بقيادة بوجلبان.. المصري البورسعيدي يتعادل مع الزمالك    قضية منتحل صفة مسؤول حكومي.. الاحتفاظ بمسؤول بمندوبية الفلاحة بالقصرين    مخاطر الاستخدام الخاطئ لسماعات الرأس والأذن    صفاقس تُكرّم إبنها الاعلامي المُتميّز إلياس الجراية    سوريا... وجهاء الطائفة الدرزية في السويداء يصدرون بيانا يرفضون فيه التقسيم أو الانفصال أو الانسلاخ    مدنين: انطلاق نشاط شركتين أهليتين في قطاع النسيج    في انتظار تقرير مصير بيتوني... الساحلي مديرا رياضيا ومستشارا فنيّا في الافريقي    عاجل/ "براكاج" لحافلة نقل مدرسي بهذه الولاية…ما القصة..؟    الاحتفاظ بمنتحل صفة مدير ديوان رئيس الحكومة في محاضر جديدة من أجل التحيل    الطبوبي في اليوم العالمي للشغالين : المفاوضات الاجتماعية حقّ ولا بدّ من الحوار    ملف الأسبوع.. تَجَنُّبوا الأسماءِ المَكروهةِ معانِيها .. اتّقوا الله في ذرّياتكم    خطبة الجمعة .. العمل عبادة في الإسلام    انهزم امام نيجيريا 0 1 : بداية متعثّرة لمنتخب الأواسط في ال«كان»    نبض الصحافة العربية والدولية... الطائفة الدرزية .. حصان طروادة الإسرائيلي لاحتلال سوريا    الوضع الثقافي بالحوض المنجمي يستحق الدعم السخي    أولا وأخيرا: أم القضايا    المسرحيون يودعون انور الشعافي    إدارة ترامب تبحث ترحيل مهاجرين إلى ليبيا ورواندا    المهدية: سجن شاب سكب البنزين على والدته وهدّد بحرقها    الجلسة العامة للبنك الوطني الفلاحي: القروض الفلاحية تمثل 2ر7 بالمائة من القروض الممنوحة للحرفاء    الكورتيزول: ماذا تعرف عن هرمون التوتر؟    انتخاب رئيس المجلس الوطني لهيئة الصيادلة رئيسا للاتحاد الافريقي للصيادلة    لماذا يصاب الشباب وغير المدخنين بسرطان الرئة؟    وزير الإقتصاد وكاتب الدولة البافاري للإقتصاد يستعرضان فرص تعزيز التعاون الثنائي    مصدر قضائي يكشف تفاصيل الإطاحة بمرتكب جريمة قتل الشاب عمر بمدينة أكودة    عاجل/ تفاصيل جديدة ومعطيات صادمة في قضية منتحل صفة مدير برئاسة الحكومة..هكذا تحيل على ضحاياه..    الطب الشرعي يكشف جريمة مروعة في مصر    تونس العاصمة وقفة لعدد من أنصار مسار 25 جويلية رفضا لأي تدخل أجنبي في تونس    ارتفاع طفيف في رقم معاملات الخطوط التونسية خلال الثلاثي الأول من 2025    بالأرقام/ ودائع حرفاء بنك تونس والامارات تسجل ارتفاعا ب33 بالمائة سنة 2024..(تقرير)    إقبال جماهيري كبير على معرض تونس الدولي للكتاب تزامنا مع عيد الشغل    وزير الصحة: لا يوجد نقص في الأدوية... بل هناك اضطراب في التوزيع    عاجل/ مجزرة جديدة للكيان الصهيوني في غزة..وهذه حصيلة الشهداء..    الطبوبي: انطلاق المفاوضات الاجتماعية في القطاع الخاص يوم 7 ماي    نحو توقيع اتفاقية شراكة بين تونس والصين في مجال الترجمة    يوم دراسي حول 'الموسيقى الاندلسية ... ذاكرة ثقافية وابداع' بمنتزه بئر بلحسن بأريانة    البطولة العربية لالعاب القوى للاكابر والكبريات : التونسية اسلام الكثيري تحرز برونزية مسابقة رمي الرمح    بطولة افريقيا للمصارعة بالمغرب: النخبة التونسية تختتم مسابقات صنفي الاصاغر والصغريات بحصيلة 15 ميدالية منها 3 ذهبيات    توقيع عدد من الإصدارات الشعرية الجديدة ضمن فعاليات معرض تونس الدولي للكتاب    عاجل/ المُقاومة اليمنية تستهدف مواقع إسرائيلية وحاملة طائرات أمريكية..    تونس العاصمة مسيرة للمطالبة بإطلاق سراح أحمد صواب    صادم: أسعار الأضاحي تلتهب..رئيس الغرفة الوطنية للقصابين يفجرها ويكشف..    التوقعات الجوية لهذا اليوم..طقس حار..    قيس سعيد: ''عدد من باعثي الشركات الأهلية يتمّ تعطيلهم عمدا''    محمد علي كمون ل"الشروق" : الجمهور على مع العرض الحدث في أواخر شهر جوان    توجيه تهمة 'إساءة استخدام السلطة' لرئيس كوريا الجنوبية السابق    منذ سنة 1950: شهر مارس 2025 يصنف ثاني شهر الأشد حرارة    كأس أمم إفريقيا لكرة القدم داخل القاعة للسيدات: المنتخب المغربي يحرز لقب النسخة الاولى بفوزه على نظيره التنزاني 3-2    وفاة أكبر معمرة في العالم عن عمر يناهز 116 عاما    منظمة الأغذية والزراعة تدعو دول شمال غرب إفريقيا إلى تعزيز المراقبة على الجراد الصحراوي    معز زغدان: أضاحي العيد متوفرة والأسعار ستكون مقبولة    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    مباراة برشلونة ضد الإنتر فى دورى أبطال أوروبا : التوقيت و القناة الناقلة    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فقهنا السياسي وثورات الربيع العربي - د.احمد زقاقي
نشر في الحوار نت يوم 22 - 09 - 2011


بسم الله الرحمان الرحيم

فقهنا السياسي وثورات الربيع العربي

د.احمد زقاقي
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

لقد ظل فقهنا السياسي لقرون طويلة أسيرا لمقولة عدم جواز الخروج على الحكام ولو خرجوا عن جادة العدل والصواب،بالرغم من أن الكثير من فقهاء السياسة الشرعية كانوا يقصدون الخروج المسلح،لكن الحاكمين عمموا وصف الخروج حتى على الحركات السلمية،مما أدي إلى ترسيخ الاستبداد وانتهاك الحريات،ولا شك في أن للاستبداد مرتكزات نفسية وفكرية في العواطف والعقول ،وإن القطع معه وتفكيك منظومته رهين بالتفتيش عن تلك المرتكزات السلبية لاجتثاتها وتيسير سبل انبعاث الثورات والنهضات من الداخل ،ورب قائل يقول إن الناس العاديين لا شأن لهم بالأفكار المجردة عندما تعصرهم تكاليف الحياة بفعل السياسات الظالمة للمستبدين والمفسدين،نعم قد يبدو للوهلة الأولى أنه لا شأن لهم،لكن بعد طول تفكير وتأمل سيتبين أن الانفجار هو عملية تراكمية لضغوط اجتماعية وسياسية ليست وليدة اليوم أو الليلة،بل تضرب جذورها عميقا في التاريخ؛في تاريخ الغرب من يوم أن ألغت الكنيسة المطالب المادية للإنسان واستغلته باسم الدين الذي احتكرت تأويله،وتاجرت به )صكوك الغفران (،وتحالفت مع الإقطاعيين والمستبدين،وفرضت على العلماء تصورها هي للحقيقة العلمية والحقيقة التاريخية،إلى أن قامت ثورات نبه شعار"اشنقوا آخر ملك بأمعاء أخر قسيس" على تخلُّصها من الاستبداد السياسي والتزييف الديني،ورفعت من شأن الإنسان على الرغم من حدوث نوع من التطرف من تلك الثورات بعدم إقامة كبير وزن لمطالبه الروحية كرد فعل على الكنيسة.
وفي تاريخ العرب والمسلمين من يوم أن وقع الانقلاب على الخلافة الراشدة لصالح الملك العضوض الذي صادر حق الأمة في اختيار حاكميها ومحاسبتهم،ورسخ سوابق التمديد والتوريث،وجعل المال دولة بين الأغنياء والمترفين،فكان هذا هو شأن أولية الاستبداد الذي تقعد بتوالي القرون بفقه "الأحكام السلطانية" وظهرت مقولات"السلطان ظل الله في الأرض"،وغدت الأمة كالقطيع يسوقه الحاكم حيث شاء،إلا أن السلطة العلمية كانت غالبا في يد علماء عاملين مصلحين وملتحمين مع شعوبهم ولم يمثلوا كما في التاريخ الغربي "إكليروسا" يحتكر الاجتهاد في الدين،ويطحنون المساكين،ويتلمظون بدمائهم،بل كانوا يواجهون الحرفية والتحريف والانحراف بمقتضى الحديث الشريف"يحمل هدا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين،وتأويل الجاهلين وانتحال المبطلين".
لقد تحالف الاستبداد السياسي غالبا منذ ذلك الانقلاب مع الفساد الاقتصادي فاحتوش المستبدون الأموال وراكموا الثروات وانفردوا عن باقي الناس بالامتيازات التي صاروا يقاتلون شعوبهم عليها قتالهم على العقائد الدينية،وجَلبوا على الناس لأجل إسكاتهم بصوت إعلامهم،وخَيلهم وجِمالهم،ورَجْل عُملائهم ومُندسيهم ومُتَملقيهم ومُتسلقيهم،وتجرعت الأمة قرونا مديدة غصص الاستبداد،وعوملت المعارضات الشريفة بثلاثية السيف والسم والسجن،واليوم تثور الشعوب العربية والإسلامية لتقطع مع فقه سياسي منحبس ظل لقرون طويلة يُفهِم الناس أن الطاعة للحاكم واجبة مهما ظلم وجار،ومهما ضرب ظهر المواطنين وأكل مالهم،وأنها من الدين وسنن المرسلين،وأن الخروج عليه مجلبة للفتنة وإلقاء بالنفس إلى التهلكة،وتثور لتواجه"الوصال الأنكد" بين الثروة والسلطة،وتطالب بالعدل في الحكم وقسمة الأرزاق،فكيف ترسخت سوابق التمديد والتوريث في تاريخنا؟وكيف انحدر فقهنا السياسي وانحط بحيث لم يصر له هم غير تطويع إرادة الشعوب والتعمية على البدع والضلالات الكبيرة كاحتكار الحكم والثروة؟كيف نضمن لثورات الشعوب النجاح حتى لا ترتد إلى محاور الاستبداد والاستعباد والفساد؟لماذا تتحول النخب الحزبية والسياسية إلى عنصر تهدئة تمني الناس بالإصلاح بينما هي في واقع الحال تُطيل من عمر الاستبداد والفساد؟ إن الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها تقتضي التنبيه على جملة أمور:
أولا:التسليم بوقوع الانقلاب
صدر التحذير الأول من وقوع الانقلاب من صاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام،فقد رُوي عنه أنه قال: "تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا عاضا، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا جبرية، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة"[1]،والرسول عليه الصلاة والسلام أضفى صفة الرشد على الخلافة على منهاج النبوة ليس لبساطة أشكالها من حيث التسيير الإداري،بل لغنى مضامينها المتمثلة في عدم مصادرة حق الأمة في اختيار الحاكم،وعدم احتواش رجالها للأموال،وعدم انفرادهم بالامتيازات،وصار سلوك الراشدين في الحكم سنة أُمرت الأمة بالعض عليها بالنواجد،فمُدح هذا العض وذُم الآخر المرتبط بالملك لأنه يَعض على الناس بالوراثة وبيعة الإكراه،وغدا واضحا في عقول العلماء والصلحاء وقوع الانقلاب؛فعندما سأل الملك الأموي سليمان بن عبد الملك أبا حازم الأعرج: "ما تقول فيما ابتلينا به؟ قال: أعفنا من هذا وعن الكلام فيه أصلحك الله، قال سليمان: نصيحة تلقيها، فقال: ما أقول في سلطان استولى عنوة بلا مشورة من المؤمنين، ولا اجتماع من المسلمين؟ فسُفِكت فيه الدماء الحرام، وقطعت به الأرحام، وعطلت الحدود، ونكثت به العهود"[2]،وبعد أن أتى القاضي أبو بكر الباقلاني (ت 403 ه) على ذكر شروط الإمامة قال: "وهذه الشرائط كانت موجودة في خلفاء رسول الله – صلى الله عليه وسلم - وقال عليه السلام: "الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم يصير ملكا" وكانت أيام الخلفاء الأربعة هذا القدر"[3]، وقال ابن حزم – في سياق تعريضه بالقضاة الذين نصبهم الحكام الظلمة : "أولئك القضاة وقد عرفناهم إنما ولاهم الطغاة العتاة من ملوك بني العباس وبني مروان بالعنايات والتزلف إليهم بعد دروس الخير وانتشار البلاء، وعودة الخلافة ملكا عضوضا، وانبراء على أهل الإسلام، وابتزاز للأمة أمرَها بالغلبة والعسف"[4]، ووصف الإمام الجويني واقع الحال بعد مضي الخلفاء الأربعة فقال: "أضحى الحق في الإمامة مرفوضا، وصارت الإمامة ملكا عضوضا"[5]،وتابعه على هذا الرأي العلامة المغربي أبو علي اليوسي فقال:" فلما ذهب الأئمة المقتدى بهم دخل الناس هذا الأمر بالعنف والشهوة، وانقطعت الخلافة، وجاء الملك العضوض، وذهبت السيرة المحمدية إلا قليلا، وجاءت الكسروية والقيصرية، وتصرفوا في هذا المال بالشهوة، وعاملهم الناس بالرغبة والرهبة"[6]،وقبله أفتى الإمام مالك بعدم جواز بيعة المكره؛إذ لما قام محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب علي أبي جعفر المنصور، استفتى الناس مالكا في الخروج معه وقالوا: "إن في أعناقنا بيعة لأبي جعفر، فقال مالك: إنما بايعتهم مكرهين، وليس على مكره يمين، فأسرع الناس إلى بيعته"[7] أي إلى بيعة محمد بن عبد الله بن حسن.
وليس من الصواب قصر ذلك الإكراه على مسمى الملك فقط بل ينسحب أيضا على الأشكال السياسية المحدثة من أمثال الجمهوريات والجماهيريات والسلطنات الوراثية، ما دام وصف مصادرة حق الشعوب في اختيار الحاكم لاصقا بها،وملازما لها.
ثانيا:مواجهة مصاديق الانقلاب
ونذكر من أهم تلك المصاديق:
1.التوريث
لقد مثل الانقلاب ردة سياسية تصدى لمواجهتها بالقول والفعل الكثير من الصحابة رضوان الله عليهم؛فحينما عزم أول ملك على العهد بالحكم لابنه يزيد ، قال له عبد الرحمان بن أبي بكر:"إنك والله لوددت أنا وكلناك في أمر ابنك إلى الله،وإنا والله لا نفعل،والله لتردن هذا الأمر شورى بين المسلمين أو لنعيدنها عليك جدعة ثم خرج"[8]،ولم يكتف بالتهديد بل عرض الخيارات أيضا فقال:"يا معشر بني أمية اختاروا منها بين ثلاث:بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم،أو سنة أبي بكر،أو سنة عمر،إن هذا الأمر قد كان،وفي أهل بيت رسول الله من لو ولاه ذلك كان لذلك أهلا،ثم كان أبو بكر،فكان في أهل بيته من لو ولاه ذلك لكان لذلك أهلا،فولاها عمر فكان بعده،وقد كان في أهل بيت عمر من لو ولاه ذلك لكان لذلك أهلا،فجعلها في نفر من المسلمين،ألا وإنما أردتم أن تجعلوها قيصرية،كلما مات قيصر قام قيصر"[9]،وبنفس المنطق خاطب عبد الله بن عمر معاوية فقال:"إنه قد كان قبلك خلفاء لهم أبناء،ليس ابنك بخير من أبنائهم،فلم يروا في أبنائهم ما رأيت أنت في ابنك،ولكنهم اختاروا للمسلمين حيث علموا الخيار"[10]،وانتهت مقاومة الانقلاب بالفتك برائدها(المقاومة) الحسين بن علي رضوان عليه في كربلاء،وعندها أدرك الصحابي زيد بن أرقم الأثر السياسي والنفسي العميق الذي سيعقب ترسيخ الاستبداد فقال:"أنتم يا معشر العرب العبيد بعد اليوم" [11]،ونص كثير من فقهاء "الأحكام السلطانية" على التوريث وولاية العهد كشكل من أشكال انتقال السلطة برغم عدم شرعيته لأن المعروف فقها وقضاء أن الحكم ليس مما يرثه الابن عن أبيه،وترسخ ذلك التوريث بأساليب الترغيب والترهيب إلى أن أصبح"دينا" سماه ابن خلدون"دين الانقياد" فقال:" إذا استقرت الرئاسة في أهل النصاب المخصوص بالملك في الدولة وتوارثوه واحدا بعد آخر في أعقاب كثيرين ودول متعاقبة نسيت النفوس شأن الأولية، واستحكمت لأهل ذلك النصاب صبغة الرئاسة، ورسخ في العقائد دين الانقياد لهم والتسليم، وقاتل الناس معهم على أمرهم قتالهم على العقائد الإيمانية، فلم يحتاجوا حينئذ في أمرهم إلى كبير عصابة بل كأن طاعتها كتاب من الله لا يبدل ولا يعلم خلافه"[12] ،كما عد الكواكبي التوريث المتذرع بالدين من أشد أنواع الاستبداد فقال:"وأشد مراتب الاستبداد التي يتعوذ منها الشيطان هي حكومة الفرد المطلق،الوارث للعرش،القائد للجيش،الحائز على سلطة دينية"[13]،ولذلك لا نتحرج من القول بأن الثورة التونسية على نظام بن علي الذي قام على"مسوغات حداثية" ستعتبر أسهل من الثورة على أنظمة مستبدة قائمة على سلطة دينية تدعي حماية حمى الملة والدين.
2.التغلب والإكراه
قال الإمام أحمد : "أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم- والاقتداء به وترك البدع (...) والسمع والطاعة للأئمة وأمير المؤمنين والبر والفاجر، ومن ولي الخلافة فاجتمع الناس عليه ورضوا به، ومن غلبهم بالسيف حتى صار خليفة، وسُمِّي أمير المؤمنين والغزو ماض مع الأمراء إلى يوم القيامة والبر الفاجر لا يُترك"[14]،وزاد عليه الباجوري بما يمكن أن نعتبره وصفة جيدة لتخريج أمثال شاه إيران وبن علي وحسني مبارك والقذافي وبشار وأمثالهم؛ فذكر من طرق تعيين الحاكم:"وثالثها: استيلاء شخص مسلم ذي شوكة متغلب على الإمامة ولو غير أهل لها كصبي وامرأة وفاسق وجاهل،فتنعقد إمامته لينظم شمل المسلمين،وتنفذ أحكامه بالضرورة"،وكل هذه"الاجتهادات" تتعارض مع منهاج القرآن الكلي القائم على العدل،والداعي الناس إلى عدم الركون إلى الذين ظلموا خشية أن تمسهم النار(ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار)[15]،والكثير من العلماء شر|َعوا العدول عن حرية الاختيار إلى أشكال التوريث والتغلب- في نظرهم- بحكم الضرورة الداعية إلى الحفاظ على الوحدة وحقن الدماء ودرء الفتنة،إلا أنهم في الحقيقة بالغوا في التحرز والاحتياط بما أدى إلى ظهور فتن عظيمة لم تكن تخطر لهم على بال كالوقوع في حبائل الاستعمار القديم والجديد،والانحطاط الحضاري،والتأخر العلمي،وإزاحة الشريعة عن مواقع التشريع ،والاستلاب والتبعية وفقدان استقلالية القرار الاقتصادي والسياسي،وتفكك المجتمعات العربية والإسلامية إلى شيع وأحزاب متناحرة نتيجة لغياب ثقافة الحرية والتدبير السلمي للاختلاف،وهو غياب أنتجه فقه التغلب والاستبداد،فشاعت في الشعوب العربية والإسلامية أخلاقيات النفاق والأنانية وإيثار العافية والمصلحة الشخصية وسلوكيات الرشوة والمحسوبية والغموض والتقية بدل الوضوح والشفافية والصدع بكلمة الحق.
ولقد ضاعت مع التغلب كل قيم الحرية التي جاء بها الإسلام وافتداها الأنبياء والعلماء والمصلحون بأرواحهم،وأَعْظَمَ الفاروق عمر النَّكير على المستبدين الذين راموا حرمان الناس من حرياتهم فخاطبهم قائلا:"متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرار"،وذكر الحسين جلاديه بأن حريتهم تمنعهم من سفك دمه الطاهر"إن لم تكونوا أحرارا في دينكم فكونوا أحرارا في دنياكم" ،فلم يكونوا أحرار في دينهم بفعل الاستبداد الذي تذرع بالعقيدة الجبرية الدينية،وتذرع بأحاديث نبوية- لها سياقها الخاص- تطلب من الناس تقديم طاعة مطلقة للحاكم،في غفلة عن القيام باستقراء كلي لأحاديث السمع والطاعة، فبعضها يَنُص ظاهرها على وجوب بذل طاعة مطلقة للحكام سواء عدلوا أم ظلموا كالحديث المروي عن عبد الله بن مسعود: "إنها ستكون أثرة وأمور تنكرونها، قالوا: يا رسول الله فما تأمرنا؟ قال: تؤدون الحق الذي عليكم، وتسلون الذي لكم"[16]، وفي الحديث الآخر عن عوف الأشجعي: "ألا ومن له وال فيراه يأتي شيئا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزع يدا من طاعة"[17]، وبعضها الآخر ينص على طاعة مشروطة ومقيدة: فروي ابن حبان عن أبي سعيد الخدري عن النبي – صلى الله عليه وسلم - قال: "من أمركم بمعصية فلا تطيعوه"[18]، وفي الحديث الآخر عن علي: "لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف"[19]، وفي الحديث الآخر : "ليأتين عليكم أمراء يقربون شرار الناس، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها، فمن أدرك ذلك منكم فلا يكونن عريفا ولا شرطيا ولا جابيا ولا خازنا"[20]، والثابت في قواعد الأصول أن المطلق يُحمل على المُقيَّد،فلا طاعة مطلقة لحاكِم،ولا أنفع في لجم هوى الحاكم من الفصل بين السلطات وتمتيع القضاء باستقلال حقيقي.
3.الظلم في القسمة وتوزيع الثروات
أول تأسيس للسياسة المالية الظالمة اقترن بالانقلاب على الحكم الرشيد،وتوسل بكلمة حق أريد بها باطل وهي"المال مال الله" ،والغرض البعيد هو الخوض في أموال الشعوب بلا حسيب ولارقيب،ولذلك واجه أبو ذر تلك الكلمة –التي يؤمن بها ويضعها في موضعها- بكلمة أخرى مؤداها أن المال "مال المسلمين"، كما ندد سعيد بن المسيب بتلك السياسة المالية الظالمة للمستبدين لما رأى ارتفاع مؤشرات الفساد،فيروى أنه مر به رسول لبني مروان فقال له سعيد: من رسل نبي مروان أنت؟ قال: نعم، قال سعيد: كيف تركت بني مروان؟ قال: بخير، قال سعيد: تركتهم يُجيعون الناس ويُشبِعون الكلاب"[21]،ولما ولي الراشد عمر بن عبد العزيز انتقد بشدة سياسة سلفه المالية وعمل على تغييرها فقال لسليمان بن عبد الملك:" لقد رأيتك زدت أهل الغنى وتركت أهل الفقر بفقرهم"،وخطب الناس يوما على المنبر فقال:" وددت أن أغنياء الناس اجتمعوا فردوا على فقرائهم حتى نستوي نحن وهم وأكون أنا أولهم" ،إلا أن المؤامرات لم تمهله فمات مسموما،وظلت أماني تحقق الكرامة والحرية والعدل في الحكم والقسمة مكبوتة في النفوس،يمنع الناس من النهوض لطلبها تحالف السلطة والمال والأمن،نعم كانت تظهر بين الحين والآخر مطالبات لم يكتب لها الدوام لأنها لم تتبنها جبهة شعبية عريضة،وعندما كانت نخبة العلماء والمفكرين والمصلحين تتقدم بها لا تجد الأنظمة مشقة في الفتك بها.
ومن عجيب ما ذكره الإمام الزمخشري في تفسير قوله تعالى:"يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم،فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول"[22] هو ربطه بين التغلب ونهب المال العام،فقال:" لما أمر الولاة بأداء الأمانات إلى أهلها وأن يحكموا بالعدل، أمر الناس بأن يطيعوهم وينزلوا على قضاياهم. والمراد بأولي الأمر منكم: أمراء الحق؛ لأن أمراء الجور الله ورسوله بريئان منهم، فلا يعطفون على الله ورسوله في وجوب الطاعة لهم، وإنما يجمع بين الله ورسوله والأمراء الموافقين لهما في إيثار العدل واختيار الحق والأمر بهما والنهي عن أضدادهما كالخلفاء الراشدين ومن تبعهم بإحسان... وأمراء الجور لا يؤدّون أمانة ولا يحكمون بعدل، ولا يردون شيئاً إلى كتاب ولا إلى سنة، إنما يتبعون شهواتهم حيث ذهبت بهم، فهم منسلخون عن صفات الذين هم أولو الأمر عند الله ورسوله، وأحق أسمائهم: اللصوص المتغلبة"[23]،هؤلاء اللصوص الذين لا يطلع الشعب على حساباتهم المحمية بأرقام سرية في البنوك الأجنبية إلا بعد حلول ساعة الخلاص منهم،ولذلك عد الكواكبي من طبائع الاستبداد"أنه لا يظهر فيه أثر فقر الأمة ظهورا بينا إلا فجأة قُرَيْب قضاء الاستبداد نحبه"[24]،ونَبَّه على أن"حفظ المال في عهد الإدارة المستبدة أصعب من كسبه"[25].
إن نهب المال العام وتبذيره نازلة جماعية تقتضي فقها يتجاوز ما تقتضيه النوازل الشخصية من حجر القضاء على السفهاء والمبذرين والمفلسين والصغار بمقتضى الآية الكريمة "ولا تؤتوا السفهاء أموالكم"[26]،وذلك التجاوز لا يتأتى أولا إلا باعتبار نهب المال العام"علة اجتماعية اقتصادية سياسية مُوجِبة لمنع كل من يبدو منه سفه من التصرف في أموال المسلمين،ولو كان العرف والقانون يحكم بأنها أمواله"[27]،ويضع ممثلو الشعب الحقيقيون آليات للرقابة والبحث عن مصادر الثروة ووجوه صرفها،وثانيا باعتبار الفساد المالي في الوسط الحاكم علة تنضاف إلى الفساد السياسي تسقط كل حاكم عن مرتبة الشرعية،وتجرده من حق طاعة الشعوب التي بدأت فعلا تسلك في أوج ثوراتها نهج"العصيان المدني"،نزولا عند الأمر الإلهي "ولا تطيعوا أمر المسرفين"[28]،ومن بديع صنع الله في هذه الأيام العظيمة التي شرفت بنهوض الأمة كلها لتقول كلمة حق أمام سلطان جائر،أن منحنا دلائل إيضاح للصفات الفرعونية التي ذكرها القرآن الكريم،فتجسدت في فراعنة تونس ومصر وليبيا واليمن وسورية المخلوع"،وإن أمام الشعوب مهام كبيرة للتخلص من ثرات الفرعونية الثقيل والوبيل،ولنكتف بالعرض العابر لجوانب من هذا الثرات واضعين نصب أعيننا عصابة النظام المصري السابق:
- الطغيان :وهو مجاوزة الحد في الظلم،والعلو والاستكبار،أي الفساد السياسي:"اذهب إلى فرعون إنه طغى"[29] ، "إن فرعون لعال في الأرض"[30]
- الانفراد بالرأي والاستبداد: "قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى"[31]،ومن مصاديقه المعاصرة حجب القنوات عن نقل الحقيقة وقمع الصحافة والتضييق على الإعلام.
- الإسراف ونهب المال العام وتبذيره؛أي الفساد المالي:يصف القرآن الكريم فرعون فيقول"وإنه لمن المسرفين"[32] و"إنه كان من المفسدين"[33].
- القتل والتعذيب:"وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم"[34]،ولقد بدأت تقارير المنظمات الحقوقية وشهادات الضحايا تتوالى مؤكدة على تحول التعذيب إلى سياسة ممنهجة في السجون ومخافر الشرطة،وعلى تفشي القتل بطريقة سادية ؛إذ شاهد العالم كيف اخترق الرصاص الحي صدور المحتجين والآمرين بالقسط من الناس، وكيف كانت شاحنات وسيارات الأمن المصري و"بلطجيته"و"شبيحته"تدوس على المتظاهرين في الساحات والشوارع والأزقة والطرقات.
- قلب الحقائق وتلفيق التهم والتشويه:لقد بلغ فرعون قمة الاستخفاف بعقول الناس عندما حذرهم من موسى وهو نبي مرسل من الله،وحجته كما حكاها القرآن الكريم على لسانه "إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد"[35] فأي دين هذا الذي خشي فرعون تبديله من موسى،إنه دين الاستعباد والانقياد وتلذذ المستعبدين بالخضوع ،وهذا شأن الفراعنة في كل وقت مع المعارضات الشريفة،اتهامها بإثارة الفتن والقلاقل وزعزعة الاستقرار،وعن نفس المنطق الفرعوني صدر فرعون مصر/مبارك عندما برر عدم تخليه عن الحكم بخشيته من الفوضى وتسلم"الإخوان" مقاليد الحكم،أما إرسال قوات الأمن بلباس مدني والقتلة والمجرمين للاندساس في صفوف الثوار لشق صفوفهم والتنكيل بهم فليس من الفوضى في شيء.
إن الحركة الإسلامية مدعوة إلى الانفتاح على جميع الحساسيات والمشارب الفكرية والسياسية،والتحلي بأخلاقيات الوسع الفكري لتلتحم مع شعوبها ،ولتفوت على دوائر الاستكبار العالمي فرص عزلها عن الحركية العامة للمجتمعات الحرة،ولتنتصر- بالتالي- في صراع الإرادات ذي الإشكالية الثلاثية الأضلاع:
- إرادة دولية ترى في الدكتاتوريات والاستبداد ضمانا لمصالحها،وتُداري رؤيتها تلك بخطاب منافق عن الديموقراطية وحقوق الإنسان،وتصريحات تُخَفِّض من سقف المطالب والشعارات التي رفعتها الشعوب العربية والإسلامية في ثوراتها المباركة.
- وإرادة أنظمة حاكمة مستبدة تواجه المطالب الشعبية بقوة الحديد والنار،وعندما يخونها الحول تلجأ إلى الحيلة فتروم الالتفاف على المطالب الشعبية،وإجهاض الثورات.
- إرادة شعبية تنبثق قوتها من قوة الله،وتَصدُر عنها دساتير شعبية لا ممنوحة،وتمتلك قرارها بيدها،وترغم النخب والمعارضات بجميع مشاربها الفكرية والسياسية والأيديولوجية على الجلوس إلى مائدة حوار لا يقصى منه أحد لبحث سبل تجاوز الأزمات وحل المشكلات،واقتراح الحلول والبدائل،وتُصَعِّب على الأجنبي التدخل،ثم الحرص على أن تكون الثورات "محكمة، محكومة، مملوكة، موجهة وجهة الحق لا وجهة الغضب والانتقام. هذا يريد جهادا أكبر سابقا ومواكبا ولا حقا : جهاد النفس وتربيتها"[36]، حتى لا يندس المجرمون و"البلطجية"،بعد ذلك،وفي سبيل الله والمستضعفين لا يبالي القائمون والثوار إن وقعوا على الموت أو وقع الموت عليهم.












الهوامش
[1] مسند الإمام أحمد، 6/ 384.

[2] ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، 2/ 155

[3] الباقلاني،الإنصاف
[4] ابن حزم، الإحكام في أصول الأحكام، 1/ 624- 625.

[5] الإمام الجويني، غياث الأمم، ص: 124.
[6] فاطمة خليل، رسائل أبي علي اليوسي (الرسالة الثالثة) 1/ 249
[7] ابن الأثير، الكامل، 4/ 156- 157
[8] تاريخ خليفة بن خياط ص 214

[9] أمالي القالي 2/175
[10] تاريخ خليفة بن خياط ص 213- 214

[11] تاريخ الطبري 3/288

[12] المقدمة ص 159
[13] الكواكبي،طبائع الاستبداد،ص 14
[14] أبو القاسم الطبري، شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، 1/ 160.

[15] هود/113
[16] ابن حزم، الفصل في الملل والأهواء والنحل، 2/113.
[17] المصدرنفسه
[18] علاء الدين الفارسي، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان، باب طاعة الأئمة، 7/44

[19] نفسه
[20] نفسه
[21] الذهبي، تذكرة الحفاظ، 1/ 54- 55.

[22] النساء/
[23] الزمخشري،الكشاف
[24] طبائع الاستبداد،ص 75
[25] نفسه
[26] النساء /
[27] عبد السلام ياسين،في الاقتصاد،ص 42
[28] الشعراء/151
[29] طه/24
[30] يونس/83
[31] غافر/29
[32] يونس/83
[33] القصص/4
[34] الأعراف/141
[35] غافر/26
[36] نفسه


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.