التربية الرّوحية و تزكية النفوس كانتا من أهم المطالب الّتي تكفل بها الأنبياء عليهم أفضل الصّلاة و أزكى التّسليم بأمر من ربّهم سبحانه و تعالى. وهي من أغلى الغايات التي سعى إلى تحقيقها المتقون في حياتهم الدّنيا. فنجاح الإنسان و فشله مرتبط بها إلى حدِّ بعيد. يقول الله تعالى: (وَمَا أُبَرِّيءُ نَفْسِي إنَّ النَّفْسَ لأمارةٌ بالسُّوءِ إلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحيمٌ.) سورة يوسف/آية 53 و لا طريق لتزكية النّفس وإخلاص القلوب إلاّ بإداء ما تعبّدنا به الله على الوجه الصحيح المؤسس على الكتاب و السّنة من إقامة إقامة العبادات وفعل الخيرات والأعمال الصّالحة بكل أنواعها. فبهذا العمل يزداد القلب إيمانا وتزداد النّفس صفاء و اطمئنانا، فينعكس كُلُّ ذلك على الإنسان نورا و هيبة و وقارا. ونتيجة لهذا الصفاء وذلك الإخلاص و تلك الطمأنينة تكون علاقة المؤمن بخالقة متينة و قوية و مبنية أوّلا و أساسا على الحبِّ و الطّاعة و العبودية الخالصة لله ربّ العالمين، كما أنّ علاقته بالمخلوقات الّتي تحيط به عموما وبالإنسان خصوصا تكون قائمة على الرّحمة و حُسن المعاشرة و طِيبِ الخُلُق . إنَّ مُجتمعاتنا الإسلاميّة المعاصرة لأسباب كثيرة قد ابتعدت عن أجواء الحياة الرّوحية ، فصلة القلوب بالله قد ضَعُفتْ، و تمسكها بالأخلاق المنبثقة عن قيّم الإيمان قد ضَمُرَت إلى أبعد الحدود. وتقلص الإخلاص والوعي بحقوق الله تعالى على عباده تركا المجال شاسعا لتفشي المعاصي الظاهرة و الخفيّة، فأتى ذلك على صفاء النّفوس و إخلاص القلوب.و نتيجة لهذا الوضع البعيد عن روح الإسلام تكالب النّاس على الدّنيا بدون ضوابط لا شرعيّة و لا خُلُقٍيّة ، تاركين وراء ظهورهم ركنا مُهِمّا مِنْ أركان الإيمان ، ألاَ وهْوَ تزكية النّفس والعمل على البلوغ بها إلى درجة الإحسان. ولكن مع كلّ هذا، فبرحمة من الله تعالى نلاحظ عند الشباب المسلم في كل مكان إرهاصات عودة للحياة الرّوحية و علامات اهتمام بموضوع تزكية النّفوس، وذلك لأن الخير لن ينقطع من أمّة محمّد صلى الله عليه و سلّم، وهي مهما بعدت عن دينها فهي لا بد عائدة إليه إن عاجلا أو آجلا. وخدمة لمن يريد أن يعيش روحانية الإسلام في بُعْديها التّربوي و الحضاري نُحاول مُستعينين بالله و بالقدر الّذي تسمح به ظروفنا أن نُعِّدَ مُلخصا في التربية الرّوحية وتزكية النّفس في الإسلام مُستندين في ذلك إلى كتاب الله تعالى و سنّة نبيه صلي الله عليه و سلّم ، و مستفيدين من شيوخ الإسلام الكبار في هذا المجال كالإمام الغزالي، وابن تيمية و تلميذه ابن القيم و المحاسبي و غيرهم..
أهميّة تزكية النّفس و إخلاص القلب :
لا شك أنّ النّعيم الّذي يطلبه الإنسان و السعادة الّتي ينشدها و النجاح الّذي يسعى إليه سواء في الدّنيا أو في الآخرة، كُلُّ ذلك مرتبط في المفهوم الإسلامي أيّما ارتباط بتزكية النّفس و السّمو بها وإخلاص القلب و العبودية الكاملة لله ربّ العالمين. و لذلك كان من أسمى المهمّات الّتي بُعِث نبيّ الرّحمة لإنجازها تزكية نفوس المؤمنين: ( هو الّذي بعث في الأمّيِّن رسولا منهم يتلو عليهم آياته و يزّكيهم و يُعلّمهم الكتاب و الحكمة و إن كانوا مِنْ قبل لفي ضلال مُبين )الجمعة آية 2. فلا عجب ، إذا، أن يربط الله تعالى فلاح العبد بتزكية نفسه، فالمولى سبحانه يقسم إحدى عشر مرّة متتالية على وجوب تزكية النّفس، و لا يوجد في القرآن بأكمله أقسام متوالية على هذا النّسق كما هي في هذا الموقع (1). يقول الله تعالى : ( و الشّمس و ضحاها. و القمر إذا تلاها. و النّهار إذا جلاّها. و اللّيل إذا يغشاها. و السّماء و ما بناها. و الأرض وما طحاها. و نفس و ما سوّاها. فألهمها فُجورها و تقواها. قد أفلح منْ زكّاها. و قد خاب مَنْ دسّاها)سورة الشّمس/الآيات (1إلى 10) فالتزكية معناها طلب الطّهارة و التّطهر، ومنها سُمّيت صدقة المال بالزّكاة ، لأنّ بها يتحقق تطهير المال و تزكيته بإخراج حق الله فيه لرّده على الفقراء و المساكين. فمن أراد أن يكون من النّاجين وأصحاب النّعيم و ورثة جنّة النّعيم ، فما عليه إلاّ أن يعمل على تزكية نفسه و تطهيرها من كلِّ ما يمكن أن يُعكّر عليها صفاءها و إخلاصها لربِّ العالمين. ومن أجل فهم النّفس البشريّة على حقيقتها نحاول في الحلقة القادمة التعرض إلى أهم أحوالها لنلتمس الأسباب المعينة على السمّو و الرّفعة ونتخلص من الأسباب المؤدية إلى السوء و الفحشاء من القول و العمل ، تقربا إلى الله و طاعة و رغبة فيما عنده سبحانه. باريس 17جويلية 2011-08-17 مصطفى عبدالله ونيسي