لم يكن مفاجئا لي شخصيا، ولا للمراقبين العارفين بالشأن التونسي ذلك الفوز الكبير الذي حققته حركة النهضة التونسية في انتخابات
المجلس التأسيسي، وهو ما يمكن تفسيره بجملة من العوامل التي
ربما كان يجهلها كثير من المراقبين الأجانب الذين استمعوا فقط إلى
عدد من العلمانيين واليساريين المتطرفين ممن منّوا النفس بفوز
متواضع للنهضة.
ولعلهم اعتقدوا أن حملتهم الشعواء على الحركة ورموزها، وفي
مقدمتهم زعيمها المفكر الإسلامي راشد الغنوشي، ستؤتي أكلها
تخويفا للشعب من "بعبع" الإسلاميين وفضّا له من حولهم.
" من أهم العوامل التي يمكن رصدها في سياق الحديث عن فوز النهضة هو ذلك العامل التقليدي الذي يتوفر في سائر الدول العربية، وهو انحياز الجماهير للخطاب الإسلامي في التعاطي مع المشكلات الراهنة في المجتمع " من أهم العوامل التي يمكن رصدها في سياق
لم تكن النهضة وحدها هي من استفاد من الصحوة الإسلامية، فقد
حدث مثل ذلك مع قائمة هامشية "العريضة الشعبية" يتزعمها محمد
الهاشمي الحامدي (حصلت على حوالي عشرة في المائة)، وهو أحد
أعضاء الحركة الذين فصلوا منها مطلع التسعينيات، والذي استخدم
الخطاب الإسلامي في حملته، في ذات الوقت الذي استخدم فيه
إمكانات مالية لا تفسرها إمكاناته الجيدة المعروفة، فضلا عن
تسخيره للفضائية التي يملكها في لندن، ولعل بعض السلفيين قد
ساندوه بسبب إعلانه تبني الخطاب السلفي قبل سنوات قليلة، مع
ضرورة الإشارة إلى حديث البعض عن تحالف بينه وبين رموز في
حزب بن علي ونظامه المخلوع، إلى جانب استفادته من البعد
الجغرافي الذي ترجم فوزا له في منطقته سيدي بوزيد (حصل فيها
على ثلاثة مقاعد مقابل مقعدين للنهضة).
العامل الثاني الذي يمكن رصده في سياق الأسباب التي أدت إلى
الفوز الكبير للنهضة هو ذلك المتعلق بوفاء التوانسة لمن ضحوا في
سبيل الحرية والهوية الإسلامية، ومن واجهوا نظام القمع وتلقوا
أعنف ضرباته، ولا خلاف هنا على أن أحدا لم يواجه النظام
ويتعرض لجبروته وبطشه كما كان الحال مع حركة النهضة التي
سُجن الآلاف من خيرة قادتها ورجالها وتعرضوا للتعذيب، ومن كان
يخرج منهم من السجن كان يتعرض لملاحقة دائمة، ولا تسأل عن
جحافل المنفيين الذي فروا من القمع، ومن ضمنهم زعيم الحركة
الشيخ راشد الغنوشي.
" العامل الثاني الذي يمكن رصده في سياق الأسباب التي أدت إلى الفوز الكبير للنهضة هو ذلك المتعلق بوفاء التوانسة لمن ضحوا في سبيل الحرية والهوية الإسلامية، ومن واجهوا نظام القمع وتلقوا أعنف ضرباته " قد يرى البعض أن جيلا من التوانسة لم يعرف
في السياق ذاته كان خطاب الحركة يركز على ما ينفع الناس ويمكث
في الأرض وفي مقدمتها قضايا التنمية والحرية والعدالة، وليس
على المظاهر والخصوصيات الشخصية. والحق أن الشيخ راشد
الغنوشي كان سباقا على هذا الصعيد، وأتذكر سؤالا وجه إليه قبل
أكثر من عقدين من قبل صحفي أجنبي (أو صحفية لا أذكر) حول
فرض الحجاب، فقال بما معناه إن حركته لن تفرضه، لكنها ستعمل
على نقل الناس بالحسنى نحو حالة اجتماعية تعتبره الأصل، وما
سواه مخالف للمروءة والقيم الاجتماعية.
لا أعتقد أن الحركة ستتبنى العلمانية كما روَّج البعض، ولا أعتقد
أنها تريد ذلك على المدى المتوسط والبعيد، لكنها ترتب أولوياتها
على نحو عاقل، ثم من قال إن أمرا كهذا سيفرض على الناس فرضا،
وهل إذ صوَّت الناس يوما لصالح استلهام روح الشريعة ومقاصدها
المعروفة في هذا الجانب أو ذاك سترفضه الحركة، الأمر الذي
ينسحب بشكل أساسي على مجلة الأحوال الشخصية.
لا ننسى أن كلمة العلمانية والليبرالية ليس لها تفسير واحد، والأصل
أن عموم الإسلاميين يتبنون دولة مدنية بمرجعية إسلامية، وأن
يعتمد تفسير التعاطي مع هذه المرجعية على ولاية الأمة وحضورها
في سائر شؤونها، وليس من حق أحد أن يعترض على ما تفرزه
الصناديق والاستفتاءات النزيهة، اللهم إلا إذا أرادت الأقلية أن
تفرض رأيها على الأغلبية كما يشي خطاب العلمانيين المتطرفين
وبعض اليساريين.
" النهضة لن تقصي أحدا وستتعاون مع كل الشرفاء الحريصين على مصلحة تونس وشعبها، كما أنها ستبذل كل ما في وسعها من أجل تقديم نموذج يشرِّف الإسلاميين ويشرفها أيضا أمام شعبها الذي منحها ثقته " بعد هذا الفوز الكبير يأتي سؤال المستقبل،