تونس تحتفل بعيد الشغل العالمي وسط آمال عمالية بإصلاحات تشريعية جذرية    دوري ابطال اوروبا.. التعادل يحسم مباراة مجنونة بين البرسا وانتر    شهر مارس 2025 يُصنف ثاني الأشد حرارة منذ سنة 1950    يظلُّ «عليًّا» وإن لم ينجُ، فقد كان «حنظلة»...    الاتحاد يتلقى دعوة للمفاوضات    تُوّج بالبطولة عدد 37 في تاريخه: الترجي بطل تونس في كرة اليد    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    قضية مقتل منجية المناعي: إيداع ابن المحامية وطليقها والطرف الثالث السجن    رحل رائد المسرح التجريبي: وداعا أنور الشعافي    القيروان: مهرجان ربيع الفنون الدولي.. ندوة صحفية لتسليط الضوء على برنامج الدورة 27    الحرائق تزحف بسرعة على الكيان المحتل و تقترب من تل أبيب    منير بن صالحة حول جريمة قتل المحامية بمنوبة: الملف كبير ومعقد والمطلوب من عائلة الضحية يرزنو ويتجنبو التصريحات الجزافية    الليلة: سحب مع أمطار متفرقة والحرارة تتراوح بين 15 و28 درجة    عاجل/ الإفراج عن 714 سجينا    عاجل/ جريمة قتل المحامية منجية المناعي: تفاصيل جديدة وصادمة تُكشف لأول مرة    ترامب: نأمل أن نتوصل إلى اتفاق مع الصين    عاجل/ حرائق القدس: الاحتلال يعلن حالة الطوارئ    الدورة 39 من معرض الكتاب: تدعيم النقل في اتجاه قصر المعارض بالكرم    قريبا.. إطلاق البوابة الموحدة للخدمات الإدارية    وزير الإقتصاد يكشف عن عراقيل تُعيق الإستثمار في تونس.. #خبر_عاجل    المنستير: إجماع خلال ورشة تكوينية على أهمية دور الذكاء الاصطناعي في تطوير قطاع الصناعات التقليدية وديمومته    عاجل-الهند : حريق هائل في فندق يودي بحياة 14 شخصا    الكاف... اليوم افتتاح فعاليات الدورة العاشرة لمهرجان سيكا جاز    السبت القادم بقصر المعارض بالكرم: ندوة حوارية حول دور وكالة تونس إفريقيا للأنباء في نشر ثقافة الكتاب    عاجل/ سوريا: اشتباكات داخلية وغارات اسرائيلية وموجة نزوح..    وفاة فنانة سورية رغم انتصارها على مرض السرطان    بمناسبة عيد الإضحى: وصول شحنة أغنام من رومانيا إلى الجزائر    أبرز مباريات اليوم الإربعاء.    عملية تحيّل كبيرة في منوبة: سلب 500 ألف دينار عبر السحر والشعوذة    تفاديا لتسجيل حالات ضياع: وزير الشؤون الدينية يُطمئن الحجيج.. #خبر_عاجل    الجلسة العامة للشركة التونسية للبنك: المسيّرون يقترحون عدم توزيع حقوق المساهمين    قابس: انتعاشة ملحوظة للقطاع السياحي واستثمارات جديدة في القطاع    نقابة الفنانين تكرّم لطيفة العرفاوي تقديرًا لمسيرتها الفنية    زيارات وهمية وتعليمات زائفة: إيقاف شخص انتحل صفة مدير ديوان رئاسة الحكومة    إيكونوميست": زيلينسكي توسل إلى ترامب أن لا ينسحب من عملية التسوية الأوكرانية    رئيس الوزراء الباكستاني يحذر الهند ويحث الأمم المتحدة على التدخل    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    ابراهيم النّفزاوي: 'الإستقرار الحالي في قطاع الدواجن تام لكنّه مبطّن'    القيّمون والقيّمون العامّون يحتجون لهذه الأسباب    بطولة إفريقيا للمصارعة – تونس تحصد 9 ميداليات في اليوم الأول منها ذهبيتان    تامر حسني يكشف الوجه الآخر ل ''التيك توك''    معرض تكريمي للرسام والنحات، جابر المحجوب، بدار الفنون بالبلفيدير    أمطار بكميات ضعيفة اليوم بهذه المناطق..    علم النفس: خلال المآزق.. 5 ردود فعل أساسية للسيطرة على زمام الأمور    بشراكة بين تونس و جمهورية كوريا: تدشين وحدة متخصصة للأطفال المصابين بالثلاسيميا في صفاقس    اغتال ضابطا بالحرس الثوري.. إيران تعدم جاسوسا كبيرا للموساد الإسرائيلي    نهائي البطولة الوطنية بين النجم و الترجي : التوقيت    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    في جلسة ماراتونية دامت أكثر من 15 ساعة... هذا ما تقرر في ملف التسفير    ديوكوفيتش ينسحب من بطولة إيطاليا المفتوحة للتنس    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    شحنة الدواء العراقي لعلاج السرطان تواصل إثارة الجدل في ليبيا    الميكروبات في ''ديارنا''... أماكن غير متوقعة وخطر غير مرئي    غرة ذي القعدة تُطلق العد التنازلي لعيد الأضحى: 39 يومًا فقط    تونس والدنمارك تبحثان سبل تعزيز التعاون في الصحة والصناعات الدوائية    اليوم يبدأ: تعرف على فضائل شهر ذي القعدة لعام 1446ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمود المستيري قبل وفاته :موضوع الهاجس الاسلامي كان أولوية حديث بن علي مع بورقيبة

يعكف محمود المستيري وزير الخارجية التونسي الأسبق ومبعوث الأمم المتحدة سابقا إلى أفغانستان على وضع اللمسات النهائية لمذكراته التي تمسح حياته الشخصية والديبلوماسية بما اكتنفها من أحداث وشخصيات هامة تضيء عددا من الأسرار والخفايا التي تنشر لأول مرة وتبسط أراء في قضايا سياسية ودبلوماسية هي زبدة تجربة الرجل التي يريد تقديمها للأجيال التالية.
ومن على شرفة منزله البلورية في أعالي مدينة أريانة، مدينة الورد المتاخمة للعاصمة التونسية، يطل المستيري على مشاهد واسعة من تونس اليوم، فيرى أشياء تغيرت وأخرى بقيت على حالها تذكره بأيام خلت عرفت أحداث متقلبة مرت به شخصيا. ولعل هذا ما يقدح ذاكرته ويحفزها على إنضاج تجربة الكتابة حين تكون بحد ذاتها "شاهدا على حقب مهمة".
وهناك في تلك البقعة التونسية الساحرة المسماة مدينة الورد، سعت "العربية.نت" للالتقاء بالمستيري لاستنطاقه عن التجارب التي كان هو شاهدا معاصرا لها، كوزير للخارجية، وكدبلوماسي تونسي عتيق علاوة على المهمة التي أداها كمبعوث للأمم المتحدة.
كما أطلعت "العربية.نت" على صفحات من المذكرات التي لم يكمل المستيري كتابتها بعد. وكل واحدة من هذه المحطات التي يسردها أو يكتبها المستيري تشكل علامة تاريخية بحد ذاتها كونها تستكنه عددا من المسائل المهمة و"الخفايا" التي طبعت مراحل مختلفة في تاريخ وحاضر المنطقة.
ولد محمود المستيري في 25 ديسمبر 1929 لأب كان يعمل مدرسا في جامع الزيتونة الذي يعد أعرق وأقدس معلم ديني وصرح علمي في تونس وأم سليلة عائلة تونسية عريقة هي عائلة "الأصرم". وكان النشاط الفلاحي هوالنشاط الرئيس التي تزاوله العائلة، مما وفر لهم وضعا ماديا مريحا في وقت كان فيه المجتمع التونسي يرزح تحت الاستعمار وتحت الأوضاع الاقتصادية الصعبة.
وتقلب والد محمود المستيري في مناصب دينية وعلمية حتى نال وظيفة الإفتاء، وكان كما يصفه ابنه رجلا منفتحا يهتم بالعلم والسياسة على حد سواء. يقول المستيري عن هذه الفترة "يعود الفضل في مسيرتي كدبلوماسي تقلد مناصب مهمة مثل وزارة الخارجية وتمثيل تونس في المنتظم الأممي لمرات وتمثيل الأمين العام للأمم المتحدة ، إلى زمن البدايات لمّا كنت طفلا يكبر يوما بعد يوم في عائلة تونسية صاحبة فلاحة وعلم أيضا".
وعن تكوينه المبكر يوضح المستيري أنه تلقى علومه بشكل مزدوج، فمن ناحية كان يقصد مدرسة فرنسية في مناهجها هي "الصادقية" ومن ناحية ثانية كان والده زيتونيا يدرس في رحاب الجامع الأعظم. ووصل إلى منصب مفتي الديار التونسية وترك منصبه عندما أصدر بورقيبة مجلة الأحوال الشخصية التي غيرت كثيرا من أوضاع المرأة التونسية.
ويشير إلى أن والده كان شديد الاهتمام بالسياسة، ويتابع بشكل جيد الأحداث العالمية شرقا وغربا، واسطته في ذلك الصحافة المصرية مثل الأهرام والمصور، كما كان مستمعا مثابرا للإذاعة وميالا لمناصرة الإنكليز على الألمان عندما اندلعت الحرب العالمية الثانية".
هذا التنوع لم يكن فقط داخل بيت المستيري وإنما حوله أيضا. ففي أريانة –يضيف المستيري- كانت تعيش جالية مهمة من اليهود وبعض المعمرين الفرنسيين وجنسيات أخرى. يقول المستيري "كان نصف سكان أريانة يهودا وكنا نلعب مع أبنائهم دون أي تمييز حتى أنني أذكر كيف اختبأت في بيتنا عائلة من المعمرين الفرنسيين هربا من الجيش النازي الألماني، وكيف هرّب طبيب يهودي أثاثه عندنا حتى لا يستولى عليها الألمان".
بقي المستيري يتردد على العاصمة كي يواصل تعليمه الثانوي ليبرع في اللغة الفرنسية وآدابها. وكذلك لتتطور تجربته السياسية مع الحزب الدستوري الجديد. يقول "كان والدي هو من نقل لي عدوى السياسة، فلقد كنت أستمع لآرائه التي كان يتبادلها مع أصدقائه وزملائه وإخوته. وكان متعاطفا مع الحزب الدستوري القديم الذي كان يتزعمه الشيخ عبد العزيز الثعالبي، لكنني لم أتبع خطاه فقد اخترت الحزب الدستوري الجديد الذي أسسه الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة، وكثيرا ما كان يدعوني بالمنشق نافيا أن أكون دستوريا بالفعل".
تدرج المستيري في تجربته السياسية مع الحزب الدستوري الجديد الذي قاد فيما بعد الحركة الوطنية في معركة الاستقلال الوطني، وتعرّف إلى زعامات تاريخية عن قرب ومن هؤلاء يستذكر قادة من أمثال عزوز الرباعي الذي كان بارعا في العمل التنظيمي وصاحب اللسان العذب المقنع، وكذلك الزعيم صالح بن يوسف الذي كان ذا شعبية كبيرة داخل الحزب وخارجه، وطبعا الزعيم الحبيب بورقيبة.
هذا التعدد في الزعامات كان قد خلق توازنات داخل الحزب الدستوري تراجعت فيما بعد ليتفرد الحبيب بورقيبة بزعامة الحزب وتونس إثر مواجهة قضى فيها على التيار اليوسفي ونفى فيها صالح بن يوسف على حد قول المستيري. لكن ما يذكره المستيري عن تلك الزعامات هو حرص الحزب على أن لا يخوض الدستوريون في تفاصيل حياتهم وخلافاتهم حتى أن أخبار تلك الخلافات والأسرار كانت تأتيهم من خارج الحزب.
من أطرف تلك الأسرار ما شاع بين الدستوريين أن للزعيم صالح بن يوسف خليلة ولذلك ذهب إليه علي الزليطني وعزوز الرباعي ليسألوه عن حقيقة هذا الأمر ويراجعوه إن تطلّب الأمر ذلك. وعندما قالوا له إن اتخاذ خليلة أمر غير معقول أجابهم "هذا الموضوع لا يهمكم ولا يهمّ غيركم، فاخرجوا ولا أريد سماع هذه القصة ثانية".
ويجعل المستيري للمنجي سليم أول سفير لتونس في الأمم المتحدة مكانة خاصة في مسيرته فهو أستاذه الأول في الدبلوماسية والذي فتح له طريقها في بواكير دولة الاستقلال التونسية. قبل امتهان الدبلوماسية كان محمود المستيري قد سافر إلى فرنسا ليواصل تعليمه في العلوم السياسية وهناك عرفت مسيرته السياسية منعرجا جديدا تاركا وراءه غليانا شعبيا في تونس دفع بعض مناضلي الحزب الدستوري المتحمسين للعمل المسلح وهي الفكرة التي استحسنتها قيادة الحزب دون أن تتخذه سياسة علنية. هذه الازدواجية اقتضتها السياسات الاستعمارية التي قامت على قمع الحركة الوطنية.
في فرنسا كان محمود المصمودي (وزير خارجية تونس فيما بعد) هو زعيم الطلبة الدستوريين الذين كان محمود المستيري أحدهم. هناك كان المستيري قد إلتقى الحبيب بورقيبة لأول مرة في مدينة ليون Lyon.كان المصمودي يقرأ عن هؤلاء الطلبة رسائل بورقيبة ويحلل مضامينها وينقل لهم ما كان يدور بينه وبين بورقيبة من حوارات.
التقى المستيري الحبيب بورقيبة لما كان هذا الأخير شبه منفي في جبل مون جينيف Monjeneve في منطقة ليون. فقد كان الفرنسيون يسمحون له بملاقاة أنصاره ويراقبون حواراته معهم عن كثب. في هذا اللقاء بدا لي بورقيبة –يقول المستيري- ناشطا متفائلا لما حدثنا على ضرورة الاعتدال في الخطاب السياسي، فالاستقلال لم يعد بعيدا.
ويضيف المسؤول التونسي السابق "هذا معلم من معالم نهجه السياسي إذ كان ذا نظرة ثاقبة في الأحداث، حتى أنه لما احتدم الصراع في الحرب العالمية الثانية رفض مساندة ألمانيا ضد فرنسا التي كانت تحتل تونس وتقمع الحركة الوطنية".
لكن -يقول المستيري- "يذكر التاريخ أن بعض قيادات الحزب الدستوري حوكمت بالإعدام لتعاملها مع الألمان حسب ما كان تدعيه فرنسا، من هؤلاء الرئيس إدريس ومحمود الماطري والحبيب ناصر الذين هربوا من تونس بعد هزيمة الألمان فأصدرت فرنسا حكما بالإعدام فيهم ".
بورقيبة انتهج نهجا آخر، بحسب المستيري "لمست لدى بورقيبة خطابين أحدهما متشدد ضد فرنسا يوجهه لعامة الشعب وآخر معتدل ليسمعه للفرنسيين ومنه تلك المحاضرة التي دعيناه ليلقيها في ليون في أول أبريل 1955 باللغة الفرنسية حازت إعجاب الفرنسيين طلبة وأساتذة جامعيين وساسة ، مما رسّخ صورته في أذهان الجميع كزعيم معتدل يمكن التحاور معه".
حسب المستيري كان بورقيبة مسكونا بالتاريخ وعظمته وكذلك بالأفكار الكبيرة التي تصنع القيادات وكان بارعا في تقديم أفكاره بشكل مقبول فقد أكد في محاضرته على الصداقة بين تونس وفرنسا، لكنه دعا لتوضيحها بنحو عادل بين الطرفين. ويقول إن هذا الخطاب كان أقرب لطبيعة التونسيين كشعب مسالم.
نقطة ضعف بورقيبة كما بدا للمستيري كانت حبه للزعامة مما جعل الصراع ينشب بينه وبين بن يوسف وهو صراع كان ذا طابع شخصي بحت بين الرجلين لا صلة له بالأفكار والمرجعيات. ويقول إن الديمقراطية في تونس خسرت الكثير لصالح الحكم الفردي من جراء هذا الصراع.
بدأت مسيرة محمود المستيري مع الدبلوماسية بعد أن أكمل دراسته في العلوم السياسية وإثر استقلال تونس في 1956 وهي السنة التي عاد فيها إلى تونس وهناك إلتقى المنجي سليم في أثناء إلقاءه لمحاضرة وكان الهادي البكوش (تقلد منصب رئيس وزراء في عهد الرئيس زين العابدين بن علي) قد طلب منه انتداب دستوريين للعمل في السلك الدبلوماسي فاقترح اسم المستيري كي أرافقه إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
هناك بدأت الخطوات الأولى التي تطورت على درب الدبلوماسية وأذكر –يقول- المستيري "كيف قابلنا بورقيبة قبل السفر إلى نيويورك فقال له كاتب الدولة لوزارة الخارجية لقد أوصيتهم بلزوم الصمت عند الضرورة، فانتفض بورقيبة صائحا" كلا لا أريدكم أن تصمتوا بل تكلموا بالصوت العالي". تعجبنا لهذا الطلب فقد كنا دولة صغيرة حديثة الاستقلال ليست في حجم يسمح لها باتخاذ المواقف".
تقلب المستيري في عدد من المناصب بين موظف في سفارة تونس في الأمم المتحدة وسفير، كما تولى رئاسة لجان هامة مثل لجنة تصفية الاستعمار ولجنة نزع التسلح ولجنة ال 77 التي كان تعنى بالتعاون الاقتصادي شمال جنوب.
من خلال مختلف هذه المواقع لعبت تونس دورا مركزيا في استقلال الجزائر الذي كان في البداية على رأس أولويات الدبلوماسية التونسية.
لكن المستيري يستذكر مستدركا كيف كانت العلاقات بين دولة الاستقلال في تونس وبين الثورة الجزائرية تمر بهزات طفيفة من بينها توتر العلاقة مع هواري بومدين الذي كان يقيم في تونس أيام الكفاح التحريري الجزائري، وصرح بكلام لم يستسغه بورقيبة فأمر بسجنه وهوما لم ينسه بومدين فيما بعد عندما أصبح رئيسا للجزائر.كما لعبت تونس كذلك دورا بارزا في استقلال عديد الدول وذلك بخطاب دبلوماسي معتدل بعيد عن لغة السباب والشتيمة.
بين عواصم عدة من بلدان العالم تجول محمود المستيري سفيرا لبلاده، لكن ما ارتسم في ذاكرته محطتان هما ألمانيا وموسكو. في ألمانيا كان المستيري سفيرا لتونس وعميدا للسلك الدبلوماسي الأجنبي عندما وقعت أحداث أولمبياد ميونيخ. فقد اختطف كومندوس فلسطيني أعضاء البعثة الأولمبية الإسرائيلية وهدد بتصفية أفرادها في حال لم يستجب لمطالبهم ومن أهمها إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين.
استنجدت ألمانيا بمحمود المستيري ليفاوض الخاطفين، ويقول عن ذلك" كانت لدى المخابرات الألمانية معلومات عن دور تونسي ما في عملية ميونيخ، فطلبوا وساطتي باعتباري عميدا للسلك الديبلوماسي اتصلت بالخاطفين وجالستهم وكانوا على أتم الاستعداد للتفاوض مؤكدين أن العملية يراد منها تحقيق المطالب وليس إيذاء أي شخص. كانوا شبانا بين ال 20 وال 25 سنة، لكن للأسف فضلت ألمانيا الحل الأمني الذي أدى إلى مجزرة حقيقية".
ويوضح المستيري تفاصيل الدور التونسي بالقول إن الألمان كانوا يلمحون إلى دور ما لمحمود المصمودي (وزير خارجية تونس آنذاك) وله علاقات وثيقة بالفلسطينيين وكان لا يخفي حماسته لمناصرة قضيتهم، لكن الألمان لم يقدموا دليلا يؤكد ما لمحوا له فلم تتأثر العلاقات التونسية الألمانية من أجل ذلك ".
أما عن موسكو فيتذكر المستيري لما كان سفيرا لتونس لدى الاتحاد السوفياتي أن ترتيبات زيارة بورقيبة لموسكو فشلت فشلا ذريعا رغم رغبة موسكو في زيارة بورقيبة لاستمالته نحو المعسكر الشرقي وذلك لأن هذا الأخير اشترط أن يستقبله ليونيد بربجنيف سكرتير عام الحزب الشيوعي الروسي وليس بودغورني رئيس الدولة، وذلك لأن استقبال بريجنيف يعني الاعتراف ببورقيبة كزعيم ذي مكانة دولية. وبقي الأمر معلقا وفشلت فكرة الزيارة.
وعندما حاول المستيري إقناع بورقيبة بالعدول عن شرطه لأن روسيا دولة عظمى نحتاج للعلاقات معها أجابه " هذا كلام ديبولماسي جيد يحب الخير لبلاده لكن أريد أن أقول لك أمرا دعه بيني وبينك الاتحاد السوفياتي الذي تراه أمامك عملاقا لا يضاهى (حكايته فارغة) وسوف ينهار قريبا، ربما ليس في حياتي لكنك على الأرجح ستشهد أنت ذلك الحدث".
يقول المستيري "عجبت لما قاله بورقيبة وسكت لكنني في أعماقي كنت أقول أن بورقيبة كبر وبدأ يهذي إذ كيف ينهار الاتحاد السوفياتي، لكن لم يمض عقدين من الزمان أو يزيد قليلا حتى تحققت نبوءة بورقيبة قبل أن يموت بسنوات قليلة".
شهد محمود المستيري عن بعد وعن قرب صعود أسماء وسقوط أخرى في حاشية الرئيس الراحل بورقيبة وفي صفوف قادة البلاد المقربين منه، وكانت الصورة تتضح لديه أكثر كلما عمل في وزارة الخارجية ككاتب دولة في أغلب الأحيان.
كان بورقيبة زعيما ذا رؤية يمسك الأوضاع في تونس بيد من حديد لكن يده تلك بدأت ترتخي في مطلع الثمانيات تحت وطأة أزمات اجتماعية متتالية في 1978 وفي 1984.
ويعتقد المستيري أن صراع الأجنحة في قصر "قرطاج" تسبب أيضا بإضعاف بورقيبة. ويقول في مذكراته كان صراعا خفيا لكنه كان موجودا حتى أنه تحول إلى حديث الشارع من خلال تأويلات صحيحة وأخرى مكذوبة، بل كان الأكيد أن حرم الرئيس بورقيبة المرحومة وسيلة التي كانت تلقب بالماجدة قبل طلاقها من بورقيبة كانت تلعب دورا بارزا من وراء الستار، فهي التي أتت بمحمد مزالي إلى الوزارة الأولى وحالت دون محمد القيام الذي كان موضع ثقة لدى بورقيبة من تولي هذا المنصب.
ففي ذات يوم كانت تتجول في غرف قصر قرطاج فوجدت الصيّاح ينتظر بورقيبة وكان قاب قوسين أو أدنى من تولى الوزارة الأولى فسارعت إلى زوجها لتقنعه بأن يعدل عن قراره وأن لا يولِّي الصيّاح لأنه حديث السن فنزل عند رغبتها وعين بمشورة منها محمد مزالي الذي افتتح مرحلة أخرى من تاريخ تونس السياسي الحديث".
في تلك الحقبة –يستذكر المستيري- صعدت قوى سياسية جديدة على المسرح السياسي التونسي كان أبرزها التيار الإسلامي الذي مثّل أكثر التهديدات جدية للحكم البورقيبي وفي إطار المواجهة معه صعدت شخصية احتاج لها بورقيبة لمواجهة هذا الخطر هي الرئيس الحالي زين العابدين بن علي الذي تدرّج من آمر للحرس الوطني إلى كاتب دولة للأمن الوطني ثم وزير للداخلية ثم وزير أول قبل أن يتقلد رئاسة الجمهورية عندما صار بورقيبة عاجزا عن القيام بأعباء الحكم في فترة حرجة من تاريخ تونس عرفت أزمة اقتصادية وسياسية خانقة.
"كان كلانا كاتب دولة هو للداخلية وأنا للخارجية وكنت أسأله عن حقيقة الخطر الإسلامي وكان يحدثني عن استفحال أمرهم وتطلعهم للحكم. وبدا غير متفائل بما كان يحدث ويحاول دائما إشعار بقية الوزراء بأهمية الهاجس الإسلامي. وكان هذا الموضوع أولوية محادثاته مع الزعيم بورقيبة".
وربما كانت تلك العلاقة التي جعلت رئيس تونس الجديد في فجر 7 نوفمبر 1987 يعين المستيري وزيرا للخارجية، عن ذلك القرار قال المستيري "علمت من صوت المذياع، وفي الحقيقة لم يفاجئني لأنني كنت الأقرب لنيله بحكم الخبرات المتراكمة في الوزارات وفي الولايات المتحدة".
بعد ذلك طلبت الأمم المتحدة في شخص أمينها العام بطرس غالي من محمود المستيري الذي تعرفه أروقتها ولجانها جيدا أن يتوجه إلى أفغانستان مبعوثا خاصا للبحث عن حل سلمي لحرب المجاهدين إخوة الأمس الذين هزموا الاتحاد السوفياتي، أعداء اليوم الذي دمروا ما لم تطله آلة الحرب الروسية.
وتحدث المستيري بتفصيل عن تجربته في كتاب أنجزه الزميل الصحفي صالح عطية، لكن المستيري لا ينس أن يشير إلى الطرائف والمواقف التي واجهته هناك. ويقول عن ذلك " استجبت لهذه المهمة بعد سنتين عملت فيهما سفيرا لتونس في مصر التي ربطتنا بها علاقات جيدة. كانت مهمتي صعبة فقد كان الصراع على أشده بين مجموعات سياسية وعرقية ومذهبية وقبلية. ولم تكن مهمة ربط علاقات الحوار معهم مهمة سهلة بالمرة، لكن مع ذلك حصل لديّ انطباع متفائل بأن الحل ممكن لهذه الحرب الأهلية".
تحدث المستيري عن مبادراته العديدة التي ما كان ليقبل بها طرف إلا ليرفضها آخر لكنه تحدث أيضا عن ملاحظاته الشخصية عن قرب عن القيادات الأفغانية. فقد لفتت نظره الثقافة الدينية العميقة لبرهان الدين رباني وقلب الدين حكمتيار، ويذكر أيضا في السياق ذاته ما كان يراه في عبد رب الرسول سياف من اهتمام بالنسوة من عضوات وفود الأمم المتحدة رغم تظاهره بمواقف غاية في التشدد بل التطرف.
كما لم ينس خصال القائد الأفغاني الراحل أحمد شاه مسعود الذي قال عنه أنه كان ذا ثقافة واسعة ورجل حوار وتفاهم، أما جماعة "طالبان" فوصفهم بأنهم كانوا بارعين في إسقاط التفاهمات في اللحظة الأخيرة بعد جولات مضنية من التفاوض، مستذكرا ما قال إنه "بدائية" غالبة على تفكيرهم ففي أول لقاء جمعه بهم قالوا له "أنت لست مسلم، أنت كافر مادمت تلبس لباس الفرنجة وربطة العنق، عند ذاك قال لهم مرافق ليبي بل لباسكم هو الذي يشبه لباس الكفرة في زمن الرسول الأكرم فاندهشوا من ردة هذا".
لم ينسلخ محمود المستيري تماما عن الحياة العامة، إذ يتابع حاليا الأحداث من خلال وسائل الإعلام خصوصا من خلال الإعلام الفرنسي في التلفزة أومن خلال جرائد شهيرة مثل "لومند" و"لوبوان" و"لوبسرفاتور" كما يتابع الصحافة التونسية خصوصا مجلة "حقائق" المستقلة. وتربطه علاقة وطيدة بعدد من الصحفيين الذين يستضيفهم لتبادل الرأي في المستجدات العربية والدولية.
ويمعن المستيري التأمل في قضايا عدة على ضوء خبرة العمر وينشر آراءه فيها بين الحين والآخر داعيا العرب إلى اليقظة من بعد طول غفلة والتفكير بجد في المستقبل بعد أن خسروا فرص الماضي، ويعي أن مشكلات العالم عديدة ومعقدة لذا فإن الهدف الأساسي من مذكراته كما يقول هوتدوين بعض الأحداث والخفايا والخبرات التي يرغب في نقلها إلى كل من يريد الاستفادة منها سواء كان قارءا عاديا أو مسيّسا أو ديبلوماسيا لا يزال يتلمس الطريق في هذا المجال المهم".
*حوار تاريخي هام نشر سابقا على النت بتاريخ :
الاحد 31 أكتوبر 2004م، 17 رمضان 1425 ه


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.