بقيادة بوجلبان.. المصري البورسعيدي يتعادل مع الزمالك    قضية منتحل صفة مسؤول حكومي.. الاحتفاظ بمسؤول بمندوبية الفلاحة بالقصرين    مخاطر الاستخدام الخاطئ لسماعات الرأس والأذن    صفاقس تُكرّم إبنها الاعلامي المُتميّز إلياس الجراية    سوريا... وجهاء الطائفة الدرزية في السويداء يصدرون بيانا يرفضون فيه التقسيم أو الانفصال أو الانسلاخ    مدنين: انطلاق نشاط شركتين أهليتين في قطاع النسيج    في انتظار تقرير مصير بيتوني... الساحلي مديرا رياضيا ومستشارا فنيّا في الافريقي    عاجل/ "براكاج" لحافلة نقل مدرسي بهذه الولاية…ما القصة..؟    الاحتفاظ بمنتحل صفة مدير ديوان رئيس الحكومة في محاضر جديدة من أجل التحيل    الطبوبي في اليوم العالمي للشغالين : المفاوضات الاجتماعية حقّ ولا بدّ من الحوار    ملف الأسبوع.. تَجَنُّبوا الأسماءِ المَكروهةِ معانِيها .. اتّقوا الله في ذرّياتكم    خطبة الجمعة .. العمل عبادة في الإسلام    انهزم امام نيجيريا 0 1 : بداية متعثّرة لمنتخب الأواسط في ال«كان»    نبض الصحافة العربية والدولية... الطائفة الدرزية .. حصان طروادة الإسرائيلي لاحتلال سوريا    الوضع الثقافي بالحوض المنجمي يستحق الدعم السخي    أولا وأخيرا: أم القضايا    المسرحيون يودعون انور الشعافي    إدارة ترامب تبحث ترحيل مهاجرين إلى ليبيا ورواندا    المهدية: سجن شاب سكب البنزين على والدته وهدّد بحرقها    الجلسة العامة للبنك الوطني الفلاحي: القروض الفلاحية تمثل 2ر7 بالمائة من القروض الممنوحة للحرفاء    الكورتيزول: ماذا تعرف عن هرمون التوتر؟    انتخاب رئيس المجلس الوطني لهيئة الصيادلة رئيسا للاتحاد الافريقي للصيادلة    لماذا يصاب الشباب وغير المدخنين بسرطان الرئة؟    وزير الإقتصاد وكاتب الدولة البافاري للإقتصاد يستعرضان فرص تعزيز التعاون الثنائي    مصدر قضائي يكشف تفاصيل الإطاحة بمرتكب جريمة قتل الشاب عمر بمدينة أكودة    عاجل/ تفاصيل جديدة ومعطيات صادمة في قضية منتحل صفة مدير برئاسة الحكومة..هكذا تحيل على ضحاياه..    الطب الشرعي يكشف جريمة مروعة في مصر    تونس العاصمة وقفة لعدد من أنصار مسار 25 جويلية رفضا لأي تدخل أجنبي في تونس    ارتفاع طفيف في رقم معاملات الخطوط التونسية خلال الثلاثي الأول من 2025    بالأرقام/ ودائع حرفاء بنك تونس والامارات تسجل ارتفاعا ب33 بالمائة سنة 2024..(تقرير)    إقبال جماهيري كبير على معرض تونس الدولي للكتاب تزامنا مع عيد الشغل    وزير الصحة: لا يوجد نقص في الأدوية... بل هناك اضطراب في التوزيع    عاجل/ مجزرة جديدة للكيان الصهيوني في غزة..وهذه حصيلة الشهداء..    الطبوبي: انطلاق المفاوضات الاجتماعية في القطاع الخاص يوم 7 ماي    نحو توقيع اتفاقية شراكة بين تونس والصين في مجال الترجمة    يوم دراسي حول 'الموسيقى الاندلسية ... ذاكرة ثقافية وابداع' بمنتزه بئر بلحسن بأريانة    البطولة العربية لالعاب القوى للاكابر والكبريات : التونسية اسلام الكثيري تحرز برونزية مسابقة رمي الرمح    بطولة افريقيا للمصارعة بالمغرب: النخبة التونسية تختتم مسابقات صنفي الاصاغر والصغريات بحصيلة 15 ميدالية منها 3 ذهبيات    توقيع عدد من الإصدارات الشعرية الجديدة ضمن فعاليات معرض تونس الدولي للكتاب    عاجل/ المُقاومة اليمنية تستهدف مواقع إسرائيلية وحاملة طائرات أمريكية..    تونس العاصمة مسيرة للمطالبة بإطلاق سراح أحمد صواب    صادم: أسعار الأضاحي تلتهب..رئيس الغرفة الوطنية للقصابين يفجرها ويكشف..    التوقعات الجوية لهذا اليوم..طقس حار..    قيس سعيد: ''عدد من باعثي الشركات الأهلية يتمّ تعطيلهم عمدا''    محمد علي كمون ل"الشروق" : الجمهور على مع العرض الحدث في أواخر شهر جوان    توجيه تهمة 'إساءة استخدام السلطة' لرئيس كوريا الجنوبية السابق    منذ سنة 1950: شهر مارس 2025 يصنف ثاني شهر الأشد حرارة    كأس أمم إفريقيا لكرة القدم داخل القاعة للسيدات: المنتخب المغربي يحرز لقب النسخة الاولى بفوزه على نظيره التنزاني 3-2    وفاة أكبر معمرة في العالم عن عمر يناهز 116 عاما    منظمة الأغذية والزراعة تدعو دول شمال غرب إفريقيا إلى تعزيز المراقبة على الجراد الصحراوي    معز زغدان: أضاحي العيد متوفرة والأسعار ستكون مقبولة    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    مباراة برشلونة ضد الإنتر فى دورى أبطال أوروبا : التوقيت و القناة الناقلة    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الهمّ "النسوي" في الفكر الإصلاحي التونسي (الجزء الثاني)
نشر في الحوار نت يوم 13 - 12 - 2011


(القرن التاسع عشر وبداية القرن الماضي)
قمنا في الجزء الأوّل من هذا البحث بالتعريف ببعض جوانب مسارات تحرر المرأة التونسية والتي قسمناها إلى ثلاثة مراحل: مرحلة الإصلاح ورجالاته، ثم مرحلة الطاهر الحداد، وفي هذا الجزء سوف نتعرّض إلى مرحلة "الحداثة" و"العصرنة" التي تمتد من تاريخ الإعلان عن مجلة الأحوال الشخصية إلى يومنا هذا.

مجلة الأحوال الشخصية من "لائحة الشيخ جعيّط" إلى حداثة بورقيبة

في مقال لمحمد الحبيب السلامي صادر بجريدة الصريح بتاريخ 9 جوان 2011 تحت عنوان "مجلة الأحوال الشخصية هي مجلة المستيري أم مجلة بورقيبة" حاور فيه السيد أحمد المستيري وزير العدل الأسبق في أول حكومة تونسية، قدّم هذا الأخير شهادة حيّة لتاريخ مجلة الأحوال الشخصية وحيثيات إصدارها، خاصة وقد كان من المشرفين على صياغتها.
يقول السلامي: "الوزير الأكبر مصطفى الكعاك اختار لوزارة العدل شيخ الإسلام المالكي الإمام العالم عبد العزيز جعيط فأقبل عليه الصحفي التونسي الكبير الشيخ منصف المستيري عم أحمد المستيري وقال للشيخ جعيط من باب اللوم: كيف تقبل هذه الوزارة في هذه الظروف وفيها الكثير مما يقال؟ فأجابه الشيخ جعيط: لقد قبلت وزارة العدل لأحقق مشروع (المجلة الشرعية) التي أريد أن أوفق بواسطتها في الأحكام بين المالكية والحنفية. فردّ عليه منصف المستيري: في هذا أقول لك: أعانك الله (الصريح 9 جوان 2011).


1-لائحة الشيخ جعيّط
هي مشروع رسمي للجنة كانت متكونة من قضاة ومحامين ووكلاء شرعيين وشيوخ ومدرّسين بجامع الزيتونة ومثقفين من مختلف الاختصاصات. تكوّنت تلك اللجنة سنة 1948 في وزارة العدلية وترأّسها وزير العدل وشيخ الإسلام في ذالك الوقت الشيخ محمد العزيز جعيّط "مضت سنوات وسقطت حكومة مصطفى الكعاك وترك الشيخ جعيط الوزارة ولم يكمل مشروعه الذي بدأه" (جريدة الصريح ).
تحتوي اللائحة على عمودين:
- عمود مخصص لقواعد مفصّلة من المذهب المالكي؛
- عمود مخصص لقواعد مفصّلة من المذهب الحنفي؛


ومن المعروف أنّ القضاء آنذاك كان يتكوّن من غرفتين، غرفة مالكية وغرفة حنفية. وكان هناك العديد من الصعوبات أمام القضاة لإيصال الحقوق لأصحابها نظرا لهذه الإزدواجية القضائية. وهنا يأتي معنى المقولة الشعبية المعروفة "يتكئ على المذهب الحنفي" أي أنّ عددا من المتحيلين حين لا يروق لهم الحكم الصادر أمام محاكم الغرفة المالكية يتمسّكون بالمذهب الحنفي، حتى يعاد النظر في القضية فيطول النزاع ويقع العبث بحقوق الناس ويكون ضحية هذا التلاعب عادة النساء والأطفال بالتبعية، الذين يضطرون للانتظار سنوات طويلة حتى يتم الحكم في القضية فتضيع الحقوق والمصالح لهذه الفئة من الناس.
وفي هذا الإطار جاء مقترح اللائحة التي صاغتها لجنة الشيخ محمد العزيز جعيّط، فكانت لها أهمية كبيرة في تلك الفترة التي كانت تسود فيها صورة مخالفة تماما لمقاصد الدين الإسلامي في حماية حقوق النساء والأطفال والضعفاء بصفة عامة. وهو ما كان يبرر به المستعمر إكتساحه لمجالات التشريعات والقضاء فالإستعمار الفرنسي قام بتغيير العديد من القوانين في مجال الإقتصاد واستحدثت مجلة الإلتزامات والعقود منذ سنة 1906 ولكنها استثنت مجال الأحوال الشخصية وهدفها من ذلك تكريس المعتقدات السائدة والإبقاء على الوضع المتردي للعائلة وللمجتمع التي تساعد على استمرار الهيمنة والإستعمار الفرنسي.
ومثلت لائحة الأحكام الشرعية للجنة الشيخ محمد العزيز جعيّط قرابة 80 بالمائة من مجلة الأحوال الشخصية التونسية ( وقع نقل 130فصلا من جملة 169 يوم صدور مجلة الأحوال الشخصية، ووقع التصرّف في 30 فصلا وإضافة بضعة فصول رأى الشيخ جعيّط أنها لا تتماشى مع الفقه الإسلامي..) إضافة إلى ما استلهمته هذه المجلة من أفكار الطاهر الحداد.


2-مجلة الأحوال الشخصية في صياغتها الأولى
"قال الاستاذ أحمد المستيري: ولما اختارني المجاهد الأكبر الحبيب بورڤيبة وزيرا للعدل في أول وزارة يرأسها قبلت فجاءني عمّي منصف المستيري ولامني على قبول هذه الوزارة فقلت له: لقد قبلتها لأتمم مشروع مجلة الشيخ جعيط، فوافق عمّي وبارك مسعاي" (جريدة الصريح 9 جوان 2011 ).

صدرت مجلة الأحوال الشخصية بمقتضى أمر 13 أوت 1956، وكانت في صياغتها الأصلية تشتمل على 170 فصلا موزّعة على عشرة كتب:
*الكتاب الأول: الفصول من 1 إلى 28 - في المراكنة
*الكتاب الثاني: الفصول من 29 إلى 33 - في الطلاق
*الكتاب الثالث: الفصول من 34 إلى 36 - في العدّة
*الكتاب الرابع: الفصول من 37 إلى 53 - في النفقة
*الكتاب الخامس: الفصول من 54 إلى 67 - في الحضانة
*الكتاب السادس: الفصول من 68 إلى 76 - في النّسب
*الكتاب السابع: الفصول من 77 إلى 80 - في أحكام اللقيط
*الكتاب الثامن: الفصول من 81 إلى 84 - في أحكام المفقود
*الكتاب التاسع: الفصول من 85 إلى 152 - في الميراث
*الكتاب العاشر: الفصول من 153 إلى 170 - في الحجر والرشد


وأفضل من قدّم هذه المجلة وزير العدل الأسبق "السيد أحمد المستيري" بالبلاغ الصادر يوم 3 أوت 1956 (وهو بلاغ منشور كاملا بكتاب "قوانين الأحوال الشخصية والمدنية في تونس" لمحمد الحبيب الشريف). في ذلك البلاغ تم تقديم المنهجية التشريعية المتبعة خلال صياغة نصوص المجلة.
قال السيد أحمد المستيري وزير العدل آنذاك "هي لائحة جديدة في قالب قانون عصري يتماشى مع الزمان ولا يتصادم مع مبادئ الدين الإسلامي الحنيف وقد اطلع عليه قبل بروزه بعض كبراء العلماء واستحسنوه. ولا عجب أن وصلنا إلى تدوين مجلة من هذا النوع تُرضي الجميع وتنال استحسان العلماء وتلائم في آن واحد روح العصر والتفكير العام.
لا عجب ولا غرابة في ذلك، لأننا أخذنا نصوصها من مناهل الشريعة الفيّاضة ومختلف مصادرها بدون تقيّد بمذهب دون مذهب وبرأي طائفة من الفقهاء دون أخرى."
ثمّ يضيف الوزير قائلا "...أهمّ ما يلفت النظر في هذه المجلة الأمور التالية:
1- سهولة عباراتها.
2- فضلنا فيها الإختصار على التطويل والإيجاز على الإطناب...
3- اقتبسنا فيها بعض أمور من القوانين العامّة التي لا تنافي الدين وتقتضيها الظروف الحاضرة والحياة العصرية.
4- ضيقنا فيها الأحكام المتعلقة بالطلاق بكيفية تضمن للزوجة حقوقها الزوجية....
5- ذهبنا على رأي بعض علماء الإسلام في مسألة تعدّد الزوجات وعدم إباحته، وهو ما ذهب إليه فريق من العلماء في تفسير الآيات القرآنية الكريمة الواردة في هذا الموضوع وتخريجها وتأويلها على المنع، لعدم إمكان العدل وتعذّر حصوله بالمعنى الكامل، حسبما يستفاد ذلك من قوله تعالى "ولن تستطيعوا أن تعدلوا بينّ النساء ولو حَرصتم" (النساء 129).
6- قد فصّلت المجلة الجديدة مشكلة أقصى أمد الحمل وحلّتها حلاّ طيبا مرضيا.
7- حدّد سن حضانة المحضون بسبع سنوات للذكور وتسع للإناث وبعد ذلك يكون الحق لوالده....
8- كما تم التوسع في تمكين المرأة من تزويج نفسها بنفسها إذا بلغت سن الرشد ولا تتوقّف على وليها وإذن الحاكم ..
9- أعطيت المرأة حرّيتها في التصرّف في مالها ومكاسبها بدون توقّف على زوجها...
10- حدّد سن الزواج الأدنى بالنسبة إلى المرأة والرجل مع مصلحتها الصحية والجماعية...
11- حدّد سن الرشد بعشرين عاما...
12- وقع تقرير مساهمة المرأة في الإنفاق على العائلة إن كان لها مال..."

وما نستنتجه من هذا البلاغ الصادر عن وزير العدل التونسي أنّ المؤسسة التشريعية لدولة "الاستقلال" قد اعتمدت على المبادئ التالية في أوّل تشريع تصدره:
المبدأ الأوّل: عدم التقيد المذهبي، الإسلام واحد وكلّ الاجتهادات جائزة؛
المبدأ الثاني: اعتماد نظرية سد الذرائع، كل ما من شانه أن يؤدّي إلى مفسدة أو مضرة وإن كان شرعيا لا بد من منعه حتى لا يكون السبيل مفتوح للتحايل والفساد؛
المبدأ الثالث: اعتماد علم المقاصد: وهو عدم الوقوف عند ظاهر النص الديني ولكن اعتماد مقاصد الشريعة للتفسير والتأويل.
وهذه المبادئ تجعل من مجلة الأحوال الشخصية عند صدورها سنة 1956 إجتهادا فقهيا يعتمد على الأصول والمقاصد إضافة إلى بعض الإصلاحات الجوهرية التي جعلت من الزواج والطلاق ممارسة مدنية ذات صبغة رسمية تمرّ الأولى بقصر البلدية والثانية بقصر العدالة لحماية حقوق الزوجين والأولاد .
"وهنا راجعت الوزير الأسبق أحمد المستيري وقلت له: لقد أبحتم الحرام في المجلّة.. قال: كيف وأين؟ قلت: لقد أباحت المجلة التبني وهو حرام وممنوع بالقرآن والسنة، فقال لي: ارجع الى مجلة الأحوال الشخصية في نسختها الأولى فسوف لا تجدها قد تعرضت للتبني ولا أباحته ولكن المجلة تعرضت للزيادة والتنقيح بعد أن غادرت الوزارة فكان مما أضيف اليها: التبني" (الصريح 9 جوان 2011).

أثارت مجلة الأحوال الشخصية جدلا حولها كأي مستحدث يحتاج إلى وقت حتى يقع قبوله والإطمئنان إليه خاصة وأن صدور المجلة ترافق مع إلغاء المحاكم الشرعية وتوحيد القضاء تحت المحاكم العدلية مما أغضب أعضاء المجلس الشرعي من شيوخ الزيتونة الذين انتقدوا ثلاثة فصول من المجلّة وسكتوا عن البقية خاصة وأنّ الشيخ محمد العزيز جعيّط الذي بيّن أنه يرفض بشدّة إحداث الشغب وتقويض الوحدة الوطنية ورفض نشر وثيقة إستفتاء قدّمتها جريدة الإستقلال آنذاك واعتبر أن "إحداث التشغيب، بما يفضي إلى بذر الشقاق وبعث البغض والأحقاد، وتقويض هيكل الوحدة الوطنية لا يحلّ للمؤمن الصادق ارتكابه..." (جريدة الاستقلال 14 سبتمبر 1956).



الحبيب بورقيبة ومجلة الأحوال الشخصية
إن "مجلة الأحوال الشخصية" الصادرة في 13 أوت 1956 كانت تتويجا لمسيرة تحرير المرأة. وقد بدأت منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر مرورا بمختلف مواقف المصلحين مثل عبد العزيز الثعالبي والطاهر الحداد ولم يكن صدور هذه المجلة بمنأى عن تصور شامل لقيادة دولة الاستقلال للتقدم والنهوض حيث يعتبر التعليم ركنا أساسيا، فالأمر لم يقتصر على إصدار القوانين بقدر الاهتمام "بمعالجة الأسباب بتهيئة الأذهان وتغيير المفاهيم" (بورقيبة، خطب 1965 ج 20 ص20).
لعلّ ما تقدّم من إشارات تاريخية في الجزء الأول من البحث، كان ممهّدا منطقيا لإصدار مجلة الأحوال الشخصية في ذلك التاريخ ولعلّ صاحب القرار السياسي "بورقيبة" وجد نفسه أمام مخاض فكري وإجتماعي كانت وليدته هذه المجلّة.

* فحركة الإصلاح التي انطلقت مع خير الدين وابن أبي الضياف في المجال السياسي والإقتصادي، ومع شيوخ وعلماء الزيتونة من محمد النخلي وسالم بوحاجب ومحمد السنوسي في رسالته "تفتق الأكمام". ثم الأفكار التقدمية للطاهر الحداد الذي جعل من قضية المرأة مشروعا نهضويا شاملا يتناول قضايا جوهرية تطالب بالمساواة بين المرأة والرجل في المسؤولية والتكليف وتضع الموروث الفقهي موضع تساؤل ونقد، والشيخ عبد العزيز الثعالبي وكتابه "روح التحرر في الإسلام" الذي تناول في فصله الثاني قضايا الحجاب، وتعليم المرأة، وحق المرأة في التمتّع بالحياة ودورها الإيجابي في التغيير كما شدّد بيرم الخامس على قيمة التعلّم في الأمة وربطه بنمو الثروة وارتقائها...
* كما سبق ذلك ظهور بدايات انخراط المرأة التونسية في حركة تحررها وانعتاقها ببعث مجموعة من الجمعيات النسائية. فكانت أوّل جمعية نسائية تونسية "جمعية النساء المسلمات" تكونت سنة 1932 وهي جمعية خيرية أسستها مجموعة من النسوة من أوساط أرستقراطية برئاسة فاطمة القلاتي زوجة حسن القلاتي زعيم حزب الإصلاح. ثم تأسس سنة 1936 "الإتحاد النسائي الإسلامي التونسي" وكانت رئيسته إلى حدود سنة 1956 السيدة بشيرة بن مراد ابنة شيخ الإسلام محمد الصالح بن مراد وقد دعى الإتحاد إلى المبادئ التالية:
1- تكوين رابطة المودة والتعارف بين أفراده،
2- تربية البنت في دائرة الأخلاق الإسلامية وتوجيهها نحو التعليم العالي،
3- بعث الثقافة الإسلامية العربية في الوسط النسائي.
حظيت هذه الجمعية بمباركة ومساندة الدستوريين حتى أن أوّل قانون أساسي قام بكتابته السيد رشيد إدريس. ولقي دعم الإتحاد العام التونسي للشغل في شخص فرحات حشاد وكانت منشورات الجمعية تطبع في مطبعة الإتحاد كما يذكر بعض المؤرخين أن هذا الإتحاد كان يدعم الحزب الحر الدستوري (الجديد) حتى أن نشاط هذه الجمعية بشهادة رئيسته كان يتم في مقر الكشافة التونسية بسوق البلاط في جناح وضعه على ذمته السيد المنجي بالي .

وفي سنة 1938 وتحت تأثير "جمعية الشبان المسلمين" والحزب الدستوري القديم تكوّن "الإتحاد النسائي" تحت إشراف السيدات بن ميلاد والزهار والقروي وكانت أهداف هذه الجمعية مشابهة لأهداف الجمعيات التي سبقتها ألا وهي نشر الثقافة الإسلامية والعربية في أوساط النساء التونسيات أسوة بالإتحاد النسائي المصري الذي كانت تتزعمه هدى الشعراوي.
وقد رفضت السّلط الإستعمارية منح هذه الجمعية تأشيرة نشاط وساند هذا الموقف الباي الذي رأى أنه من السابق لأوانه السماح بتكوين جمعيات نسائية ومن الأفضل الإقتناع بتعليم الذكور فحسب.
وقد عاودت هذه المجموعة نشاطها بعد الحرب فتم سنة 1945 بعث "الفرع النسائي لجمعية الشبان المسلمين" بمبادرة من الشيخ محمد صالح النيفر رئيس "جمعية الشبان المسلمين" وعضو اللجنة التنفيذية للحزب الدستوري القديم. وتشكلت أوّل هيئة تأسيسية برئاسة السيدة سعاد الختاش عقيلة الشيخ محمد صالح النيفر. ومن أهم نشاطات هذه الجمعية النسائية التي كان هدفها الرئيسي "مقاومة الأخلاق الفاسدة" تعليم الفتيات وتربيتهن تربية إسلامية وقد تم إنشاء مدرسة لتعليم البنت المسلمة في أكتوبر 1947 بنهج السراجين بتونس العاصمة.
في نفس تلك الفترة وبمبادرة من الحزب الشيوعي تم في مارس 1944 بعث "الإتحاد النسائي التونسي" تحت رئاسة السيدة شارلوت جولان وهي أم مناضل شيوعي قتل في معركة تحرير فرنسا. وكانت الهيئة المديرة تتكون عند التأسيس وبشكل كامل من الفرنسيات باستثناء المسلمة فاطمة مازيغ ثم انفتحت مؤسساته على نساء مسلمات ويهوديات تونسيات كان أغلبهن زوجات لمناضلين في الحزب الشيوعي التونسي أو في الإتحاد النقابي للقطر التونسي. ثم قام الحزب الشيوعي ببعث تنظيم نسائي يهتم بالفتيات وهو "إتحاد فتيات القطر التونسي".
وقد تنوعت أنشطة "الإتحاد النسائي التونسي" و"إتحاد فتيات القطر التونسي" وخضعت لتوجيهات الحزب الشيوعي وشعاراته المنادية في تلك المرحلة بمقاومة النازية ودعم فرنسا لاستكمال تحررها ومساعدة ضحايا الحرب ومقاومة الإمبريالية.كما تبنت مناضلات الإتحاد مطالب حزبهن والمتمثلة في: الدفاع عن حقوق العمال...المطالبة بالمساواة بين الفرنسيين والتونسيين...المطالبة بالحقوق السياسية والحرية للمرأة والإهتمام بوضعية المرأة الحرفية والفلاّحة وإدراجها ضمن اهتمام الحزب الشيوعي....
كما تميزت فترة ما بين 1924-1930 بجدل حاد حول قضية السفور بين معارضين ومؤيدين (خاصة من الإشتراكيين والإصلاحيين) واللافت هنا أن النخبة الوطنية وحتى العصرية منها وقفت موقفا سياسيا ضد السفور بحجة الحفاظ على الهوية وإفشال مشروع الإندماج وقد كان بورقيبة من أهم المناهضين لرفع الحجاب فقد نشرت جريدة "اللواء" مقالا يقول فيه بورقيبة : "دون أن أتوقف عند أصل الحجاب بيّنت أننا في حمله نحن أمام تقليد دخل منذ قرون في عاداتنا يتطوّر بنسق تطورها وببطء شديد. وأن تقاليد وآداب مجموعة ما إن كانت أسرة أو قبيلة أو أمة هي الأكثر ملازمة لها وهي التي تعرّف تلك المجموعة وهي عنوان تفرّدها وشخصيّتها....".

هكذا كان الوضع الفكري والإجتماعي في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. وهكذا كانت وضعية المرأة التونسية قبل 1956 فقد بدت مظاهر التمدّن تغزو المجتمع حيث خرجت المرأة لتحصيل العلم وللشغل وأصبحت تخرج سافرة الرأس وتراجعت ظاهرة تعدد الزوجات. فقد بانت معالم ولادة مجتمع جديد بعد مخاض طويل تميز:
1- من ناحية أولى بتصادم بين حضارة المستعمر ومكونات المجتمع الأهلي، فقد كان هناك إدراكا ووعيا لدى النخب الوطنية والمحافظة تجاه ما يعمل عليه الإستعمار للقضاء على مكوّنات "الذاتية" التونسية بتفتيت المجتمع وتحقير قيمه، فلا شيء عند التونسيين يستحق الإحترام والتقدير، لا لغتهم ولا عاداتهم ولا دينهم ولا نمط عيشهم ولا خلاص لهذا الشعب إلا بالإنخراط في حضارة وقيم راقية تمثلها القوى الإستعمارية مما ولّد شعورا متزايدا لدى التونسيين بضرورة الدفاع على مقوماتهم الثقافية وشخصية مجتمعاتهم الإسلامية ويبرز هذا التصادم خاصة في سياسة الجمهورية الثالثة المتشددة "اللائكية" في فرنسا التي رغم معاداتها للكنيسة الكاتوليكية عملت على تأسيس الكنائس وتركيز ودعم التعليم المسيحي في المستعمرات الفرنسية فتتالت الإستفزازات لشعور المسلمين إذ تم نصب تمثال الكردينال لافيجري بمدخل المدينة العربي بتونس العاصمة. ثم تم تنظيم المؤتمر الأفخارستي من الكنيسة المسيحية سنة 1930.
2- ومن ناحية أخرى كان هناك تسرّب ملحوظ لسلوكيات المستعمر وقيمه داخل المجتمع من خلال احتكاك طويل للنخب بالجاليات الفرنسية سواء عن طريق الزواج المختلط وتزايد الجاليات الأوربية الوافدة على تونس أو بارتفاع عدد الطلبة التونسيين بالخارج وانتشار التعليم العصري التي عملت سلطة المستعمر على نشره لتكوين نخب تونسية متشبعة بثقافة المستعمر فتكون أداة تلعب دور الوسيط في السيطرة على المجتمع وإدارته.
وينطبق هذا المشهد على وضع المرأة داخل المجتمع فالجمعيات النسائية التي تكونت خلال هذه المرحلة لم تنخرط في النضال "النسوي" ولم تطرح قضية المرأة كجنس مضطهد في المجتمع ولم تطالب بالمساواة مع الرجل في الحقوق والواجبات إنطلاقا من منظور شامل ووعي "نسوي" يرتقي إلى ما طرحه الطاهر الحداد، وإنما في أغلبها كانت تنادي بتأصيل الذات والمحافظة على هوية المجتمع وقيمه تماشيا مع ما تنادي به النخب الوطنية المحافظة في إطار التصدّي لثقافة المستعمر، ويصدق القول في هذا الإطار خاصة على "الإتحاد النسائي الإسلامي التونسي" و"الفرع النسائي لجمعية الشبان المسلمين" حيث أن بعث الجمعيتين كان بمبادرة من الرجال (الشيخ بن مراد والشيخ محمد الصالح النيفر) كما أن العضوات والناشطات كن ينتمين إلى مجتمعات أرستقراطية بورجوازية تتميز بفكر زيتوني محافظ فلم يكنّ يحملن مشروعا تحرريا يطالب بالمساوة وإنما اكتفين بالعمل الخيري وخدمة الناس بالتبرعات والتصدّق بأموالهن للفقراء ومساعدة الرجال في النضال الوطني،(مظاهرة المكنين 5 سبتمبر 1934 ومظاهرة 8 أفريل 1938 ) والمطالبة بإطلاق سراح المساجين (3 جانفي 1939 أمام رئيس الوزراء الفرنسي) ومشاركة مجموعة من النساء التونسيات في زرمدين "الفلاقة" في الهجوم على مركز الجندرمة...الخ.


الخاتمة
كانت هذه هي الظروف الموضوعية التي سبقت إصدار مجلة الأحوال الشخصية، فقد شهد الواقع التونسي قبل فجر الإستقلال تحوّلات هيكلية في البنى الإجتماعية فرضتها مصلحة الحماية وإصلاحات جوهرية في فكر النخبة التونسية من زيتونيين وصادقيين، وتغيير في الأساليب النضالية لدى النخبة السياسية (حزب الدستور الجديد بقيادة الحبيب بورقيبة) وتبنيها لمضامين بورجوازية ليبرالية حديثة. فكان هذا عاملا أساسيا لفرض منهج جديد ومرجعية محددة في التعامل النظري والتشريعي مع مسألة الحريات وقضايا التحرر في مختلف المجالات الفكرية والسياسية والإجتماعية، ومن بينها قضية المرأة. كان مشروع "الحداثة" وما يتضمنه من قيم الحرية والتقدّم والمساواة -وكما فرضته مرحلة الإستعمار بما اختزنته حضارة المستعمر الوافدة من هيمنة واستعلاء وعنصرية على حضارة كانت توصف بأنها راكدة ومتخلفة ومهزومة - بدأت تتشكّل معالمه داخل أبرز النخب التونسية وعلى رأسها الحبيب بورقيبة وقيادات الحزب الدستوري الجديد. كان من الضروري التعامل النظري مع قضايا الحرية وحقوق الإنسان بشكل متناسق مع هذه المضامين الليبرالية، ويجب أن ينعكس هذا التبني من خلال التشريعات والقوانين الصادرة في بداية عهد ما يسمى بالإستقلال. فكانت مجلة الأحوال الشخصية وما تضمنته من تشريعات وقوانين مجالا من مجالات الحرية التي طالبت بها النخب الفكرية منذ خير الدين التونسي ومحمد السنوسي والطاهر الحداد وعبد العزيز الثعالبي ولم يكن أمام صاحب القرار السياسي إلا الإستجابة لها وتبني مضامينها لضرورة المرحلة من ناحية ولطمأنة أصحاب "مشروع الحداثة" والبرهنة على إلتزامه بالمرجعية البورجوازية الليبرالية في إدارته "للجمهورية التونسية" من ناحية أخرى.
يتبع)....
مصدر الخبر : بريد الحوار نت
a href="http://www.facebook.com/sharer.php?u=http://alhiwar.net/ShowNews.php?Tnd=23696&t=الهمّ "النسوي" في الفكر الإصلاحي التونسي (الجزء الثاني)&src=sp" onclick="NewWindow(this.href,'name','600','400','no');return false"


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.