الاستاذ. عبد الله لعماري* استيقظ الرأي العام المغربي على خبر ميلاد تحالف سياسي موسع ومفتوح، يضم ثمانية أحزاب كقاعدة تأسيسية، تتنوع خلفياتها الفكرية ومساراتها التاريخية، وتوجهاتها السياسية، ما بين قوى وشخصيات شاركت، من موقع اليمين، في ماضي المغرب السياسي، منذ استقلال البلاد، وتنفذت في الحكم والسلطة والإدارة والاقتصاد، وما بين قوى وفعاليات انحدرت من تجارب كانت على يسار السلطة، وفي موقع المواجهة، وعبر قنوات تنظيمية، تجلت خلال التاريخ السياسي المغربي في أشكال معارضة أو حركات ثورية اشتراكية أو ماركسية لينينية أو إسلامية، منبثقا وعيُها الإيديولوجي إما من صلب الفكر الوطني العام أو من المرجعيات الليبرالية والاشتراكية والإسلام. وقد ساهم حزب النهضة والفضيلة ذو المرجعية الإسلامية في تأسيس هذا القطب السياسي، مسنودا بفعاليات إسلامية، بناء على الانسجام والتجاوب القائم بين منطلقاته الفكرية واختياراته السياسية، وبين ما أعلن عنه "التحالف من أجل الديمقراطية" في أرضيته الفكرية التأسيسية، وفي مبادئه وبرنامجه السياسي العام، والتي تتخذ لها خيارا فكريا وسياسيا جوهريا يرنو إلى أفق تطوير البلاد دولة وأمة في ظلال مجتمع حداثي ديمقراطي ينبني صرحه على ركائز العقيدة الإسلامية والهوية المغربية الغنية بالعروبة والأصالة الأمازيغية، وكذا المؤسسات الحامية للرصيد التاريخي والحضاري للأمة المغربية، من موقع البوابة الغربية للعالم الإسلامي، المنفتحة جسرا على الجغرافية الأوربية. وقد ثمن الإسلاميون هذه المنطلقات باعتبارها تجليا للثوابت الجامعة لفئات الشعب المغربي، ومن شأنها أن تدفق دما حيا جديدا في شرايين اللحمة الوطنية، وفي وقت عصيب، تعصف فيه الرياح من كل صوب وحدب، في عمق واقع الشعوب العربية والإسلامية، مجددة حينا ومدمرة حينا آخر، ومشرعة أبواب المجهول تارات أخرى. واعتبر الإسلاميون أن تنوع المشارب والرؤى والتصورات لدى مكونات التحالف الجديد، في إطار التوحد على القيم الوطنية الثابتة والجامعة، مكسبا تاريخيا يرَشِّد دينامية المجتمع نحو تطور بناء، يرسخ الثقة في مستقبل ضامن لوطن متماسك. ولأول مرة في تاريخ المغرب المستقل، وكسابقة لها مغازيها التاريخية، في استشراف مستقبل حصين للأجيال القادمة، التئم شمل النسيج الوطني المغربي، في ما يعطي قيمة رمزية لما عليه وشائج العائلة المغربية من توثق، عندما ضمت بنيات "التحالف من أجل الديمقراطية" مناضلين وأطرا، ليبراليين واشتراكيين وإسلاميين تحت أفياء نقاش ديمقراطي منفتح على كل الآراء والاقتراحات والمطالبات بغض النظر عن كونها صادمة أو حادة أو مبالغة أو مهادنة أو موادعة. وفي لحظة تاريخية وحساسة وحرجة من محطات مصيرية للبلاد، تجالس رجالات من مسارات نضالية مختلفة بالشكل الذي تكاتفت فيه مناكب معتقلين سياسيين سابقين يساريين وماركسيين لينيين وإسلاميين ثوريين، مع أكتاف رجال دولة سابقين وراهنين كانوا يوما ما ماسكين بزمام السلطة والحكم، عندما كان محاوروهم الآن يخوضون لجج المواجهة أو يقبعون في غيابات السجون. ومن ثم إذ يستحضر الإسلاميون هذه الاعتبارات الرمزية للتركيبة المتنوعة للتحالف السياسي الجديد، وكذا الاعتبارات الواقعية لحراجة السياق الزمني الذي لا يخرج البلاد وهي ضمن المنظومة العربية من دائرة الاحتمالات العويصة والنذر الوخيمة، فإنهم وبإرادات متوهجة باليقظة والحزم والأمل يتطلعون إلى أن يضطلع هذا التكتل السياسي الوطني بمسؤولية الخلاص والإنقاذ كي تتضافر الجهود من أجل أن يتحسس المغرب طريقه في النفق الدامس الظلمات، نحو نور انبعاث جديد تحل فيه المصالحة مع الذات، وفق ميزان تصحيح أخطاء وخطايا الماضي بما يقوم مسيرة عقود من تاريخ المغرب المستقل، وبما يكفل للبلاد أجواء التحرر والانعتاق من ممارسات ومواضعات وعقليات، تنفذت في سياسات البلاد وفي تدبير ثرواتها ومقدراتها المشتركة، بالانحطاط الذي بدد أحلام الوطنية الأولى، وأحل الكوارث المحيطة بالحاضر، والمتجهمة ظلاماتها في سماء الغد والمستقبل. والإسلاميون إذن، وبتعميق للرؤية والتحليل، وبتوسيع لدائرة النظر البعيد، الذي لا يتوقف عند تحسس موطئ الأقدام، يحرصون ويتوخون في التحالف السياسي الجديد ما يرقى به إلى مستوى نادٍ تأتلف في هياكله الإرادات الوطنية الصادقة والجادة والمتجرد، المتحررة من أوهاق الماضي والمتعففة من جشع السطوة على الحاضر والمستقبل، من أجل وضع استراتيجية للإنقاذ تخدم الصالح العام لفئات الشعب المغربي دون نخبوية أو طبقية أو شوفينية، في أفق القضاء على منظومة الامتيازات والتفاضلات التي نسفت وتنسف فضيلة المواطنة، وأحالت وتحيل على ظلمات مجتمع النبلاء والعبيد، حيث التفاخر بالألقاب والأنساب والمواريث يجثم فوق السواد الأعظم الراسخ في الأغلال والمغرق في الإملاق والهشاشة. والإسلاميون غير غافلين عن المعوقات التي تطوق عنق هذا المشروع الإنقاذي النبيل، وتغل أياديه وأقدامه من المضي قدما نحو اقتحام العقبات. إذ أن الانتهازية التي حطمت آمال الوطنية الأولى، وهدرت تضحياتها وحماساتها، لن تنفك عن التربص من جديد بمصير أمة وسلامة دولة وأمان أجيال. والانتهازية عابرة للأحزاب كما هي عابرة للمجتمعات، إذ أنها مسلكيات بشرية تقتات من رذيلة الجشع الفردي ضدا على المصلحة العليا والصالح العام. و"التحالف من أجل الديمقراطية" ليس بدعا من التشكيلات السياسية بحيث يغرق الإسلاميون بصدده في أوهام نأيه عن ترصد الانتهازية وأساطينها وفلولها بمشروعه النبيل، سيما وأن الانتهازية قد ترى في لحظة ميلاد التحالف لحظة الانقضاض على الفرص والمغانم الانتخابية بالنظر إلى الاستحقاقات المنتظرة في 25 نونبر 2011، بالحجم الذي يعمي بصرها عن لحظ فداحة الخطوب المحدقة بالبلاد العربية والمغرب جزء منها، ويعمي بصيرتها عن تقدير المسؤوليات الجسام المعلقة على نجاح استراتيجية الإنقاذ المصيري الذي يتوخاه التحالف. وإذن فالانتهازية المتلفعة بجلباب "التحالف من أجل الديمقراطية" قد ترى في الإسلاميين مجرد رداء تستتر به لعوراتها، وتتزين به فولكلوريا لتمرير مؤامرتها على الشعب المغربي، إمعانا في سد الطريق أمام مشروع النهضة بالبلاد، وتحديثها وتنميتها كما تتوخاه قوى التحالف. ولأن النزعة الانتهازية ودهاقنتها لا تتعاطى مع الشأن السياسي العام إلا تعاطي احتلاب الأبقار، ولا يخالجها تجاه مؤسسات الشأن العام من برلمان وحكومة وإدارة ومؤسسات اقتصادية عمومية وتمثيلية ومقدرات وذخائر للبلاد، ما ينبغي أن ترمق به من تسام وتعال ورفعة، بقدر ما تحتسبه بأهوائها من أنها مجرد أشياء للاسترباح والاغتنام والاقتسام ابتغاء الاغتناء والوجاهة في غير ما عبء باحتضار وطن، أو رقص فوق جراحات المواطنين. لأن الأمر كذلك، فالتنوع الذي هو معيار قيمة، ومن مدخله انضم الإسلاميون إلى التحالف، لا تحتسبه النظرة القصيرة للانتهازية سوى مدعاة لتبييض ماض وواقع سياسي لا زالت الحركات الاحتجاجية طولا وعرضا تجاهر بفضحه واتهامه ومحاسبة المسلكيات المتورطة فيه أشخاصا وجماعات. إن الإسلاميين، ومثل باقي الشركاء المخلصين الغيورين على مصلحة الوطن، يؤسسون لحركة في صلب مشروع "التحالف من أجل الديمقراطية"، تنبثق انبثاقا عابرا للأحزاب والجماعات والإيديولوجيات، من أجل ابتعاث الوطنية مرة أخرى، تحمل مشعلها أجيال جديدة، تنبجس كالعيون من الصخور الصماء، وتجدد الحياة السياسية باستراتيجية نضالية تعلو على المحطات الانتخابية، كونها وسيلة لا غاية، وتطهر الأحزاب السياسية من اهترائها وخرفها ومن آثامها وخطيئاتها، وتقطع مع ماضي الاستحواذ والامتياز، وتشتعل حماسا مثلما اشتعلت به أجيال الوطنية الأولى وهي تقاوم وتكافح قوى الاستعمار البغيض. وعليه، فإن مسؤولية أجيال ما بعد الفاتح من يوليوز 2011، تاريخ المصادقة على الدستور التعاقدي الجديد، تتجسد في مقاومة ومكافحة قوى الظلام الجاحدة لفضيلة الوطن، وفضيلة التساوي في التنعم بخيرات الوطن، ومقاومة ومكافحة أوضاع الجمود للخروج من وهدة التخلف والوضاعة والتشرذم والضياع، تجسيدا لقوله تعالى: "وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان"، وامتثالا لقوله تعالى: "إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله". *عضو الأمانة العامة لحزب النهضة والفضيلة