومع كثير من القوى القومية والتحررية عامة.
7- كان لها إسهام معتبر في التأسيس والدعم لفكر الوسطية الإسلامية والتصدي لتيارات التطرف والغلو التي فشلت في اختراق الحركة، ما أسهم في إنقاذ صفة الحركة ووحدتها.
8- أمكن للعشرات من أبنائها أن يتبوؤوا مراكز قيادية مهمة إن في مستوى العمل الإسلامي الدعوي أو الإعلامي وغيره.
وبالخلاصة فرغم أنّ الهجرة لم تكن موقفا اختياريا بل اضطراريا "لولا أنّ أهلك أخرجوني ما خرجت" ورغم كل ما صاحبها من معاناة إلا أن بركاتها كانت عظيمة وستمثل ركنا ركينا في مستقبل الإسلام ليس في البلد الحبيب بل أوسع من ذلك بكثير. والخير فيما اختاره الله عزّ وجلّ.

الحوار.نت: سلطة بن علي اليوم تتمسح على أعتاب الإسلام وتستعد للتكفير عن خطة تجفيف منابع التدين من خلال رموز العائلة الحاكمة نفسها (إذاعة الزيتونة مثلا وبنك الزيتونة مثال آخر كذلك فضلا عن تلون الشارع التونسي بل الإدارة التونسية نفسها بلون الالتزام الإسلامي من مثل الالتحاء والخمار وغير ذلك)... كيف تقرؤون ذلك وهل تفكرون في الانخراط في ذلك التوجه الجديد دعما لمناخات الخير في البلاد ومحاصرة لمناخات الشر فيها؟

الشيخ الغنّوشي: وكما قدمنا سلفا فإنّ ما ذكرتم هو تعبير عن أصالة الإسلام في الشخصية التونسية، وأنّ معركة الهوية التي كانت منطلق الحركة الإسلامية الأساسي وفيها كانت أهم استثماراتها، قد حسمت لصالح الإسلام، فما عاد تيار في البلاد يستطيع أن يجاهر بإنكارها، وحتى دولة الاستقلال التي اتخذت من تفكيك الهوية العربية الإسلامية أيدولوجيتها أخذت تحت وطأة تنامي تيار الهوية تتراجع وتحاول أن تستدرك بعض ما فات ترقيعا لشرعية مهتزة، لأنّ الدولة مهما عتت لا تستطيع أن تجدّف إلى الأبد ضدا عن التيار الشعبي، ولذلك بدأنا نرى قدرا ولو طفيفا محتشما من التراجع عن سياسة "تجفيف منابع الإسلام" التي ورطت فيها الدولة تيارات علمانية وماسونية متطرفة. أفرجت الدولة عن "إذاعة الزيتونة للقرآن الكريم" فأخذ القرآن يذاع في الأسواق، وتلقى منه على الجمهور مواعظ، بعد أن كان شريط منه يعثر عليه في سيارة أجرة كفيلا بسحب الترخيص، إن لم يرم بالتطرف ويعتقل... ولأنّ الإسلام عندنا ليس أصلا تجاريا نخشى أن ينازعنا في ملكيته أحد أو سلعة نحذر أن ينافسنا في تسويقها منافس بل القضية التي من أجل عزها وسيادتها وانتشارها نحيا ونموت إن شاء الله، فكم يكون مبلغ سعادتنا عظيما إذ نرى التزاحم على حمل لوائه حتى من بين من كانوا بالأمس خصومه، والله سبحانه "أعلم بمن اتقى"، "والله يعلم المفسد من المصلح"، ولذلك نحن - رغم خصومتنا مع السلطة - لم نتردد في التعبير عن سعادتنا بالترخيص لإذاعة الزيتونة بما يؤكد أن معارضتنا ليست عدمية، ولا هي تقوم على الحكم على النوايا، فمرد هذه إلى الله سبحانه، غير أنّ الإسلام منهاج شامل للحياة، وليس تفاريق ممزعة، نعم نزل منجما وطبق كذلك، وكذلك يعود. ولذلك هو يقبل التدرج الجاد في تطبيقه إلا أنه لا يقبل الأخذ ببعضه والحرب على بعضه الآخر "أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ" ومن ذلك استمرار الحرب على"الحجاب "المنصوص عليه في القرآن الكريم، فلا يزال محظورا ويفتي وزيرالشؤون الدينية بغربته عن الإسلام، فأيهما الغريب عن الإسلام؟ إنها فضيحة "الحداثة التونسية".
على كل حال الإسلام اليوم هوية دينية للبلاد، والإسلام صحوة إسلامية واسعة أسست لها النهضة، فكل شاب يعمرالمساجد اليوم أو شابة تزهو بزي التقى، ما أحد في البلاد يمكن أن يزعم أنه له أولها سلف قريب غير حركة النهضة التي نفضت الغبار عن المساجد والمصاحف وبثت في البلاد روحاجديدة من التقى وفكر الإسلام ومنهاجه امتدت في كل اتجاه. والإسلام اليوم أكثر من ذلك حركة إسلامية عائدة واثقة قوية راشدة تبسط فكر الوسطية الباحث عن الجامع المشترك في مجتمع مفكك.ولن تكون تونس وهي إحدى قلاع الإسلام الحضارية التاريخيةإلا جزء فاعلا إن شاء الله في أمة إسلامية متجهة قدما إلى العيش وفق تعاليم دينها. وللاعتبار بالتاريخ نذكّر بمحنة أحمد ابن حنبل مع دولة بني العباس أقوى دول العالم في زمنها، تصدى لغرورها في محاولتها أن تفرض على الأمة بقوة الدولة تفسيرها للإسلام، وصمد في مواجهة كل صنوف النكال التي سلطت عليه على يد خلفاء تتابعوا، إلا أنّ التيار الشعبي انحاز إلى الإمام على نحو عارم، ما اضطرالدولة إلى أن تنقلب على أيدولجيتها السابقة ومنظّريها النهّازين، وتعلن أنها على عقيدة الإمام. فهل يعتبر الوزير المسكين وأشباهه بما حصل لأبي دؤاد ونظرائه؟ "لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ"

الحوار.نت: هل يمكن أن ترصد لقرائنا حركة الإسلام في العالم وأثر ذلك على المقاومة في فلسطين وهل تعتبر أنّ العالمانية اليوم هي حجر العثرة في وجه الإسلام أم أنه الاستبداد السياسي أم الصهيونية وبناتها أم كل ذلك مجتمعا؟
الشيخ الغنّوشي: واضح اليوم لكل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، أي لكل صاحب علم أو مقلّد له أنّ الإسلام قوة صاعدة، قد فشلت في التصدي لها كل أساليب القوة أوالاحتواء، ما أفسح المجال أمام القوى العاقلة لتعلي صوتها بالاعتراف بالإسلام شريكا فاعلا في إدارة شؤون العالم وتحقيق السلام فيه بدءً بالاعتراف على سيادته على أرضه وربما تكون الحرب على الإسلام في أفغانستان الحرب الحاسمة باعتبارهاالمحاولة الأخيرة لاستخدام القوة القاهرة لاستبعاد شراكة الإسلام والاعتراف به، المحاولة الأخيرة التي يقوم بها صقور الغرب لرفض ذلك الاعتراف وتلك الشراكة. الحلف الأطلسي وضع كل ثقله هناك. واقتصادياته المتهالكة لم تعد تسمح له حتى بمواصلة تلك الحرب طويلا بله أن تسمح له بفتح حرب أخرى، ولذلك ترى إيران مثلا مطمئنة إلى أن إدارة أوباماالماسكة بقيادة زعيمة الغرب يستبعد جدا- رغم الضغط الرهيب للوبي الصهيوني وللمحافظين الجدد – أن يتورط في ضرب إيران. البنيان الرأسمالي كله معرض للانهيار ما دام مركز الزلزال لم يهدأ، لقد أخذت الأساطير التي نسجت حول قوة إله السوق وقدراته العجيبة وقدرات دولته النموذجية العملاقة، أخذت بسرعة تتبخروتنهار،بل لقد رأينا كيف أخذت قدرات إنسان التطور تتبدد إزاء غيمة صغيرة منطلقة من بركان تتجول بسرعة هائلة من بلد إلى آخر دون استئذان من أحد فارضة الجمود والجثو على الركب حيثماحلت. وإذا كان قلب الزلزال في الولايات المتحدة لم يهدأ ولا يستبعد اندلاعه في كل حين فكيف يكون حال الأتباع وحال أتباع الأتباع؟ الجميع اصطدموا بصحوة الإسلام بمنطق آخر منطق الإيمان، لم تستوعبه الحواسيب الضخمة ومراكز الدراسات والتخطيط العملاقة. لقد اصدطمت المادة بخالقها، الحق مع القوة. العالم اليوم يقف على عتبة تحولات هائلة الإسلام محركها الأساسي، وهو بين أن يتغلب العقلاء في الغرب فيعترفوا بالإسلام شريكا في إعادة صياغة العلاقات الدولية على أساس العدل والاعتراف بالتعدد والتخلي عن نزوعات الهيمنة الغربية أي الاعتراف بالإسلام شريكا وممثلا لأمته من خلال ممثليه الحقيقيين، ومقتضى ذلك الانسحاب من ديار الإسلام وإيكال الكيان الصهيوني لنفسه باعتباره خطرا أعظم على السلام الدولي وورط الغرب في حروب خاسرة مدمرة، أما البديل عن ذلك فليس غير الإمعان في الطريق المسدود بفتح جبهات جديدة للحرب على الإسلام على امتداد العالم بما فيه الساحات الغربية، ولن يغيرذلك شيئا من النهايات فقط رفع الكلفة وتضخيم حجم الخسائر. الأيدولوجيات في حالة مدها وصعودها مواجهتها بالقوة لن تزيدها إلا عنفوانا وشراسة .هم يواجهون شعوبا يتفاقم ويتسع تمردها على السيد الغربي وجرأتها عليه وهي ترى حرائقه تتنقل من ساحة إلى أخرى وجيوشه العملاقة تصطدم بمقاومات من طبيعة أخرى تتفاقم. مركز الثقل العالمي يتنقل بسرعة من الغرب إلى الشرق. وما إقدام البرازيل وتركيا على مد اليد لإيران لإيجاد مخرج للأزمة إلاواحدا من مئات التعبيرات الأخرى... حالة الوهن والتراجع التي تعيشها أمم الغرب مقابل نهوض أمم أخرى تتوهج فيها قوة الروح في طليعتها أمة الإسلام. على هذه الصعدهناك مشكلات كثيرة وفي الجهة الأخرى منجزات حضارية كبيرة ولكن كل لا يغيرطبيعة المشهد. "وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُون
الحوار.نت: هل من كلمة أخيرة إلى الرئيس بن علي أو المعارضة التونسية ونخبتها أو أبناء الحركة أو إلى أي جهة أخرى أو إلى قرائنا الكرام..
الشيخ الغنّوشي: أنصح نفسي والجميع بتقوى الله عزّ وجلّ، ودوام ذكر نعمائه والتهيئ أبدا للقائه بالحذر من سخطه والحرص على طاعته، أداء لحقوقه علينا وحقوق عباده، مستيقنين أنّ الظلم ظلمات يوم القيامة وأنّ دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب، وأنّ الله يمهل ولا يهمل.
أما عن موقع الحوار المغوار، فإني إذ أعبر عن تقديري للجهد التنويري الذي يقوم عليه هذا الموقع المناضل، جزاكم الله خيرا وتفهّمي للصعاب ولظروف الترهيب التي أحاطت بالمنابر الإعلامية المناضلة ما حمل الكثير من كتابها إلى التخفي وراء أسماء وهمية، فإنّ تجربة الأشهر الأخيرة قد كشفت عن حجم كبير من التلويث الذي أصاب بعض فضاءات الإنترنات جراء ما قذفت به جهات متنكرة، قد تسرب من خلالها أعداء متربصون بالجميع.
دعوتي إليكم وإلى كل المناضلين على المواقع الجادة، أخوية حارة، إلى أن تبذلوا الوسع في الارتفاع بمستوى الحوار من طريقين: الأول: من جهة المسؤولية، فيكون حوارا مسؤولا، بوجوه مكشوفة، لا سيما والبلاد من خلال شبابها الأخيار تتحفز لفرض التظاهر في الساحات العامة بالبلاد، فكيف نسمح بتواصل الحفلات التنكرية والتقاذف من ورائها بالبذاءات؟ ثانيا: حمل المتحاورين على الالتزام بأخلاقيات المهنة الصحفية الشريفة وهي في المحصلة ضوابط إسلامية من مثل الإعراض عن المهاترات والنيل من الأعراض والاتهام بغير دليل والتحريش والوقيعة وما إلى ذلك. والله ولي التوفيق. قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا".
الحوار.نت: نتوجه بالشكر الجزيل إلى الشيخ راشد الغنوشي لما أولانا به من حوار صريح مطول بمناسبة الذكرى التاسعة والعشرين للإعلان عن حركة النهضة التونسية.

الحوار.نت


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.