يمر المشهد السياسي في تونس منذ اندلاع الثورة، بثورة هيكلية في مستوى تعدد الأحزاب وتنوع العائلات الفكرية. وإذ تجاوز العدد الجملي للأحزاب المعترف بها إلى أكثر من مائة حزب، فإن أربع أسر فكرية ظلت تتقاسم المشهد، بين إسلامية وقومية وليبرالية ويسارية. وتواصلت التجاذبات والحوارات والتقارب بين الأحزاب ذات الميولات الأيديولوجية الواحدة لتتدافع أو تحاول التشكل في نطاق تحالف أو انصهار. هذا الحراك المتواصل والذي يستدعيه خوف بعض الأحزاب من الضمور والتلاشي، لم يبق التيار الإسلامي خارج هذه الدائرة، خاصة وأن من بين إفرازات الثورة المباركة تعدد التمثيلية الإسلامية بعد أن كانت حكرا على حركة معينة. ليس عجيبا أو غريبا أن تهيمن على الساحة الإسلامية في تونس حركة النهضة بما تحمله من تاريخ وإمكانات جعلتها بسهولة تتبوأ موطن الحركة الكبيرة المهيمنة والمستفردة بالساحة الإسلامية، غير أن هذه الظاهرة تخفي في الحقيقة تجاذبات واختلافات جدية داخل هذا التيار تبلور في السابق بظهور اليسار الإسلامي في الثمانينات وظهور حركة اللقاء الإصلاحي الديمقراطي في بداية الألفية الجديدة [2005]. وإذا كان الطرف الأول قد خبت شمعته بعد أن تشتتت قياداته وغلب على تواصلها الجانب الفكري، فأنشأ صلاح الدين الجورشي منتدى الجاحظ، وانزوى الدكتور حميدة النيفر في العمل الفكري والجامعي. أما حركة اللقاء الإصلاحي الديمقراطي فهي مازالت على الساحة رغم ضعف إمكاناتها التي ساهمت، مع انطلاقتها المهجرية فرارا من الاستبداد، في تواضع إشعاعها، وقد غلبت عليها شخصية الدكتور خالد الطراولي في تنظيراتها وممارستها. تبدو الساحة الإسلامية في تونس اليوم متغيرة تطغى عليها حركة النهضة وتيارات أخرى وخاصة التيار السلفي الذي لا يحمل مشروعا سياسيا ويبدو خطابه لحظيا وممارسته متوترة، أما حزب التحرير فرغم منعه التأشيرة فإنه بقي متواجدا على الساحة غير أنه لم يخرج عن مشروع الخلافة الذي يجمعه بكل أحزاب التحرير في العالم مما أضعف البعد الوطني في مشروعه. في ظل هذا التنافس غير المتكافئ، برزت على الساحة أحزاب سياسية جديدة ذات مرجعية إسلامية. ورغم صغر حجمها وتواضع تجربتها السياسية، فإنها سعت جاهدة للتواجد وبلورة خطاب مختلف رغم ضبابية الطرح أحيانا وعدم اكتمال مشاريعها المجتمعاتية. ولعل تحدي الصغر يجعل منها أحزابا قابلة للتلاشي والاندثار في وسط مشهد سياسي ضاغط تهيمن عليه أحزاب قليلة نتيجة إمكانياتها المادية الضخمة وفي البعض منها تاريخ من الفعل السياسي المقاوم. نحو قطب إسلامي جديد: المبررات والدوافع تبدو الحاجة لوجود قطب جديد داخل المشهد الإسلامي حالة ضاغطة ومستعجلة، ولا يجب التهاون في العمل على تأسيسها. ويمكن حصر الدوافع الموضوعية ومبررات هذا التأسيس في المضارب التالية: 1/ هناك أطراف من المجتمع لها توجس وريبة من حركة النهضة، يبررهما خطابها عند البعض الذي يرى فيها ضبابية أو ازدواجية، أو تاريخها عند البعض الآخر، أو البعض من رموزها وزعاماتها عند آخرين. 2/ خوف البعض من الشعب التونسي من عقلية التفرد والاستفراد التي يمكن أن تنبعث من جديد في المشهد السياسي التونسي، والذي ساهم النظام السابق في نحتها عبر حزب التجمع المنحل. فلا تريد الجماهير "تجمعا" جديدا ولو تحت يافطة إسلامية. 3/ خوف من ثنائية مقيتة وقطبية خطيرة بين حركة النهضة وقطب اليسار والتي أثبت التاريخ سلبياتها والتي استغلها النظام في ضرب الجميع والتفرد بالساحة قرابة ربع قرن من الزمن. فلا تريد الجماهير مجددا إحياء مربعات التسعينات وحتى الثمانينات والتي تركت الدولة والمجتمع في أيدي النظام في ظل غياب أو غيبوبة أو مساندة من معارضة مشتتة أو مرمية في الحواشي. 4/ هناك أطراف من الجمهور "الإسلامي" لا تجد في الخطاب "الإسلامي" المتوفر على الساحة إجابات ملموسة وعقلانية، حيث هيمن الخطاب المغازل للمشاعر والعواطف والبقاء في مربعات الشعارات الفضفاضة التي لا تزيد المشهد إلا رمادية. فلم تر مشروعا مجتمعيا ولكن شتاتا من الأقوال والتصورات المهتزة على أكثر من باب. 5/ غياب البصمة الإسلامية الواضحة والمباشرة في المشروع الإسلامي المتواجد على الساحة، حيث أصبح السعي نحو إرضاء أطراف أخرى منافسة، مجلبة لقراءات وتصورات شاذة أو مهتزة، مع خوف عجيب من "تهمة" "الاسلامية". حتى صارت أحوالها عند بعضها كحال المروزي الذي قال لصاحبه وهو يستنكر عليه عدم معرفته "والله لو خرجت من جلدك ماعرفتك" مميزات القطب الجديد وشروط نجاحه إن وجود هذا القطب الإسلامي يمثل ولا شك إضافة نوعية للمشهد السياسي ومن مميزاته التي تعطيه جدية في الطرح وفرادة على مستوى فهم الواقع واستجابة لتحدياته، عبر عملية تأسيس أساسية لمجمل الأطروحة الإسلامية السياسية تنظيرا ومنهجا وممارسة: 1/ التأسيس المبدئي والأساسي لجوهر ثابت للقطب يدور حوله كل البناء، منهجا وهدفا، تكتيكا واستراتيجيا وهو البعد القيمي والأخلاقي في مستوى التنظير والممارسة، شعاره السياسة أخلاق أو لا تكون، والمشروع التغييري أخلاق أو لا يكون، وأصحابه أهل أخلاق وقيم ونماذج تحتذى، أو لا يكونون. 2/ التأسيس لخطاب وسطي آخر لا يحمل جراحات الماضي ولا يعيش على ثقافة المواجهة أو الثأر ولا ينبثق من فكر الزنزانة، حتى وإن استوطن منازل اللاشعور والوجدان. 3/ التأسيس لخطاب آخر تحمله شرعية الكفاءة والمعرفة الميدانية والوعي بفقه المرحلة ولا يرتكز على شرعيات أخرى مسقطة كشرعية السجن أو شرعية "كبير الحومة" 4/ التأسيس لخطاب عقلاني ومدني لا يتبنى منهجية دغدغة المشاعر والمراهنة على العاطفة والوجدان، ولكن يبني مشروعا مجتمعيا مدنيا يحمل إضافة وتميزا، حتى لا يغيب هذا المشروع بين مضمون مهتز أو مفقود وشعارات فضفاضة لا تسمن ولا تغني من جوع جماهيري ونخبوي صاعد وضاغط. 5/ التأسيس لثقافة المؤسسة وممارسة المأسسة عبر القطع الواضح والحاسم مع ثقافة القدسية للأفكار والعصمة للأفراد ونبذ عقلية الشيخ ومريديه، فليس القطب الإسلامي الجديد الفرقة الناجية ولا صاحب الحقيقة الأزلية، ولكنه اجتهاد خالص داخل المنظومة الإسلامية يحمل عنصري الخطأ والصواب، هدفه إعطاء حلول وتصورات مدنية للواقع التونسي ولتحدياته. والحزب الإسلامي ليس حلقة مسجدية ولكن مؤسسة تحكمها قوانين وآليات ديمقراطية وشوروية في إطار منهجية سليمة وأهداف واضحة. 6/ التأسيس لخطاب واضح تجاه المرجعية الإسلامية حيث تبرز بصماتها الوسطية والمعتدلة في الخطاب والممارسة تجنبا لأي ازدواجية أو مناورة أو تخفيا. فليس القطب الجديد تجمعا سياسيا لا طعم له ولا لون ولا رائحة، ولكن إسلامي المرجعية، إسلامي المشروع وإسلامية الخطاب. وهذا الوضوح لا يتنافى مع مدنية المشروع كما عنيناه سابقا ولكنه رفع أي التباس وتخبط لا يحترم أشواق الشعب للبناء السليم والرصين. فاحترام المصالح والبراغماتية الناجعة لا تلغي التثبت بالمبادئ وعدم المساومة على الثوابت. خاتمة إن وجود قطب إسلامي جديد اليوم في تونس، ليشكل قوة موازية للطرف المهيمن على الساحة، يمثل دفعا إيجابيا للحراك الديمقراطي إجمالا، واحتراما لمدنية المشروع الإسلامي في تعدد يافطاته وهو يخوض تجربة التعدد والاختلاف، وهو حماية كذلك للمشروع ذاته حتى لا يقع التفرد بأحد أطرافه، حتى إذا سقط العنوان مهما كانت ضخامته سقط كل البناء وتعثر المشروع أو تلاشى، ولعل في المشروع اليساري المطروح على الساحة باختلاف عناوينه مثال حي ومباشر في هذا الباب. إن من شروط نجاح هذا القطب الجديد أن لا يبني مشروعه في مواجهة حركة النهضة بل عليه التأكيد على أنه طرف جديد يريد الإضافة والتميز وحماية المشروع قبل العناوين. كما أنه من الضروري لإنجاح هذا المسار وجود رموز معروفة تتبنى أو تساند الهيكل الجديد، لأن دور الرمز محسوم في إنجاح أي عمل، لما يحمله من عناصر الثقة والاطمئنان بينه وبين الجماهير، فهو تمهيد جميل لسريان الفكرة وقبولها. د.خالد الطراولي رئيس حركة اللقاء الإصلاحي الديمقراطي أوت 2011