لم تطرح الثورة لا زعامات ولا أيديولوجيات على عاتقها، ولم ترفع الشعارات الحزبية الخطية، بل تمت على غير منوال سابقاتها، وجعلت كل عمل سياسي كلاسيكي محل مساءلة وشك في جدواه. وانتظر المتابعون أن تكون مختلف الأحزاب قد تلقت دروسا وتراجعت عن أشكال فعلها وممارستها وتفكيرها وتعاملها السابق مع الناس والبلاد، لتأسس مع الشعب مرحلة سياسية جديدة تأخذ بعين الاعتبار مصالح البلاد في توفير الأمن والاستقرار الاقتصادي والاجتماعي كأرضية خصبة تساعد على التحول الديمقراطي الفعلي بأقل الأضرار، غير أن عددا من المتابعين يرون العكس. فهل هناك مصلحة لهذه الأحزاب في تواصل الوضع على ماهو عليه؟ وهل يمكن أن يكون لعملها السياسي تأثير على واقع البلاد ومستقبلها؟ يعتبر الحبيب بوعجيلة القيادي بحزب الإصلاح والتنمية أن الأحزاب الراديكالية لا يمكنها أن تعيش إلا في أوضاع "المزايدة وفي الواقع الغائم الضبابي، ولا يمكنها أن تخلق التمايز سوى بمزايداتها". ويبدو أن المصالح العرضية الخطية الضيقة لأغلب الأحزاب وخاصة الأيديولوجية منها هي المحرك الأساسي لكل عملها وكل مواقفها وحتى نشاطاتها العادية والاعتيادية حسب المتابعين لها. ومن هذا المنطلق، فان عددا من الأحزاب تعمل حسب عادل الشاوش القيادي بحركة التجديد على "التمعش من الوضعية الثورية التي عاشتها البلاد، والانتقالية الآن لذلك فهو واقع مريح لها، حيث تتراجع أفكارها عند الانفتاح والاستقرار الديمقراطي". ولوحظ هنا الدعوات المتكررة للإضراب والاعتصام حتى وان كان السبب "إشاعة هزيلة"، وقد انبنت مواقف أحزاب وهي تناقش مشروع القانون المنظم لانتخابات المجلس التأسيسي على مثل تلك الاشاعات حججا. ويعتبر المتابعون أن هناك تكالبا بين مختلف الأحزاب، وحتى التي تقدم نفسها وسطية عقلانية على التحضير "البراغماتي" للانتخابات، ولعب ورقة الحسابات الدقيقة، لكسب أكثر عدد من الأصوات حتى وان تعارض ذلك مع مبادئها ومرجعياتها، فقد انسحبت أحزاب من الحكومة الانتقالية بمجرد أن علمت أنه لن يخول لها العمل على رأس وزارات الترشح في هذه الاستحقاقات، وان كان ذلك حقها، فقد تساءل البعض، كيف يعود المشاركون في الحكومة الانتقالية ليهاجموها بشدة بعد أن دافعوا عنها بقوة وهم بينها ؟ ويصف الملاحظون للشأن الوطني خاصة بعد الثورة أن هذه الأحزاب مرت من مرحلة استثنائية حيث كانت تعاني القمع وتعمل أغلبها في السرية والحلقية وتظهر من خلال غطاء منظمات وقطاعات بعينها مثل القطاع الطلابي والمنظمة الشغيلة وبعض المجالات الشبابية الفنية وأيضا النسوية، إلى مرحلة انتقالية ضبابية، ولكن الإشكال كونها لم تع التحولات ولا آفاق العمل بعد الثورة، وهو ما جعلها رغم المحاولات "معزولة عن الفئات الواسعة للشعب"، حسب تعبير بوعجيلة. ولوحظ أن مختلف الأحزاب السياسية، لم تغير أساليب عملها إذ استعادت مباشرة بعد الثورة نفس آليات عملها القديمة مما عزلها عن إشكاليات الواقع والجماهير، وقد يكون ذلك عن حسن نية معزولة عن أغلب أفراد الشعب وغير مدركة لطبيعة الأخطار التي تتعرض لها البلاد، أو غاضة النظر عنها والتي قد تكون نتائجها وخيمة إن تطورت.
خطر
ليست مغالاة ولا تعسفا على الواقع عند وصف الظرفية بالصعبة جدا في هذه المرحلة، بل إن الوعي بذلك مسؤولية حسب رأي أغلب المتابعين للشأن الوطني، إذ أن الوضعية التجارية والصناعية في البلاد تمر بأزمة حادة، كما السياحة أيضا،وبقية المجالات الحيوية التي تشغل أغلب اليد النشيطة التونسية وتضخ عروق الاقتصاد،حياة ونموا، المنهك جدا بسبب تراكمات احتكار العائلة"المافيوزية" التي حكمت أكثر من عقدين. ويذهب خليل الزاوية القيادي بحزب التكتل من أجل العمل والحريات الى أن هذه الوضعية تجعل الأحزاب مطالبة أكثر من قبل، للعمل على المساهمة في تحقيق" الاستقرار الأمني، والاقتصادي والاجتماعي". وللتذكير كان الوزير الأول بين في كلمة ألقاها يوم الجمعة الفارط أمام الولاة أن استتباب الأمن يعد شرطا أساسيا لتحقيق بقية الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والخروج من "المأزق" الذي تعيشه البلاد وإعادة الدورة الاقتصادية إلى سالف نشاطها لا سيما من خلال استقطاب الاستثمارات الأجنبية وإنعاش قطاع السياحة. ورغم أن هذه الكلمات تنطلق من عمل على تجسيم برنامج الحكومة الذي أعلن عليه منذ بداية اشتغالها، والذي لا يمكن حسب الملاحظين أن يحقق جميع نتائجه إلا إذا ما تضافرت جهود مختلف القوى السياسية وحتى الأكثر معارضة لهذه الحكومة، فان المسؤولية اليوم يجب أن تتعدى المصلحة الحزبية الضيقة، التي قد تصل حد "الانتهازية" ، وأن تتحمل مختلف هذه الحساسيات مسؤوليتها في تسبيق مصلحة البلاد قبل أي مصلحة عرضية.
قبل كل اعتبار
أكد الحبيب بوعجيلة أن على الأحزاب "أن تنكب على صياغة البرامج التي ترى منها مخلصا وحلولا لمختلف الإشكالات المطروحة في البلاد". و تتعرض مختلف الأحزاب دون استثناء بين الفينة والأخرى إلى عرقلة لنشاطاتها، وهي سلوكيات ينبذها المتابعون، إلا أنها تكشف عن سمعة سيئة للأحزاب بمختلف تلويناتها، فعدد من المواطنين يذهبون إلى أن المحاصصة والجري وراء المصالح الخاصة، والعيش على الإشكاليات الخاصة هي الميزة الأساسية للأحزاب. ويشدد خليل زاوية على أن دور الأحزاب في المرحلة الحالية يجب أن يكون بالأساس العمل على "توفير كل الظروف المواتية لإنجاح الاستحقاق الانتخابي وذلك عبر خطاب يشجع على الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي بالبلاد وسلوك سياسي منفتح وديمقراطي يقبل الاختلاف"، ومن ناحية أخرى وحسب رأيه يجب عدم التواني في "اتخاذ مواقف جريئة وشجاعة إزاء أي محاولات لبث الاضطراب والفوضى في البلاد خاصة في هذه المرحلة". ويعتبر الملاحظون أن المصلحة العليا للبلاد تكمن اليوم في تمثل الوضعية الحساسة والعمل بوعي شديد على تكريس التحول الديمقراطي فعلا عبر سلوك سياسي وأدوات عمل جديدة تتماشى مع المرحلة يكون فيها الاقرار بالاختلاف والمنافسة العادلة أسا أول وتكون فيها المصلحة العليا للبلاد لا شعارا يرفع، بل ممارسة وعملا يوميا يؤسس لمجتمع ديمقراطي تعددي حقيقي، عبر وعي وعمل لا يتناقضان. فلا يعقل أن يطالب حزب بتأخير موعد استحقاق انتخاب المجلس التأسيسي لمجرد أنه ليس مستعدا لهذه المحطة؟