انه الثامن من شهر مايو من سنة 1991 , يومها ظللت نائما إلى ساعة متأخرة من الصباح وإذا بي أستيقظ على صراخ و ضجيج, هرولت نحو الشباك أفتحه فإذا بي ألمح طلبة يجرون هربا من البوليس الذي يطاردهم في كل ناحية, هل أظل في غرفتي إلى أن يأتي أصحاب العصي يدقون بابي بأرجلهم أم ماذا أفعل؟ وبينما أنا في تذبذبي بين ذلك لا إلى هذا الرأي ولا إلى ذاك ,صاح بي صديقي هيّا اجر قبل أن يدركونا إنهم لا يفرّقون بين من حضر المظاهرة وشارك فيها وبين من لا علم له بها, المهم أن يمسك أحدا يقدّمه لسيّده مثله في ذلك مثل الكلب الذي يرسله سيده إلى الصيد فلا يدّخر جهدا في القبض على الفريسة وينال السيد الألقاب والترقيات ويرمى للكلب بالفتات. أطلقنا العنان لأرجلنا. قضينا مدة ليست بالقصيرة حتى أصبحنا في مأمن من مكرهم وجبروتهم. كنت أعرفهم جيدا إذ اني أقضي سنتي الرابعة في الجامعة وألحظ بعيني يوميا ممارسات القوم السوء تجاه طلبة العلم بإذن من السيد الذي لا تروقه كلمة تقال في تجمع أو على الملء تنتقص من هيبته أو هيبة أعوانه. صاح كبيرهم إن هؤلاء خطر على الشعب لأنهم يتنفسون وعيا وينطقون حروفا لم أعهدها في مملكتي. روى لي احدهم أن كبيرهم عندما كان على رأس وزارة القمع جاء بنفسه ذات مرة -اعتصم فيها الطلبة- لإنهاء ذلك الاعتصام بحد ّالقوة. الحمد لله في مملكتنا لا نتعب من حفظ المصطلحات لأننا لا نعرف غير مصطلح واحد يصبح ويمسي عليه كل من قال أو همّ بقول شيء لا يرضي السلطان ألا وهو القوة, بالقوة يلين الحديد كما يقال وسيعلم كل من يخالف قانون الأمير أن مأواه الزنزانة وبئس المصير. لم نكن لنبيت تلك الليلة في المبيت الجامعي بل قررنا العودة إليها بعد أن دبّ الهدوء وظننّا أن أمر المطاردات قد ولّى وان البوليس قد ترك الطلبة وشأنهم لأنّ موعد الامتحانات قد قرب. لكن القدر كان يخبئ اشياءا اخرى: صاح في وجهي أبو الذّل اركب في السّيارة يا كلب. لم أكن لأعصى أمر الكلاب لأني أخاف عضهم لذلك صعدت في السيارة أصما أبكما لا أقدر على شيء أينما يسوقني أبو الذّل لا أقول لا. ماذا يحدث؟ قضيت ليلتي في غرفة إذا اخرجت يدي لم أكد أراها, أحسست بالجوع يخترق أمعائي لكن النّوم داهمني ولم يترك لي مجالا للتّفكير فيما سيحلّ به غدا. أفقت على صوت أبي الذل انهض ستذهب إلى مركز أريانة. أدخلني عون الأمن إلى سيده وأنا لا يفقه شيئا مما يحدث لي, لعل في الأمر التباس, لم أكن يوما سياسيا ناشطا لكني كنت أمتلك وعيا ودراية بما يحدث حولي, لعل هذا ممنوع أيضا. - هل تنتمي لحزب ما؟ - لا - ما هي الأحزاب الموجودة بالجامعة؟ - توجد ثلاث تيارات الماركسيين والإسلاميين والقوميين العرب وكل حزب بما لديهم فرحون - إذا أنت تعرف كلّ شيء - يا سيدي أنا طالب في القسم النهائي ودراسة هذه التيارات السياسية التي توجد في كل البلدان العربية هو قسم من برنامجنا الدّراسي ثم إن المعرفة بالشيء لا يعني العمل به . وبدأ الرجل يسأل ويستنتج كما يحلو له والمهم لديه أن يلصق بي تهمة الانتماء إلى تيار سياسي بعينه ومن أطرف ما قال: - أنت تلبس قميصا لونه هو لون الاتجاه الإسلامي, إذا فأنت من الإسلاميين. عندها غلبني الضحك ثم تداركت الأمر بسرعة ودفنت ضحكتي حتى لا أثير غضبه. - هل تدخّن؟ - في بعض الأحيان - إذا فأنت من حزب التحرير ما عاد للمنطق ولا للثقافة مكان في حديثنا. وا أسفاه ذهب العلم وحلّ الجهل وأي جهل انه جهل مسنود بالقوة. لقد أظهر صاحبنا من الغباء ما يكفي لان يجعل منه مسؤولا امنيا يخوله ان يتحكم في رقاب العباد, شأنه في ذلك شان زبانية الأنظمة في بلادنا العربية حيث يمكنك أن تبلغ المراتب العليا شريطة ان لا تعمل عقلك وان تنفذ ما يملى عليك ولا تنس أن تنزع من قلبك أي شىء يمت إلى الرحمة او الإنسانية بصلة, عندها تصبح القلوب كالحجارة او اشد قسوة وان كانت الحجارة تتفتت في بعض الأحايين ليخرج منها ماء فيه حياة للناس. الى اللقاء في الحلقة القادمة