تدفق سياحي جزائري قوي نحو جندوبة : أكثر من 95 ألف زائر خلال جوان 2025    ميناء المياه العميقة بالنفيضة قريبًا ضمن المشاريع الاستراتيجية لتسريع إنجازه    الكرة الطائرة – بطولة الصداقة: بعد الجزائر، تونس تفوز على ليبيا (فيديو)    كأس العالم للأندية: حسب إحصائيات Opta، المرشح الأبرز هو…    ارتفاع ترتفع درجات الحرارة يوم غد الاثنين: المعهد الوطني للرصد الجوي يوضح    ترامب يعلن حالة الطوارئ في مقاطعة بولاية تكساس بسبب الفيضانات    انطلاق مفاوضات "هدنة غزة" بين إسرائيل وحماس في قطر    مقترح قانون لتسوية وضعية المباني المخالفة لرخص البناء    تجميع 9.2 مليون قنطار من الحبوب    «ميركاتو» كرة اليد في النادي الإفريقي: 5 انتدابات ترفع سقف الطموحات    أخبار مستقبل سليمان .. اتفاق مع معز بن شريفية والفريق مُنفتح على التعامل مع كل الجمعيات    الباحث حسين الرحيلي: لم نخرج بعد من خطر الشح المائي    الليلة: الحرارة تتراوح بين 25 و34 درجة    إعطاء إشارة انطلاق البرنامج الوطني للأنشطة الصيفية والسياحة الشبابية 2025    الفنانة نبيلة عبيد تستغيث بوزير الثقافة المصري: 'أودي تاريخي فين؟'    وائل كفوري يثير الجدل بصورة من حفل زفافه ويعلن نشر فيديو الزواج قريبًا.. فما القصة؟!    شنية سرّ السخانة في جويلية.. بالرغم الي أحنا بعاد على الشمس؟    تاريخ الخيانات السياسية (7): ابن مُلجم و غدره بعلي بن أبي طالب    صحتك في الصيف: المشروبات الباردة والحلويّات: عادات غذائية صيفية «تُدمّر» الفمّ والأسنان !    صفاقس : إفتتاح الدورة الثانية للأيام التنشيطية الثقافية والرياضية بفضاء شاطئ القراقنة لتتواصل إلى يوم 25 جويلية    بنزرت: تحرير 40 مخالفة إثر حملة رقابية مشتركة بشاطئ كوكو بمعتمدية أوتيك    "ائتلاف صمود" يواصل مشاوراته حول مبادرة "العقد السياسي الجديد": نحو توافق مدني واسع يعيد التوازن السياسي    هام/ وزارة السياحة: خطّ أخضر للتشكّيات..    كرة السلة – البطولة العربية سيدات : تونس تتغلب على الأردن وتلتقي مصر في النهائي (فيديو)    بطريقة هوليودية: يسرق محل مجوهرات ويستولي على ذهب بقيمة تتجاوز 400 ألف دينار..وهذه التفاصيل..    فاجعة تهز هذه الجهة/ بفارق ساعتين: وفاة زوجين في نفس اليوم..!    تونس – الطقس: استمرار العواصف الرعدية على الجهة الغربية من البلاد    وزارة الثقافة تنعى فقيد الأسرة الثقافية فتحي بن مسعود العجمي    سفينة بريطانية تتعرض لهجوم صاروخي قبالة سواحل اليمن    ممثلو وزارة المالية يدعون في جلسة استماع صلب لجنة الفلاحة الى الحفاظ على ديوان الاراضي الدولية الفلاحية بدل تصفيته    انطلاق موسم جني الطماطم الفصلية بولاية سيدي بوزيد    الفنان غازي العيادي يعود إلى المهرجانات بسهرة "حبيت زماني"    بن عروس: "تمتع بالصيف وخلي البحر نظيف" عنوان تظاهرة بيئية متعددة الفقرات على شاطئ حمام الشط    كاس العالم للاندية: مدرب بايرن ميونيخ غاضب بسبب إصابة لاعبه موسيالا    الفلبين: فيضانات تجبر أكثر من 2000 شخص على ترك منازلهم    الصباح ولا العشية؟ أفضل وقت للعومان    181 ألف شاب ينتفعون ببرنامج صيفي جديد لمكافحة الإدمان    كيفاش تتصرف كي تشوف دخان أو نار في الغابة؟ خطوات بسيطة تنقذ بلادنا    هاو الخطر وقت تعوم في عزّ القايلة..التفاصيل    في موجة الحرّ: الماء أحسن من المشروبات المثلّجة    وقتاش تعطي الماء للرضيع من غير ما تضره؟    يوم 8 جويلية: جلسة عامة للنظر في مشروع قانون يتعلّق بغلق ميزانية الدولة لسنة 2021    إحداث لجنة وطنية لبرنامج الإنسان والمحيط الحيوي    عاجل/ للمطالبة بفتح المفاوضات الإجتماعية : إقرار مبدأ الإضراب الجهوي في القطاع الخاص بهذه الولاية..    قائمة الفرق الأكثر أرباحًا في مونديال الأندية 2025 ... بعد انتهاء الدور ربع النهائي – أرقام قياسية ومكافآت ضخمة    انطلاق قمة "بريكس" في ريو دي جانيرو اليوم بمشاركة بوتين    البكالوريا دورة المراقبة: هذا موعد انطلاق التسجيل عبر الإرساليات القصيرة..    ابن الملكة كاميلا ينفي صحة مفاهيم مغلوطة عن والدته    عادل إمام يتوسط عائلته في صورة نادرة بعد غياب طويل بمناسبة عقد قران حفيده    وزارة الفلاحة تضع أرقاما للتبليغ الفوري عن الحرائق    نوردو ... رحلة فنان لم يفقد البوصلة    تطبيقة جديدة لتسهيل التصريح بالعملة: الإدارة العامة للديوانة تطلق خدمة رقمية موجهة للتونسيين بالخارج    اليوم الأحد: الدخول مجاني إلى المتاحف والمواقع الأثرية والتاريخية    تاريخ الخيانات السياسية (6) .. أبو لؤلؤة المجوسي يقتل الفاروق    بالمرصاد : لنعوّض رجم الشيطان برجم خونة الوطن    نادي ليفربول يقرر دفع المبلغ المتبقي من عقد جوتا لعائلته    تذكير بقدرة الله على نصرة المظلومين: ما قصة يوم عاشوراء ولماذا يصومه المسلمون ؟!..    الفرجاني يلتقي فريقا من منظمة الصحة العالمية في ختام مهمته في تقييم نظم تنظيم الأدوية واللقاحات بتونس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فقهنا السياسي وثورات الربيع العربي - د.احمد زقاقي
نشر في الحوار نت يوم 22 - 09 - 2011


بسم الله الرحمان الرحيم

فقهنا السياسي وثورات الربيع العربي

د.احمد زقاقي
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

لقد ظل فقهنا السياسي لقرون طويلة أسيرا لمقولة عدم جواز الخروج على الحكام ولو خرجوا عن جادة العدل والصواب،بالرغم من أن الكثير من فقهاء السياسة الشرعية كانوا يقصدون الخروج المسلح،لكن الحاكمين عمموا وصف الخروج حتى على الحركات السلمية،مما أدي إلى ترسيخ الاستبداد وانتهاك الحريات،ولا شك في أن للاستبداد مرتكزات نفسية وفكرية في العواطف والعقول ،وإن القطع معه وتفكيك منظومته رهين بالتفتيش عن تلك المرتكزات السلبية لاجتثاتها وتيسير سبل انبعاث الثورات والنهضات من الداخل ،ورب قائل يقول إن الناس العاديين لا شأن لهم بالأفكار المجردة عندما تعصرهم تكاليف الحياة بفعل السياسات الظالمة للمستبدين والمفسدين،نعم قد يبدو للوهلة الأولى أنه لا شأن لهم،لكن بعد طول تفكير وتأمل سيتبين أن الانفجار هو عملية تراكمية لضغوط اجتماعية وسياسية ليست وليدة اليوم أو الليلة،بل تضرب جذورها عميقا في التاريخ؛في تاريخ الغرب من يوم أن ألغت الكنيسة المطالب المادية للإنسان واستغلته باسم الدين الذي احتكرت تأويله،وتاجرت به )صكوك الغفران (،وتحالفت مع الإقطاعيين والمستبدين،وفرضت على العلماء تصورها هي للحقيقة العلمية والحقيقة التاريخية،إلى أن قامت ثورات نبه شعار"اشنقوا آخر ملك بأمعاء أخر قسيس" على تخلُّصها من الاستبداد السياسي والتزييف الديني،ورفعت من شأن الإنسان على الرغم من حدوث نوع من التطرف من تلك الثورات بعدم إقامة كبير وزن لمطالبه الروحية كرد فعل على الكنيسة.
وفي تاريخ العرب والمسلمين من يوم أن وقع الانقلاب على الخلافة الراشدة لصالح الملك العضوض الذي صادر حق الأمة في اختيار حاكميها ومحاسبتهم،ورسخ سوابق التمديد والتوريث،وجعل المال دولة بين الأغنياء والمترفين،فكان هذا هو شأن أولية الاستبداد الذي تقعد بتوالي القرون بفقه "الأحكام السلطانية" وظهرت مقولات"السلطان ظل الله في الأرض"،وغدت الأمة كالقطيع يسوقه الحاكم حيث شاء،إلا أن السلطة العلمية كانت غالبا في يد علماء عاملين مصلحين وملتحمين مع شعوبهم ولم يمثلوا كما في التاريخ الغربي "إكليروسا" يحتكر الاجتهاد في الدين،ويطحنون المساكين،ويتلمظون بدمائهم،بل كانوا يواجهون الحرفية والتحريف والانحراف بمقتضى الحديث الشريف"يحمل هدا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين،وتأويل الجاهلين وانتحال المبطلين".
لقد تحالف الاستبداد السياسي غالبا منذ ذلك الانقلاب مع الفساد الاقتصادي فاحتوش المستبدون الأموال وراكموا الثروات وانفردوا عن باقي الناس بالامتيازات التي صاروا يقاتلون شعوبهم عليها قتالهم على العقائد الدينية،وجَلبوا على الناس لأجل إسكاتهم بصوت إعلامهم،وخَيلهم وجِمالهم،ورَجْل عُملائهم ومُندسيهم ومُتَملقيهم ومُتسلقيهم،وتجرعت الأمة قرونا مديدة غصص الاستبداد،وعوملت المعارضات الشريفة بثلاثية السيف والسم والسجن،واليوم تثور الشعوب العربية والإسلامية لتقطع مع فقه سياسي منحبس ظل لقرون طويلة يُفهِم الناس أن الطاعة للحاكم واجبة مهما ظلم وجار،ومهما ضرب ظهر المواطنين وأكل مالهم،وأنها من الدين وسنن المرسلين،وأن الخروج عليه مجلبة للفتنة وإلقاء بالنفس إلى التهلكة،وتثور لتواجه"الوصال الأنكد" بين الثروة والسلطة،وتطالب بالعدل في الحكم وقسمة الأرزاق،فكيف ترسخت سوابق التمديد والتوريث في تاريخنا؟وكيف انحدر فقهنا السياسي وانحط بحيث لم يصر له هم غير تطويع إرادة الشعوب والتعمية على البدع والضلالات الكبيرة كاحتكار الحكم والثروة؟كيف نضمن لثورات الشعوب النجاح حتى لا ترتد إلى محاور الاستبداد والاستعباد والفساد؟لماذا تتحول النخب الحزبية والسياسية إلى عنصر تهدئة تمني الناس بالإصلاح بينما هي في واقع الحال تُطيل من عمر الاستبداد والفساد؟ إن الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها تقتضي التنبيه على جملة أمور:
أولا:التسليم بوقوع الانقلاب
صدر التحذير الأول من وقوع الانقلاب من صاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام،فقد رُوي عنه أنه قال: "تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا عاضا، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا جبرية، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة"[1]،والرسول عليه الصلاة والسلام أضفى صفة الرشد على الخلافة على منهاج النبوة ليس لبساطة أشكالها من حيث التسيير الإداري،بل لغنى مضامينها المتمثلة في عدم مصادرة حق الأمة في اختيار الحاكم،وعدم احتواش رجالها للأموال،وعدم انفرادهم بالامتيازات،وصار سلوك الراشدين في الحكم سنة أُمرت الأمة بالعض عليها بالنواجد،فمُدح هذا العض وذُم الآخر المرتبط بالملك لأنه يَعض على الناس بالوراثة وبيعة الإكراه،وغدا واضحا في عقول العلماء والصلحاء وقوع الانقلاب؛فعندما سأل الملك الأموي سليمان بن عبد الملك أبا حازم الأعرج: "ما تقول فيما ابتلينا به؟ قال: أعفنا من هذا وعن الكلام فيه أصلحك الله، قال سليمان: نصيحة تلقيها، فقال: ما أقول في سلطان استولى عنوة بلا مشورة من المؤمنين، ولا اجتماع من المسلمين؟ فسُفِكت فيه الدماء الحرام، وقطعت به الأرحام، وعطلت الحدود، ونكثت به العهود"[2]،وبعد أن أتى القاضي أبو بكر الباقلاني (ت 403 ه) على ذكر شروط الإمامة قال: "وهذه الشرائط كانت موجودة في خلفاء رسول الله – صلى الله عليه وسلم - وقال عليه السلام: "الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم يصير ملكا" وكانت أيام الخلفاء الأربعة هذا القدر"[3]، وقال ابن حزم – في سياق تعريضه بالقضاة الذين نصبهم الحكام الظلمة : "أولئك القضاة وقد عرفناهم إنما ولاهم الطغاة العتاة من ملوك بني العباس وبني مروان بالعنايات والتزلف إليهم بعد دروس الخير وانتشار البلاء، وعودة الخلافة ملكا عضوضا، وانبراء على أهل الإسلام، وابتزاز للأمة أمرَها بالغلبة والعسف"[4]، ووصف الإمام الجويني واقع الحال بعد مضي الخلفاء الأربعة فقال: "أضحى الحق في الإمامة مرفوضا، وصارت الإمامة ملكا عضوضا"[5]،وتابعه على هذا الرأي العلامة المغربي أبو علي اليوسي فقال:" فلما ذهب الأئمة المقتدى بهم دخل الناس هذا الأمر بالعنف والشهوة، وانقطعت الخلافة، وجاء الملك العضوض، وذهبت السيرة المحمدية إلا قليلا، وجاءت الكسروية والقيصرية، وتصرفوا في هذا المال بالشهوة، وعاملهم الناس بالرغبة والرهبة"[6]،وقبله أفتى الإمام مالك بعدم جواز بيعة المكره؛إذ لما قام محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب علي أبي جعفر المنصور، استفتى الناس مالكا في الخروج معه وقالوا: "إن في أعناقنا بيعة لأبي جعفر، فقال مالك: إنما بايعتهم مكرهين، وليس على مكره يمين، فأسرع الناس إلى بيعته"[7] أي إلى بيعة محمد بن عبد الله بن حسن.
وليس من الصواب قصر ذلك الإكراه على مسمى الملك فقط بل ينسحب أيضا على الأشكال السياسية المحدثة من أمثال الجمهوريات والجماهيريات والسلطنات الوراثية، ما دام وصف مصادرة حق الشعوب في اختيار الحاكم لاصقا بها،وملازما لها.
ثانيا:مواجهة مصاديق الانقلاب
ونذكر من أهم تلك المصاديق:
1.التوريث
لقد مثل الانقلاب ردة سياسية تصدى لمواجهتها بالقول والفعل الكثير من الصحابة رضوان الله عليهم؛فحينما عزم أول ملك على العهد بالحكم لابنه يزيد ، قال له عبد الرحمان بن أبي بكر:"إنك والله لوددت أنا وكلناك في أمر ابنك إلى الله،وإنا والله لا نفعل،والله لتردن هذا الأمر شورى بين المسلمين أو لنعيدنها عليك جدعة ثم خرج"[8]،ولم يكتف بالتهديد بل عرض الخيارات أيضا فقال:"يا معشر بني أمية اختاروا منها بين ثلاث:بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم،أو سنة أبي بكر،أو سنة عمر،إن هذا الأمر قد كان،وفي أهل بيت رسول الله من لو ولاه ذلك كان لذلك أهلا،ثم كان أبو بكر،فكان في أهل بيته من لو ولاه ذلك لكان لذلك أهلا،فولاها عمر فكان بعده،وقد كان في أهل بيت عمر من لو ولاه ذلك لكان لذلك أهلا،فجعلها في نفر من المسلمين،ألا وإنما أردتم أن تجعلوها قيصرية،كلما مات قيصر قام قيصر"[9]،وبنفس المنطق خاطب عبد الله بن عمر معاوية فقال:"إنه قد كان قبلك خلفاء لهم أبناء،ليس ابنك بخير من أبنائهم،فلم يروا في أبنائهم ما رأيت أنت في ابنك،ولكنهم اختاروا للمسلمين حيث علموا الخيار"[10]،وانتهت مقاومة الانقلاب بالفتك برائدها(المقاومة) الحسين بن علي رضوان عليه في كربلاء،وعندها أدرك الصحابي زيد بن أرقم الأثر السياسي والنفسي العميق الذي سيعقب ترسيخ الاستبداد فقال:"أنتم يا معشر العرب العبيد بعد اليوم" [11]،ونص كثير من فقهاء "الأحكام السلطانية" على التوريث وولاية العهد كشكل من أشكال انتقال السلطة برغم عدم شرعيته لأن المعروف فقها وقضاء أن الحكم ليس مما يرثه الابن عن أبيه،وترسخ ذلك التوريث بأساليب الترغيب والترهيب إلى أن أصبح"دينا" سماه ابن خلدون"دين الانقياد" فقال:" إذا استقرت الرئاسة في أهل النصاب المخصوص بالملك في الدولة وتوارثوه واحدا بعد آخر في أعقاب كثيرين ودول متعاقبة نسيت النفوس شأن الأولية، واستحكمت لأهل ذلك النصاب صبغة الرئاسة، ورسخ في العقائد دين الانقياد لهم والتسليم، وقاتل الناس معهم على أمرهم قتالهم على العقائد الإيمانية، فلم يحتاجوا حينئذ في أمرهم إلى كبير عصابة بل كأن طاعتها كتاب من الله لا يبدل ولا يعلم خلافه"[12] ،كما عد الكواكبي التوريث المتذرع بالدين من أشد أنواع الاستبداد فقال:"وأشد مراتب الاستبداد التي يتعوذ منها الشيطان هي حكومة الفرد المطلق،الوارث للعرش،القائد للجيش،الحائز على سلطة دينية"[13]،ولذلك لا نتحرج من القول بأن الثورة التونسية على نظام بن علي الذي قام على"مسوغات حداثية" ستعتبر أسهل من الثورة على أنظمة مستبدة قائمة على سلطة دينية تدعي حماية حمى الملة والدين.
2.التغلب والإكراه
قال الإمام أحمد : "أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم- والاقتداء به وترك البدع (...) والسمع والطاعة للأئمة وأمير المؤمنين والبر والفاجر، ومن ولي الخلافة فاجتمع الناس عليه ورضوا به، ومن غلبهم بالسيف حتى صار خليفة، وسُمِّي أمير المؤمنين والغزو ماض مع الأمراء إلى يوم القيامة والبر الفاجر لا يُترك"[14]،وزاد عليه الباجوري بما يمكن أن نعتبره وصفة جيدة لتخريج أمثال شاه إيران وبن علي وحسني مبارك والقذافي وبشار وأمثالهم؛ فذكر من طرق تعيين الحاكم:"وثالثها: استيلاء شخص مسلم ذي شوكة متغلب على الإمامة ولو غير أهل لها كصبي وامرأة وفاسق وجاهل،فتنعقد إمامته لينظم شمل المسلمين،وتنفذ أحكامه بالضرورة"،وكل هذه"الاجتهادات" تتعارض مع منهاج القرآن الكلي القائم على العدل،والداعي الناس إلى عدم الركون إلى الذين ظلموا خشية أن تمسهم النار(ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار)[15]،والكثير من العلماء شر|َعوا العدول عن حرية الاختيار إلى أشكال التوريث والتغلب- في نظرهم- بحكم الضرورة الداعية إلى الحفاظ على الوحدة وحقن الدماء ودرء الفتنة،إلا أنهم في الحقيقة بالغوا في التحرز والاحتياط بما أدى إلى ظهور فتن عظيمة لم تكن تخطر لهم على بال كالوقوع في حبائل الاستعمار القديم والجديد،والانحطاط الحضاري،والتأخر العلمي،وإزاحة الشريعة عن مواقع التشريع ،والاستلاب والتبعية وفقدان استقلالية القرار الاقتصادي والسياسي،وتفكك المجتمعات العربية والإسلامية إلى شيع وأحزاب متناحرة نتيجة لغياب ثقافة الحرية والتدبير السلمي للاختلاف،وهو غياب أنتجه فقه التغلب والاستبداد،فشاعت في الشعوب العربية والإسلامية أخلاقيات النفاق والأنانية وإيثار العافية والمصلحة الشخصية وسلوكيات الرشوة والمحسوبية والغموض والتقية بدل الوضوح والشفافية والصدع بكلمة الحق.
ولقد ضاعت مع التغلب كل قيم الحرية التي جاء بها الإسلام وافتداها الأنبياء والعلماء والمصلحون بأرواحهم،وأَعْظَمَ الفاروق عمر النَّكير على المستبدين الذين راموا حرمان الناس من حرياتهم فخاطبهم قائلا:"متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرار"،وذكر الحسين جلاديه بأن حريتهم تمنعهم من سفك دمه الطاهر"إن لم تكونوا أحرارا في دينكم فكونوا أحرارا في دنياكم" ،فلم يكونوا أحرار في دينهم بفعل الاستبداد الذي تذرع بالعقيدة الجبرية الدينية،وتذرع بأحاديث نبوية- لها سياقها الخاص- تطلب من الناس تقديم طاعة مطلقة للحاكم،في غفلة عن القيام باستقراء كلي لأحاديث السمع والطاعة، فبعضها يَنُص ظاهرها على وجوب بذل طاعة مطلقة للحكام سواء عدلوا أم ظلموا كالحديث المروي عن عبد الله بن مسعود: "إنها ستكون أثرة وأمور تنكرونها، قالوا: يا رسول الله فما تأمرنا؟ قال: تؤدون الحق الذي عليكم، وتسلون الذي لكم"[16]، وفي الحديث الآخر عن عوف الأشجعي: "ألا ومن له وال فيراه يأتي شيئا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزع يدا من طاعة"[17]، وبعضها الآخر ينص على طاعة مشروطة ومقيدة: فروي ابن حبان عن أبي سعيد الخدري عن النبي – صلى الله عليه وسلم - قال: "من أمركم بمعصية فلا تطيعوه"[18]، وفي الحديث الآخر عن علي: "لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف"[19]، وفي الحديث الآخر : "ليأتين عليكم أمراء يقربون شرار الناس، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها، فمن أدرك ذلك منكم فلا يكونن عريفا ولا شرطيا ولا جابيا ولا خازنا"[20]، والثابت في قواعد الأصول أن المطلق يُحمل على المُقيَّد،فلا طاعة مطلقة لحاكِم،ولا أنفع في لجم هوى الحاكم من الفصل بين السلطات وتمتيع القضاء باستقلال حقيقي.
3.الظلم في القسمة وتوزيع الثروات
أول تأسيس للسياسة المالية الظالمة اقترن بالانقلاب على الحكم الرشيد،وتوسل بكلمة حق أريد بها باطل وهي"المال مال الله" ،والغرض البعيد هو الخوض في أموال الشعوب بلا حسيب ولارقيب،ولذلك واجه أبو ذر تلك الكلمة –التي يؤمن بها ويضعها في موضعها- بكلمة أخرى مؤداها أن المال "مال المسلمين"، كما ندد سعيد بن المسيب بتلك السياسة المالية الظالمة للمستبدين لما رأى ارتفاع مؤشرات الفساد،فيروى أنه مر به رسول لبني مروان فقال له سعيد: من رسل نبي مروان أنت؟ قال: نعم، قال سعيد: كيف تركت بني مروان؟ قال: بخير، قال سعيد: تركتهم يُجيعون الناس ويُشبِعون الكلاب"[21]،ولما ولي الراشد عمر بن عبد العزيز انتقد بشدة سياسة سلفه المالية وعمل على تغييرها فقال لسليمان بن عبد الملك:" لقد رأيتك زدت أهل الغنى وتركت أهل الفقر بفقرهم"،وخطب الناس يوما على المنبر فقال:" وددت أن أغنياء الناس اجتمعوا فردوا على فقرائهم حتى نستوي نحن وهم وأكون أنا أولهم" ،إلا أن المؤامرات لم تمهله فمات مسموما،وظلت أماني تحقق الكرامة والحرية والعدل في الحكم والقسمة مكبوتة في النفوس،يمنع الناس من النهوض لطلبها تحالف السلطة والمال والأمن،نعم كانت تظهر بين الحين والآخر مطالبات لم يكتب لها الدوام لأنها لم تتبنها جبهة شعبية عريضة،وعندما كانت نخبة العلماء والمفكرين والمصلحين تتقدم بها لا تجد الأنظمة مشقة في الفتك بها.
ومن عجيب ما ذكره الإمام الزمخشري في تفسير قوله تعالى:"يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم،فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول"[22] هو ربطه بين التغلب ونهب المال العام،فقال:" لما أمر الولاة بأداء الأمانات إلى أهلها وأن يحكموا بالعدل، أمر الناس بأن يطيعوهم وينزلوا على قضاياهم. والمراد بأولي الأمر منكم: أمراء الحق؛ لأن أمراء الجور الله ورسوله بريئان منهم، فلا يعطفون على الله ورسوله في وجوب الطاعة لهم، وإنما يجمع بين الله ورسوله والأمراء الموافقين لهما في إيثار العدل واختيار الحق والأمر بهما والنهي عن أضدادهما كالخلفاء الراشدين ومن تبعهم بإحسان... وأمراء الجور لا يؤدّون أمانة ولا يحكمون بعدل، ولا يردون شيئاً إلى كتاب ولا إلى سنة، إنما يتبعون شهواتهم حيث ذهبت بهم، فهم منسلخون عن صفات الذين هم أولو الأمر عند الله ورسوله، وأحق أسمائهم: اللصوص المتغلبة"[23]،هؤلاء اللصوص الذين لا يطلع الشعب على حساباتهم المحمية بأرقام سرية في البنوك الأجنبية إلا بعد حلول ساعة الخلاص منهم،ولذلك عد الكواكبي من طبائع الاستبداد"أنه لا يظهر فيه أثر فقر الأمة ظهورا بينا إلا فجأة قُرَيْب قضاء الاستبداد نحبه"[24]،ونَبَّه على أن"حفظ المال في عهد الإدارة المستبدة أصعب من كسبه"[25].
إن نهب المال العام وتبذيره نازلة جماعية تقتضي فقها يتجاوز ما تقتضيه النوازل الشخصية من حجر القضاء على السفهاء والمبذرين والمفلسين والصغار بمقتضى الآية الكريمة "ولا تؤتوا السفهاء أموالكم"[26]،وذلك التجاوز لا يتأتى أولا إلا باعتبار نهب المال العام"علة اجتماعية اقتصادية سياسية مُوجِبة لمنع كل من يبدو منه سفه من التصرف في أموال المسلمين،ولو كان العرف والقانون يحكم بأنها أمواله"[27]،ويضع ممثلو الشعب الحقيقيون آليات للرقابة والبحث عن مصادر الثروة ووجوه صرفها،وثانيا باعتبار الفساد المالي في الوسط الحاكم علة تنضاف إلى الفساد السياسي تسقط كل حاكم عن مرتبة الشرعية،وتجرده من حق طاعة الشعوب التي بدأت فعلا تسلك في أوج ثوراتها نهج"العصيان المدني"،نزولا عند الأمر الإلهي "ولا تطيعوا أمر المسرفين"[28]،ومن بديع صنع الله في هذه الأيام العظيمة التي شرفت بنهوض الأمة كلها لتقول كلمة حق أمام سلطان جائر،أن منحنا دلائل إيضاح للصفات الفرعونية التي ذكرها القرآن الكريم،فتجسدت في فراعنة تونس ومصر وليبيا واليمن وسورية المخلوع"،وإن أمام الشعوب مهام كبيرة للتخلص من ثرات الفرعونية الثقيل والوبيل،ولنكتف بالعرض العابر لجوانب من هذا الثرات واضعين نصب أعيننا عصابة النظام المصري السابق:
- الطغيان :وهو مجاوزة الحد في الظلم،والعلو والاستكبار،أي الفساد السياسي:"اذهب إلى فرعون إنه طغى"[29] ، "إن فرعون لعال في الأرض"[30]
- الانفراد بالرأي والاستبداد: "قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى"[31]،ومن مصاديقه المعاصرة حجب القنوات عن نقل الحقيقة وقمع الصحافة والتضييق على الإعلام.
- الإسراف ونهب المال العام وتبذيره؛أي الفساد المالي:يصف القرآن الكريم فرعون فيقول"وإنه لمن المسرفين"[32] و"إنه كان من المفسدين"[33].
- القتل والتعذيب:"وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم"[34]،ولقد بدأت تقارير المنظمات الحقوقية وشهادات الضحايا تتوالى مؤكدة على تحول التعذيب إلى سياسة ممنهجة في السجون ومخافر الشرطة،وعلى تفشي القتل بطريقة سادية ؛إذ شاهد العالم كيف اخترق الرصاص الحي صدور المحتجين والآمرين بالقسط من الناس، وكيف كانت شاحنات وسيارات الأمن المصري و"بلطجيته"و"شبيحته"تدوس على المتظاهرين في الساحات والشوارع والأزقة والطرقات.
- قلب الحقائق وتلفيق التهم والتشويه:لقد بلغ فرعون قمة الاستخفاف بعقول الناس عندما حذرهم من موسى وهو نبي مرسل من الله،وحجته كما حكاها القرآن الكريم على لسانه "إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد"[35] فأي دين هذا الذي خشي فرعون تبديله من موسى،إنه دين الاستعباد والانقياد وتلذذ المستعبدين بالخضوع ،وهذا شأن الفراعنة في كل وقت مع المعارضات الشريفة،اتهامها بإثارة الفتن والقلاقل وزعزعة الاستقرار،وعن نفس المنطق الفرعوني صدر فرعون مصر/مبارك عندما برر عدم تخليه عن الحكم بخشيته من الفوضى وتسلم"الإخوان" مقاليد الحكم،أما إرسال قوات الأمن بلباس مدني والقتلة والمجرمين للاندساس في صفوف الثوار لشق صفوفهم والتنكيل بهم فليس من الفوضى في شيء.
إن الحركة الإسلامية مدعوة إلى الانفتاح على جميع الحساسيات والمشارب الفكرية والسياسية،والتحلي بأخلاقيات الوسع الفكري لتلتحم مع شعوبها ،ولتفوت على دوائر الاستكبار العالمي فرص عزلها عن الحركية العامة للمجتمعات الحرة،ولتنتصر- بالتالي- في صراع الإرادات ذي الإشكالية الثلاثية الأضلاع:
- إرادة دولية ترى في الدكتاتوريات والاستبداد ضمانا لمصالحها،وتُداري رؤيتها تلك بخطاب منافق عن الديموقراطية وحقوق الإنسان،وتصريحات تُخَفِّض من سقف المطالب والشعارات التي رفعتها الشعوب العربية والإسلامية في ثوراتها المباركة.
- وإرادة أنظمة حاكمة مستبدة تواجه المطالب الشعبية بقوة الحديد والنار،وعندما يخونها الحول تلجأ إلى الحيلة فتروم الالتفاف على المطالب الشعبية،وإجهاض الثورات.
- إرادة شعبية تنبثق قوتها من قوة الله،وتَصدُر عنها دساتير شعبية لا ممنوحة،وتمتلك قرارها بيدها،وترغم النخب والمعارضات بجميع مشاربها الفكرية والسياسية والأيديولوجية على الجلوس إلى مائدة حوار لا يقصى منه أحد لبحث سبل تجاوز الأزمات وحل المشكلات،واقتراح الحلول والبدائل،وتُصَعِّب على الأجنبي التدخل،ثم الحرص على أن تكون الثورات "محكمة، محكومة، مملوكة، موجهة وجهة الحق لا وجهة الغضب والانتقام. هذا يريد جهادا أكبر سابقا ومواكبا ولا حقا : جهاد النفس وتربيتها"[36]، حتى لا يندس المجرمون و"البلطجية"،بعد ذلك،وفي سبيل الله والمستضعفين لا يبالي القائمون والثوار إن وقعوا على الموت أو وقع الموت عليهم.












الهوامش
[1] مسند الإمام أحمد، 6/ 384.

[2] ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، 2/ 155

[3] الباقلاني،الإنصاف
[4] ابن حزم، الإحكام في أصول الأحكام، 1/ 624- 625.

[5] الإمام الجويني، غياث الأمم، ص: 124.
[6] فاطمة خليل، رسائل أبي علي اليوسي (الرسالة الثالثة) 1/ 249
[7] ابن الأثير، الكامل، 4/ 156- 157
[8] تاريخ خليفة بن خياط ص 214

[9] أمالي القالي 2/175
[10] تاريخ خليفة بن خياط ص 213- 214

[11] تاريخ الطبري 3/288

[12] المقدمة ص 159
[13] الكواكبي،طبائع الاستبداد،ص 14
[14] أبو القاسم الطبري، شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، 1/ 160.

[15] هود/113
[16] ابن حزم، الفصل في الملل والأهواء والنحل، 2/113.
[17] المصدرنفسه
[18] علاء الدين الفارسي، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان، باب طاعة الأئمة، 7/44

[19] نفسه
[20] نفسه
[21] الذهبي، تذكرة الحفاظ، 1/ 54- 55.

[22] النساء/
[23] الزمخشري،الكشاف
[24] طبائع الاستبداد،ص 75
[25] نفسه
[26] النساء /
[27] عبد السلام ياسين،في الاقتصاد،ص 42
[28] الشعراء/151
[29] طه/24
[30] يونس/83
[31] غافر/29
[32] يونس/83
[33] القصص/4
[34] الأعراف/141
[35] غافر/26
[36] نفسه


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.