من سنين طويلة عندما أستمع أو أقرأ لنخبنا «الحداثية» بشتى فصائلها وتلويناتها وكلامهم عن مشاريعهم وعن مشاريع مخالفيهم أو خصومهم أجد القوم ممتلئين ثقة الى حد الفيضان بعلمية ما يطرحون من مشاريع وواقعيتها ومناسبتها لحياة شعوب هذه المنطقة وتطلعاتها وكذلك بسذاجة مخالفيهم وفراغ ما يطرحون من أي محتوي يمكن أن يهم حياة الناس اليومية وهمومهم. وقد كان لافتا في ذلك «التقويم» الذي وصلت إليه تلك النخب، فيما يخص أفكارها ومشاريعها وأفكار غيرها ومشاريعه، أنه تقويم ولد كاملا مكتملا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تجري صياغته لمرة واحدة ولا يعاد النظر فيه بل يصير القاعدة والمرجع لكل تقويم أو قياس يجري بعد ذلك للأشخاص والأفكار. ولهذا قد يتعجب من لا يعرف هذه الحقيقة عندما لا يحس بأي أثر على هذا «التقويم» لتطور أفكار الناس وتغير مواقفهم ومراجعتها كنتيجة طبيعية لتفاعلهم مع ما يستجد في عالم الأفكار والأشياء. فكل الناس أفرادا ومجموعات معلومة مواقفهم, محددة أهدافهم حتى لكأنها أخذت من ملفات جيناتهم, وهي أصدق ألف مرة من بياناتهم وتصريحاتهم بل وأفعالهم. فلا يمكن مثلا أن نتصور أو نتخيل أو نتوهم أن اسلاميا مثلا يمكن أن يؤمن يوما بالديمقراطية أو بحقوق الإنسان أو سيتخلى حقيقة في لحظة من لحظات حياته عن النضال من أجل استئناف العمل بتعدد الزوجات. ولهذا يجب إن أردنا أن لا نخدع أنفسنا أو تخدعنا المظاهر, أن لا نستمع إلى ما يقوله ولا نقرأ ما يكتبه بغير عقل المفتش المدقق عن العبارات أو الكلمات الخام المنفلتة في خطابه من رقابة التزويق والتسويق والكاشفة عن حقيقة النوايا وإنما المواقف بالنوايا. ولهذا فقد يتعجب الكثيرون ممن تغيب عنهم هذه الحقيقة ويندهشون بل ولا يكادون يصدقون أسماعهم ويتملكهم الشك في قدرة مداركهم وأفهامهم وهم يسمعون أو يقرؤون تصريحات غريبة وآراء عجيبة, طافحة بالسماجة والسذاجة. بل ويتعجبون من صفاقة وجه من يدعي الحداثة والثقافة والعلمية و يكون حاملا في كثير من الأحيان للقب أستاذ أو دكتور فضلا عن مناضل أو حقوقي ويستطيع أن يصرح بتلك التصريحات على رؤوس الملأ في وسائل الإعلام المسموعة والمرئية والمقروءة دون حرج أو قليل من الحياء أو حتى شيء من التحذر لما يمكن أن يلحق صورته من معرة أمام السامع والمشاهد أو القارئ باعتبار أن تلك التصريحات تصور قيمة قائليها أكثر من أي شيء آخر. وكمثال على تلك التصريحات المستغربة من الكثيرين وهي في الحقيقة منسجمة مع طبيعة التقويم السرمدي المعتمد لدى قائليها, ما جاد به « الدكتور» محمد الطالبي في كثير من تصريحاته لوسائل الإعلام المقروءة والمرئية من نصائح وتوجيهات للشيخ راشد الغنوشي كي يتخلى عن العنف كمنهج للوصول للسلطة وأن يتراجع عن اعتبار الديمقراطية كفر وعن معادات ما تحقق للمرأة من مكاسب وعن عزمه على إلغاء مجلة الأحوال الشخصية حال وصوله للسلطة. وكذلك ما تعجب منه نجيب الشابي من نية «الإسلاميين» وجرأتهم على الترشح لإنتخابات المجلس التأسيسي دون امتلاك برنامج اقتصادي غير تلاوة آية "وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها" وكذلك ما صرح به حمادي الرديسي في أكثر من مناسبة من ضرورة تخلي الإسلاميين عن عداء الديمقراطية والتكفير للمخالفين وتهديد المجتمع بتطبيق الشريعة وافتعال معارك الهوية في مجتمع يدين كله بالإسلام, وأمثلة ذلك كثيرة في خطابات المحلل السياسي الكبير سفيان بن حميدة والمناضل الحقوقي خميس قسيلة والمفكرة الكبيرة بشرى بالحاج حميدة والدستوري (نسبة إلى «دستورنا») المفوه جوهر مبارك الذي علل هزيمته في الإنتخابات بأنه لم ينهج نهج الآخرين في دغدغة العواطف الشعبوية ولكنه آثر توجيه خطابه إلى عقول التونسيين, غير أنه لم يكمل لنا التفسير هل أن هزيمته عائدة إلى عدم امتلاك التونسيين لعقول! أم تعود لإمتلاكهم عقول ما كان على أمثاله أن يتجرأ ويحاول المرور عبرها. وغيرهم وغيرهم كثير. وقد نتج عن تلك الحقيقة قناعة راسخة لديهم أن لا تعايش ولا التقاء مع مخالفيهم وخاصة من ذوي الخلفية الإسلامية وأن الذي يربطهم بهم هو تناقض وجودي لا يزول إلا بزوال احدى الطائفتين. ومن هنا لا غرابة في امتطائهم ركاب نظام السابع من نوفمبر لما بدا فيه أمل تحقيق هذه الأمنية, ولا غرابة اليوم في حرص هذه الفئة على البحث بكل جهد عما يمكن أن يمثل تناقضا مع أصحاب المشاريع المتصالحة مع الهوية أو حتى افتعال ذلك التناقض عبر الإفتراء وتحميل الأمور فوق ما تحتمل. ولقد كنت أعتقد جازما أن القوم لا تفل قناعاتهم المجادلات النظرية ولا الردود السريعة أو المفصلة, ولكن لو أتيح لتلك القناعات اختبار عملي عبر حصول انتخابات نزيهة مثلا تبين لهم المسافة التي تفصل تلك القناعات عن الواقع الذي يعيشه كل الناس, أو التواجد مع مخالفيهم ضمن هياكل مدنية تقربهم من مخالفيهم مما سيجبرهم على تجريب معايشة غيرهم وامتحان سلوك هذا الغير لقهرت تلك القناعات على التزحزح ولو قليلا. ولذلك استبشرنا خيرا بعد الثورة وتوجه البلاد نحو اجراء انتخابات حرة بمراقبة دولية, بل وبإشراف هيئات غلب عليها أنصار هذه الفئة وتحت مضلة قوانين سطرتها تلك الهيئات. وفي الحقيقة ولطول اختبارنا لهذه الفئة لم نكن نطمع في اذعانها اذعان الشجعان بل كان حسبنا منها قليلا من التواضع يمكنها من مراجعة قناعاتها وتطويرها والإصغاء ولو على استحياء إلى صوت الشعب واعتبار آرائه ولكن... ولكن ماذا وجدنا؟ وجدنا أن «نخبتنا الحداثوية» ازدادت قناعاتها رسوخا بصواب « تقويمها» وسداد رؤاها, ولم تزدها نتائج الإنتخابات إلا عنادا وسخرية من اختيار الشعب والأمر بالنسبة إليها ليس إلا مسألة وقت وتضرب خشبة القبر رأس الشعب حيث تنكشف الحقائق الخفية أمام عينيه عبر الفشل الذريع الذي ينتظر الحكم المنبثق عن هذه الإنتخابات فيقتنع بخطإ اختياره ويعود إلى أحضانها معتذرا عما ارتكب في حقها وحق نفسه وحق الحداثة والديمقراطية.