خرجت من المطعم وأنا أجري وقد استبدّ بي رعب فظيع من صاحبه ألبرتو كارتوزو.. لقد اقتنعت بأنه كلب شرس وخطير فهربت منه وخرجت الى الشارع وأنا أجري.. وألهث.. و«أتلفت» بين الحين والآخر لعل الكلب يجري خلفي للانقضاض عليّ.. كانت شوارع باليرمو خالية من المارة.. وباردة جدّا.. فالطقس خريفي ورذاذ من المطر بصدد النزول.. وأنا وسط الشوارع أجري كالمجنون.. تذكرت كلب حومتي الذي هجم عليّ وأنا صبيّ صغير.. نهشني.. وترك لي ما يشبه الحفرة في فخذي الأيسر.. وأرعبني.. وأرهبني.. وقتلني خوفا.. ومنذ تلك اللحظة صرت أكره الكلاب.. وأخافهم.. ولا أحبهم الى هذه اللحظة.. وفي نفس اليوم الذي نهشني فيه هذا الكلب ذهبت الى المدرسة في «رحبة الغنم».. وما إن دخلنا القسم وجلسنا على مقاعدنا حتى طلب منّا المعلّم سي الشقيري وكان رجلا طويلا وغليظا وخشنا وكأنه جذع نخلة ولذلك كنت أنظر إليه دائما باستغراب وأطيل النظر في هيئته.. لقد طلب منا إخراج مصاحفنا.. ثم أمرني أنا بالذات بالخروج الى السبورة.. وأمرني بأن أقرأ سورة «الشرح» ولكنني ارتبكت.. وتلعثمت مع أنني أحبّ هذه السورة بالذات لأنها تعطيني الكثير من الأمل وأؤمن بكل حرف من حروفها.. وتستوقفني دائما آية: «إن مع العسر يسرا».. وكنت كثيرا ما أرددها عندما تضع أمي أمامي صحن البيصارة وقطعة الخبز «البايت».. أو عندما لا أستطيع شراء ملابس العيد.. أو ما يطلبه منا المعلم من أدوات مدرسية.. مع أنني أحبّ هذه السورة لم أستطع أن أقرأها.. فغضب المعلم سي الشقيري.. وأخذ المسطرة وضربني بها بقسوة.. حاولت أن أقرأ فقلت: ألم نشرح لك صدرك.. وظللت أعيد: ألم نشرح لك صدرك.. لقد نسيت بقية السورة.. وإذا بسي الشقيري يضربني مرة أخرى على أصابعي بمسطرته فبكيت وقلت له: سيدي.. سيدي.. لقد «أكلني» كلب الحومة.. ولذلك لم أراجع السورة.. وإذا بغضبه يزداد.. ويهجم عليّ وكأنني أنا الكلب وهو يقول: ماذا قلت؟.. أكلك كلب.. إذن أنت خطر عليّ وعلى قسمي.. فاخرج.. اخرج بسرعة لعنة الله عليك وإذهب الى المدير واعلمه بموضوعك.. وأخذني من كتفي واخرجني من القسم بعنف وهو يردد بغضب: أخرج.. أخرج لعنة الله عليك.. وذهبت بسرعة الى المدير وأنا أبكي فسألني: لماذا تبكي..؟ رويت له ما جرى وما فعله بي المعلم وما إن سمع الحكاية حتى ابتعد عني مسافة لا بأس بها ثم قال لي: انت كلب مكلوب.. عليك أن تغادر المدرسة حالا ولا تعد إلا ومعك شهادة من معهد باستور.. إذهب واغرب عن وجهي ولا أريد أن أراك يا كلب.. شعرت بالإهانة وتصورت أنني ربما صرت كلبا.. وغادرت المدرسة وأنا أتألم وحزين.. وفي طريقي الى بيتنا مررت أمام بيت الزعيم الحبيب بورقيبة الذي كان يقع قبالة المدرسة التي كنت ادرس بها.. ولما وصلت أمام البيت توقفت قليلا أمامه ورحت أتطلع الى بنايته وراودتني فكرة محاولة الدخول اليه لأرى بورقيبة.. وقفت طويلا أمام البيت.. وأنا أفكر.. وأتردد.. وأبكي.. وأتوجع من عبارة الكلب المكلوب.. تساءلت: هل أتقدم خطوة نحو الباب وأطرق الباب وأطلب مقابلة بورقيبة وأحكي له عما جرى معي وأقول له أين الكرامة التي وعدتنا بها عندما عدت يوم غرة جوان ذلك اليوم الأغرّ الذي شاركت آلاف الناس في استقبالك وأنا طفل مازلت شبه أحبو كنت أنظر إليك وإلى عينيك بالذات بمنتهى القدسية والاعجاب وأردد السورة التي حفظتها وأنا عمري خمس سنوات في الكتّاب: بسم الله الرحمان الرحيم «ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك الذي انقض ظهرك فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا فإذا فرغت فانصب وإلى ربّك فارغب».. وعدت أتساءل بعد أن تقدمت خطوة نحو الباب: هل أطرق الباب.. وادخل مباشرة الى بورقيبة.. واطلب منه أن يخرج معي ويرافقني الى المدرسة ويوبّخ المعلم ثم المدير لأنهما عاملاني وكأنني كلب.. هل أنا كلب يا بورقيبة؟ هل من الممكن أن يصبح طفل في عمري وضعفي وقهري بمثابة الكلب المكلوب.. تقدمت من الباب ووضعت فوقه يدي ولكنني سرعان ما تراجعت.. فلقد خفت.. فمن ادراني فقد ينهرني بورقيبة ويطردني ويطلب الشرطة ولن يكتفي بوصفي بكلب بل يطلب من حراسه أن ينقلوني إلى حديقة الحيوانات.. تركت بيت بورقيبة واتجهت صوب باب سيدي بلڤاسم وأنا خائف.. ثم تضاعف خوفي عندما استبدّ بي وهم كبير بأنني ربما بالفعل صرت كلبا بعد أن نهشني كلب الحومة.. ولكنني أبعدت هذا الوهم عندما تذكرت أنني لو صرت كذلك بالفعل لصرت أنبح مثل كل الكلاب.. إذن أنا لست كلبا مثلما يزعم المعلم والمدير.. أنا إنسان.. وسأبقى إنسانا.. هكذا أقنعت نفسي واجتزت باب سيدي بلڤاسم وأنا أشمّ رائحة الفطائر.. اشتهيت فطيرة بالعسل.. ولكن من أين لي بثمنها..؟ توقفت قليلا أمام حانوت الفطايري ورأيته يقلي.. ثم بعد أن يقلي الفطيرة يرمي بها في إناء مليء بالعسل فتعوم فيه ثم يخرجها ويعرضها للبيع.. تذكرت إن مع العسر يسرا.. وتذكرت السورة بكل آياتها التي نسيتها أمام المعلّم.. فشعرت بكثير من السعادة ونسيت الفطيرة ومضيت في طريقي.. ولكن! منطق «اضرب لي ع الطيّارة»!؟ الشارع على «عيني ورأسي».. والرأي العام له كلمة.. ورأي.. ويشارك في اتخاذ القرار «أُوكي».. ومعقول.. ومقبول ولكن أن يتحول الشارع الى قوة مطلقة.. تفعل ما تشاء.. وتضرّر ما تشاء.. وتتصرّف مثلما تشاء فهذه شرارة ستتحوّل الى شرارات.. والشرارات ستصبح حريقا هائلا وكبيرا ومخيفا يصعب إخماده.. إنني أكتب هنا عن واقع صار يفرض نفسه على الناس.. وعلى المؤسسات.. والإدارات.. وعلى المجتمع بصورة عامة.. وهو واقع غير حضاري بالمرّة فما معنى أن يعمد البعض الى قطع سكك الحديد ويمنعون القطارات من التحرّك العادي؟! وما معنى أن يعمد البعض الآخر الى قطع الطرقات ومنع السيارات من المرور ووضع الحواجز على الطرقات؟ وما معنى أن يوقف عون أمن هذا أو ذاك من أصحاب السيارات فلا يأتمرون.. ولا يتوقفون.. ويقول هذا أو ذاك الى العون «إضرب لي ع الطيّارة»!! هكذا بكل وقاحة!!! وما معنى أن تقوم داخل المحكمة ما يشبه المظاهرات ويخطب الخطيب.. ويصيح الصائح.. وينادي المنادي وتصبح المحكمة كأنها «سوق ودلاّل».. وما معنى أن يذهب جمع من البطالة الى عمال يشتغلون في شركة ما.. أو مصنع ما.. أو مؤسسة ما ويطلبون منهم أن يتوقفوا عن العمل ويجبرونهم على ذلك بدعوى أن من يعملون يجب أن يتضامنوا مع من يعملون؟! وما معنى أن يطالب هذا أو ذاك من عباقرة هذا الزمان بإغلاق هذه المؤسسة أو تلك الشركة لأن تلك المؤسسة اشتغلت في عهد بن علي.. أو لأن تلك الشركة تأسست في العهد السابق؟!! إن الكثير مما يحدث الآن لا يشرّف الثورة ويحيد بها عن مسارها.. ويعمل على توريطها في انحراف لا أخلاقي.. ومتخلف.. وهمجي. وسيعود عليها وعلى البلاد والعباد بالوبال.. إن الكثير من الظواهر والسلوكيات والتصرّفات يجب أن تتوقف فورا.. ويجب أن يقع التنديد والتشهير بها بكل جرأة.. وقوّة.. ولا يمكن أن يتواصل هذا التيّار الذي سينتهي بنا الى ما لا تحمد عقباه.. إنه تيّار غير بناء وغير إيجابي ولا يخدم الثورة.. وسيعود بنا الى الوراء وفي استمراره خطر علينا جميعا سنكتشفه في قادم الأيام والشهور.. وعندئذ سيصعب الإصلاح.. وسيصعب التراجع.. وسنندم جميعا حيث لا ينفع الندم!!