إن الانتصارات المتتالية التي حققها ويحققها الإسلاميون على المستوى السياسي في أقطار عربية متعددة ، خاصة ممن مسّتها بشكل أو بآخر رياح الربيع العربي ، وتصدّرهم المشهد الانتخابي والسياسي وحتى التنفيذي في أقطارهم ، وعلى وجه الخصوص ما حدث لدى جيراننا شرقا بعد فوز حركة النهضة في تونس ، وغربا بعد تصدّر حزب العدالة والتنمية في المغرب ، وتكليف أمينيهما العامّين برئاسة الحكومة وتشكيلها ، حمادي جبالي تونسيا ، وعبد الإله بن كيران مغربيا ، ثم تبع ذلك تقدم الإسلاميين في مصر وفي مقدمتهم الإخوان المسلمون وحزبهم الحرية والعدالة في المرحلة الأولى من أول انتخابات بعد الثورة ، وما زال العدّاد شغالا كما يبدو ولن يتوقف عند هذه الأقطار. إن هذه الانتصارات المستحقة ، بقدر ما هي مفرحة ومبشرة ، لكنها تشكّل تحدّيا كبيرا للحركة الإسلامية الجزائرية ، لكونها أصبحت مطالبة واقعيا ومجتمعيا وسننيا مهما كانت ظروفها في الاستحقاقات الانتخابية المقبلة ، بسقف ما حققه نظراؤها من الإسلاميين مغربا ومشرقا ، وإلا فهي الصدمة وأفول النجم وذهاب الريح ، بمنطق المثل العامي عندنا الذي يقول :(افعل فعل جارك ، وإلا غيّر باب دارك) ، وبما أنها لا يمكنها أن تغير باب دارها لكي يصبح يفتح بغير تراثها الفكري وبعدها الإيديولوجي ورصيدها الأخلاقي ، ومن ثم امتدادها المجتمعي ، فلا يبقى من خيار أمامها إلا السعي الحثيث لفعل ما فعله جيرانها أو الاقتراب منه على الأقل ، وإلا فدخول الرف أو المتحف إن وجدت فيه مكانا وسمح لها بدخوله لا قدّر الله . فهل تشكّل الحركة الإسلامية الجزائرية نشازا ، في زمن صعود التيار الإسلامي من حولها ودالته وفرض وجوده وأمره الواقع ، حتى على أعدائه وخصومه في الداخل والخارج ؟؟؟ وإن حدث ذلك ، فهل يكون بسبب كونها قد استهلكت سياسيا ، نظرا لتجاربها المتواضعة والفاشلة أحيانا ، وسقفها المنخفض ، ومواقفها وخياراتها غير المقنعة حتى لبعض أبنائها ، كما يقول خصومها ؟؟؟ أم بسبب نجاح خطط استهدافها واستنزافها وتوريطها ، واستهلاك رصيدها شعبيا ومجتمعيا ، وحرمانها تراكميا من نقاط قوتها وجوانب تميزها؟؟؟ أم بسبب سلبية الرأي العام وعدم اكتراثه كثيرا بعملية التغيير السياسي ، واستمرار انسداد شهيته وعزوفه عن المشاركة والإقبال القوي على صناديق الاقتراع ، إما تكاسلا وعدم إدراك لمسؤوليته في ذلك ، أو يأسا مبررا ولا ثقة وعدم اطمئنان في نزاهة العملية وشفافيتها؟؟؟ أم أن الحركة الإسلامية الجزائرية ، ستثبت أنها لن تكون استثناء ، وسوف تبرهن على ذلك عمليا ، وتتجاوز حالة الركود ومراوحة المكان ، واستنفاذ الجهد واستهلاك الطاقة في ترميم ومعالجة أوضاعها الداخلية ، والانطلاق بنفس جديد ومتجدّد ، وتكذب عمليا بعض خصومها ومنافسيها الذين تعالت أصواتهم هذه الأيام وهم يعلقون على الانتصارات التي حدثت ، للتشكيك في إمكانية أن تكون كمثيلاتها في بقية الأقطار ، بل جزمهم أنه من المستحيل أن تحقق ما حققوه؟؟؟ على العموم ومهما قيل من كلام في هذا المجال من هذا الطرف أو ذاك ، فإن الحقيقة الماثلة للعيان لكل متابع ومهتم وعارف بأوضاع الحركة الإسلامية الجزائرية بمختلف تشكّلاتها ، أن انتصارات الإسلاميين الانتخابية والسياسية هذه ، بالرغم ممّا قد تشكّله من دافع إيجابي لإسلاميي الجزائر ، وعامل محفز لهم لتجاوز عثراتهم ، وتغلّبهم على خيباتهم ، ومن ثم رفع أسهمهم في المحطات القادمة ، لكنها بالمقابل ستشكّل حتما كما ذكرنا من البداية تحدّيا كبيرا لهم ، وامتحانا صعبا ليس من الهيّن ولا السهل النجاح فيه بيسر وسلاسة ، بالمستوى الذي يواكب نتائج نظرائهم من حولهم ، وينسجم مع وتيرة صعودهم ، التي أفرزتها التحولات الحادثة عندهم . ولكي تكون الحركة الإسلامية الجزائرية في مستوى هذا التحدي ، والتغلب على العقبات وتجاوزها بنجاح ، ومن ثم إثبات أهليتها هي كذلك للصعود إلى منصة التتويج والتصدّر ومسك مقود القيادة ، فإنه يتحتم عليها إحداث انتقال سريع وعاجل ، ولا يحتمل الإبطاء أو التردد أو الارتباك : 1 من دائرة التذبذب وفقدان البوصلة في تموقعها ومواقفها وخياراتها ، إلى دائرة الحسم والوضوح وتحديد الوجهة بدقة. 2 من دائرة التشرذم والفرقة والتشتت وضيق الكيان ، إلى دائرة التقارب والتنسيق ورحابة المشروع. 3 من دائرة التنظيم والنخبة والجماعة ، إلى دائرة الشعب والمجتمع والأمة. 4 من دائرة الاستغراق في الحفاظ على الوجود وضمان البقاء والتواجد ، إلى دائرة توسيع التأثير والتقدّم الواثق كبديل حقيقي ومقنع للوضع القائم. 5 من دائرة التبرير والتسويغ والتزكية والدفاع ، إلى دائرة فك الارتباط وفرض الوجود الفاعل وحسن تسويق الذات ، وإفتكاك الاحترام والسند والاحتضان المجتمعي. 6 من دائرة الانفعال وردود الأفعال ومقارعة طواحين الهواء ورايات الإلهاء ، إلى دائرة التفاعل الإيجابي وصناعة الفعل الميداني المثمر والمؤثر. 7 من دائرة التبعية المطلقة والرضا بالقليل والانكفاء على الذات ، إلى دائرة الريادة والانفتاح على الأفق الفسيح بكل مكوناته ومستوياته ، وتقديم الدلائل العملية لاستحقاق القيادة وأخذ النصيب الأوفى. 8 من دائرة الانحباس في منطقة الوعاء شبه الثابت بنسبه المتواضعة المحددة سلفا المكرهة على إنزال السقف ، إلى دائرة الاقتناع والرهان العملي على إمكانية الوصول إلى مستوى الأكثرية المرجحة الواعية والإيجابية ، الصانعة للتصدّر والفارضة له. 9 من دائرة المشاركة ووضعية في الحكومة وليس في الحكم ، إلى دائرة الشراكة الحقيقية ووضعية في الحكومة والحكم معا. 10 من دائرة الارتباط بالراهن اللحظي وملاحقته بالموقف والفعل ، إلى دائرة صنع وامتلاك مقوّمات التموقع المتقدّم والقائد حاضرا ومستقبلا . مع تأكيدنا أنه إضافة إلى إحداث كل هذا الانتقال ، فإن الأمر مرتبط عندنا كذلك ومع ذلك بعاملين مهمّين : أولهما : مدى جدّية الإصلاحات وعمقها وجذريتها في شقها السياسي تحديدا ، ومدى حرص النظام القائم على ضمان شفافية العملية الانتخابية المقبلة ونزاهتها واحترام نتائجها ومخرجاتها مهما كانت ، ومن ثم إرسال رسائل طمأنة وبعث ثقة للرأي العام وللكتلة العازفة عن المشاركة السياسية والانتخابية على وجه التحديد ، لإقناعها بإمكانية الإصلاح والتغيير الحقيقي والمسؤول عن طريق الصندوق ، وعدم المغامرة من أيّ كان بمستقبل الوطن ، بما أننا أقرب إلى التجربة المغربية منها إلى التجربة التونسية والمصرية ، وإن كان تمييع الإصلاحات وتحزيبها وإفراغها من محتواها الذي حدث في البرلمان ينبئ بغير ذلك للأسف الشديد ، ومن الممكن أن يضيع علينا فرصة ثمينة للإصلاح والتغيير الهاديء والسلس لا قدّر الله التي يحبذها كلّ عقلاء هذا الوطن ومحبّيه. ثانيهما : مدى تفاعل الشعب وإقباله المكثف على صناديق الاقتراع ، وتحرّك الكتلة المقاطعة واليائسة والعازفة ، نحو التصويت والمشاركة الانتخابية بقوة ، الأمر الذي من شأنه أن يضيّق هوامش التزوير والتلاعب بالنتائج إن وجدت ، ومن ثم إمكانية إحداث التغيير بذلك. فهل من الممكن أن تتوفر كل هذه الأجواء المساعدة ، وتستطيع الحركة الإسلامية الجزائرية أن تتجاوز سلبياتها وترفع سقفها ، وتحدث انتقالا حقيقيا وسريعا من دوائر الضعف وتواضع الأهداف العملية وانخفاض مستوى الطموح التي ذكرناها إلى دوائر القوة والأمل والثقة في النفس والقدرات والشعب وقبل ذلك في الله عز وجل ، وارتياد أفاق الفوز وتحقيق الانتصار ، مواكبة لما حدث ويحدث وسيحدث من حولها ، لدى نظرائها مغربا ومشرقا ، فتغادر بذلك كراسي الاحتياط التي حبست فيها منذ مدّة إن كانت تشغلها أصلا إلى مراكز صنع اللعب وقيادة الفريق ؟؟؟ أقول وأنا على يقين ، أن ذلك ممكن وليس مستحيلا ، رغم أنه صعب ويحتاج إلى جهود جبارة وأعمال مضنية من طرف الجميع كلّ من موقعه ، وتطليق حالة الاسترخاء واستلذاذ الكسل والقعود الناقد وكثرة الجدل ، وكذلك الاستغراق في الداخل التنظيمي على حساب البعد المجتمعي، وإسنادها باجتهادات عميقة وإستراتجيات حكيمة وخطط ذكية وواعية ومواقف حازمة وواضحة وقوية ، حتى يكون العجيب الذي ستلده الليالي الحبالى ، وستتمخض عنه الأيام القادمة ، إسلاميا بامتياز في هذه الربوع الطيبة ، ولكي لا تكون نشازا أو استثناء ، وما ذلك على الله بعزيز.