د. محمد بن نصر، المعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية، باريس منذ الإعلان الرسمي عن النتائج النهائية لانتخابات المجلس الوطني التأسيسي توقفت عن الكتابة عن تطور الأوضاع في تونس وبقيت أتابع متأملا أشكال الممارسة الفعلية للسياسة لمن أوصلهم الشعب إلى مواقع القرار. كنت حريصا على معرفة مدى التزامهم بمبادئ الديمقراطية ومدى التزامهم بالشعارات التي رفعوها في حملتهم الانتخابية. في هذا المقال أسوق عددا من الملاحظات التي وددت أن يشاركني فيها القراء بالنقد والتعليق لعلّنا نسهم في تطوير ممارستنا السياسية. لنسجل أولا الإطار التي تتزل فيه هذه الملاحظات، لو طلبنا من أكبر المتفائلين من ذوي الخيال الخصب قبل أو بعد السابع عشر من ديسمبر من السنة الماضية بقليل أن يرسم صورة لنا لتونس في سنة 2011 لن يكون بمقدوره أن يرسم لنا صورة تعكس الحال الذي أصبحنا عليه. بلد صغير في حجمه غني برأسماله البشري، تحكمه سلطة مستبدة من أعتى الديكتاتوريات في العالم، ينجح الشعب في لحظة تحول فيها إلى قوة جبّارة كاسحة مندفعة تحت شعار " الشعب يريد إسقاط النظام"- وفي أقل من شهر- في إجبار رأس السلطة على الهروب أو إجبار الذين يحمونه على تهريبه لا يهم فالنتيجة واحدة. ولكن هذا الشعب كان على وعي تام أن النجاح الحقيقي للثورة يكمن في القضاء نهائيا على منظومة الاستبداد فطالب ضمن معادلة جد دقيقة، طرفها الأول المحافظة على سلمية الثورة وعدم الوقوع في معضلة الفراغ الدستوري من شأنه أن يدفع بالبلاد نحو المجهول وطرفها الثاني تحقيق أهداف الثورة، بعدم تولي رموز حزب التجمع الذي لم يحل بعد الحقائب السيادية ولما تبيّن له أن حكومة الغنوشي الثانية لم تغير من الأمر شيئا أسقطها معتصما و مطالبا بانتخاب مجلس وطني دستوري وحل كل المؤسسات الدستورية وكان له ذلك، تأجلت الانتخابات التي كانت مقررة في نهاية الشهر السابع فتقبل الشعب ذلك مكرها حرصا على نجاح المسار الانتقالي وأجريت الانتخابات في أجواء أمنية راقية وتم احترام النتائج التي أفرزها الصندوق وأختار الشعب من اعتقد فيهم القدرة على تحقيق مطلبي الثورة الأكثر إلحاحا، القطع مع الاستبداد السياسي و الانتهاء مع سياسة الظلم الاجتماعي ثم أفرزت السلطات الثلاث الناتجة عن توافق ائتلافي غير مسبوق في تاريخ تونس الحديثة. سير الأحداث على هذا النمط البديع الذي من شدة بهائه أصبح عند البعض غير قابل للتصديق فأقبلوا يتأولون ويبحثون عن القوى الخفية التي خططت لكل هذا من وراء ستار وهب تجاوزا أن الأمر دُبّر بليل كما يدّعون فلا ضير طالما أنّه خير و لعمري أن ما يقصدونه من قوى لم تتعود إلا على التخطيط للإبقاء على الحريق مشتعلا. بعد هذا التأطير الذي من الضروري أن نستحضره كلما تعاظمت في عيوننا أخطاء بعضنا البعض ومن منّا لا يخطئ عندما تتعالى أصواتنا منتصرين لأفكارنا وأحزابنا و مع كثرة اللغط أحيانا فإنّنا على يقين أن الممارسة الحقيقية لقيم الديمقراطية ستخفف تدريجيا من كثافة الأقنعة الإيديولوجية. الملاحظة الأولى تتعلق بأعمال المجلس التأسيسي بوصفة المؤسسة التي تنبثق منها كل مؤسسات الدولة وكل التشريعات وهي التي تصادق على السياسات العامة، نستطيع أن نقول وبكل فخر إأن هذه المؤسسة قد أثبتت إلى حد الآن على الأقل حرفيّة عالية في أدائها بالرغم من الخبرة المتواضعة لكثير من أعضائها وبالرغم من بعض أشكال التهريج التي أراد البعض أن يكرسها وهو أمر لا تكاد تخلو منه المجالس التشريعية الأكثر عراقة. ما يثير الانتباه و ما يجب تداركه هو سلبية العديد من النواب وخاصة من العناصر النسائية ولعل ذلك يعود أساسا إلى أن المداولات حول القانون المنظم للسلطات تم في إطار اتفاقات مسبقة بين الكتل الحزبية الممثلة للأغلبية ولا يختلف الأمر بالنسبة للمعارضة ومن المنتظر أن يشهد المجلس جلسات أكثر حيوية تعدد فيها المبادرات الفردية التي تتجاوز الأطر الحزبية المنتمية إليها وتبرز أكثر فأكثر صورة النائب المعبّر والمعبّرة عن آلام وآمال الناخب. الملاحظة الثانية تتعلق برئاسة الدولة، لا جدال في أن السيد الرئيس المنتخب المعروف بأنه رجل مبادئ، مدافع شرس عن حقوق الإنسان ولكنه يحتاج في هذه المرحلة الحرجة التي يغلب عليها التوجس المفرط من كل كلمة تنقصها الدقة في التعبير فتتحول في حد ذاتها إلى مشكل يتبارى المشاكسون في النفخ فيه حتى يطغى فيها الفرع على الأصل والجزء على الكل، يحتاج أن يكون حذرا في تصريحاته ودقيقا في عباراته وعلى وعي التام بضرورة التفريق بين الحالة التي كان عليها، رئيس حزب سياسي والحالة التي أصبح عليها، رئيس كل التونسيين. على سبيل المثال لا الحصر ليس من الحكمة دعوة المعارضة إلى العطالة والتوقف عن أداء دورها والقبول ب"هدنة" مفروضة وإن كنّا نعتقد أنّه من الحكمة السعي للتوافق على أشكال من النضال المناسبة للمرحلة فلا أحد يجادل في أن بعض أشكال النضال لا تساعد البتة على انطلاقة جديدة لبلادنا التي لم تعد تحتمل تأخيرا في تحمّل كل الأطراف مسؤوليتها. الملاحظة الثالثة تتعلق برئاسة الحكومة، من المعلوم أن من شروط نجاح فريق عمل هو التجانس بين الأفراد المكونين له بمختلف مستوياتهم وعليه فمن حق رئيس الحكومة أن يختار من يعمل معه ولكن يجب أن لا ننسى أنّنا في مرحلة جدّ دقيقة تلعب فيها العوامل النفسية دورا مهما بغض النظر عن أهمّيتها الحقيقة، الشعب يريد قطيعة فعلية مع الماضي ومع كل ما يذكّره بالماضي ومن هنا يصعب علينا أن نفهم إصرار السيد رئيس الحكومة على تعيينات تحمل شبهة العلاقة بالحزب المنحل أو تحمل شبهة القرابة بالمصاهرة. الاحتجاج بأن معيار الكفاءة هو فقط المعيار المعتمد لا يستقيم لأن محل الاعتراض هنا ليست الكفاءة ولكن الاعتراض على عدم الأخذ بعين الاعتبار لجملة من العوامل الموضوعية المثبّطة، فعندنا من العراقيل والصعوبات ما يكفينا ومع ذلك لا يجب التهويل من هذه المسائل على أهميتها من الناحية النفسية لأن العبرة في الأخير بالنتائج، العبرة بحسن الأداء، في كل الأحوال فإن كل الوزراء وبالتحديد المعترض عليهم من البعض سيكونون تحت مجهر الثورة الذي لا يغفل. الملاحظة الرابعة تتعلق بالمعارضة التي لم تعرف حتى الآن كيف تتصرف مع الوضع الجديد في تونس. لا تدري أتجمع بين القول والفعل وتعمل ما في وسعها لإفشال الحكومة الجديدة أم تفرق بينهما فتؤيدها جهرا و تخطط ضدها سرا ولكن الفشل لا سمح الله إذا حصل سيغرق الجميع، موالاة ومعارضة وبالرغم من وجود قلة بينها تدعو إلى تبنى نهج المعارضة البنّاءة، تعارض حينما تكون المعارضة خدمة لأهداف الثورة وتؤيّد عندما يكون التأييد ضروريا لتحقيقها. كانت الأقلية جد نشطة في المجلس وكانت حريصة على تفاعل الأغلبية مع مقترحاتها ولكن للأسف في أكثر من مرة كانت ضحية لمنطقها العدمي، إذا حصل التفاعل صار عندها تنازلا وإذا لم يحصل التفاعل و تمسكت الأغلبية بموقفها صار عندها تكابرا ومصادرة لحق الأقلية، مثل هذا المنطق سيفقدها المصداقية التي لازالت تبحث عنها. المؤكد أن الأغلبية والأقلية، كلاهما تحت مجهر الثورة الدقيق، نحن أمام مواطن من نوع جديد، مواطن لم تعد تخدعه لا المزايدة السياسية و لا الكلام المطمئن الذي لا ينتج فعلا ولا يغير واقعا. الشعب تعلم تمييز الخبيث من الطيب ولم تعد ترهبه لا الولاءات التنظيمية ولا الإنتماءات الإيديولوجية. الملاحظة الخامسة تتعلق بالخطاب الرائج على الصفحات الإلكترونية، سواء تعلق الأمر بالأغلبية أو الأقلية أو ما بينهما، نلحظ ظاهرة من الضروري التصدي لها بكل حزم والحزم هنا في موضعه، هي ظاهرة التنابز بالألقاب وأشكال من السخرية والتهكم المتبادلة. يجب احترام المواطن التونسي والمواطنة التونسية، بغض النظر عن انتمائه الإيديولوجي أو الديني و يجب أن نعمل جميعا على الحفاظ على كرامته، يؤسفنا جدا أن يتعمد البعض وصف مخالفيهم بأوصاف مهينة، من مثل "العلمانيات العاهرات " الشلائكية، " جماعة صفر فاصل"، "الخوامجية"، "حزب النهقة"... هذه الأوصاف المخلة بالأدب والمعيقة عن المعرفة لا تسهم إلا في ترسيخ ثقافة التنافي وتصنيف الأمور ضمن دائرتي الأبيض والأسود فقط فتغيب المنطقة الرمادية ويغيب معها التفاعل الإيجابي ونعود من جديد لحالة الاستقطاب المغذّي للتعصب.