هي من الظواهر الخطيرة التي أصابت مجتمعنا بمقاتل كثيرة، فقد قلّصت هذه الظاهرة من الإنتاج والإنتاجيّة في مؤسساتنا الخاصة و العموميّة، وساهمت بدور كبير في ركود الاقتصاد، وغلاء المعيشة و ارتفاع الأسعار، فقد عرفتها كلّ مؤسساتنا العموميّة ولم تنج منها كذلك جلّ مؤسساتنا الخاصّة على مدى سنوات عديدة، و قد استفحل أمر هذه الظاهرة بعد الثّورة واستحكمت حلقاتها في إطار التسيّب العام الذي عرفته البلاد على جميع المستويات، وفي جميع المجالات، بحكم انخرام الأمن، وشيّوع الفوضى، وضعف دولة القانون والمؤسّسات، وقد تبلورت مظاهر هذا التسيّب الإداري عندنا في ضعف المتابعة والمراقبة والمحاسبة الإداريّة على جميع مستويات الهياكل الإداريّة المشرفة بحكم تسيّسها وارتباط أكثرها بنظام الحكم البائد، ومصالحه، و بحكم ما كانت تتمتّع به هذه الهياكل المسيّرة من امتيازات في ظل وجوده و حكمه، وشعورها حاليا بالغبن والدونيّة التي أصابتها بعد فقدانها لتلك الامتيازات، وبحكم ضعف موقفها أمام خصومها من الشّباب الصّاعد الذي صنع الثورة، والذي بات يرى نفسه هو الأولي والجدير بقيادة مسيرة البلاد، و المؤتمن عليها، وقد عرّفه المهتمّون بعلوم الإدارة "بأنّه الحالة التي يتم فيها الأداء الإداري بدون احترام لأي ضوابط أو لوائح أو قوانين منظمة وموضوعة لكي يكون الأداء على الوجه الأكمل" ومن أسباب هذا التسيّب الإداريّ الذي أصاب مؤسساتنا، غيّاب العدل في التسميّات والترقيّات، فكثيرا ما يهضم حقّ العمّال الأكفّاء في الترقيّات من رؤسائهم المباشرين، ويقدّم عليهم أصحاب النّسب والحظوة الحزبيّة و تجّار التملّق و "التّقفيف" - وقد رأينا من غيّاب العدل في مؤسّساتنا عمّالا انتدبوا بصفة أعوان، وتحمّلوا مسؤوليات إداريّة بصفة غير رسميّة و غير قانونيّة، وتتلمذ علي أيديهم من هم اليوم رؤساء مصالح، وقدّموا للإدارة الكثير من المصالح، وغادروها إلى التّقاعد مجرّد أعوان عاديّين- لذلك عمّت الفوضى واللامبالاة في العمل، فالعامل التونسي كما تقول الإحصائيّات يعمل في أقصى الحالات ثلاث ساعات في اليوم من مجموع ثمان ساعات، وقد ساد التسيّب في أوقات العمل في جلّ المؤسسات العموميّة، فالعامل الذي يباشر عمله في الثّامنة صباحا نراه يلتحق بعمله في كثير من الأحيان بعد ساعة أو ساعتين، أو أكثر، ولا يجد في ذلك غضاضة أو إخلالا بمواثيق العمل، وقد عاينت ذلك التسيّب في مؤسّسة نقل كبيرة، كنت عملت بإدارتها في السّبعينات الميلاديّة، وكانت تتميّز في تلك الفترة بالانضباط واحترام العملة لأوقات العمل و"الدوام"، وسرعة إسداء خدماتها للحر فاء، وأذكر أنّي في أثناء فترة تربّصي بتلك المؤسسة قد حفظت عن ظهر قلب جميع القواعد السلوكية في العمل النافع للمجتمع، وقواعد السلوك الحضاري لمعاملة المسئولين والحر فاء ممّا ورثناه من كتب عن الإدارة الفرنسيّة في تلك المؤسسة ومازلت إلى الآن أتذكّر قاعدة من تلك القواعد الأساسيّة " L'agent doit traiter les voyageurs et le public avec empressement et politesse " "على عون النقل أن يعامل المسافرين وعامة الناس باحترام ويقدم لهم الخدمات بسرعة"، دخلت في ذلك اليوم الأغرّ تلك المؤسسة التي غادرتها منذ ما يقرب من أربعين عام، وسألت البوّاب عن صديق لي أيّام الدراسة يعمل بها لعلّه يساعدني في الحصول على مذكّرة العمل للفترة التي عملتها في تلك المؤسسة في السبعينات، وفي أقرب الأوقات لأقدّمها مع ملفّ مطلبي للحصول على التقاعد - لعلمي أنّ الوساطة في بلادنا هي وحدها حلاّلة الأبواب وقاضية الحاجات بعد الله سبحانه وتعالى طبعا- وكانت السّاعة آنذاك تشير إلى التّاسعة صباحا فأجابني البوّاب بأنّ صاحبي لم يلتحق بعد بمكتبه، وقال لي : أنتظره قليلا فسوف يأتي، وانتظرت واقفا أمام الباب الخارجي لمقرّ الإدارة أترقّب مجيئه بفارغ الصّبر، وقد بدأت وفود العملة والعاملات آنذاك تأتي بين النصف الساعة والأخرى، إلى حدود العاشرة والنصف، عندها توقّفت حركة الدّخول، وبدأت حركة خروج العملة تنساب في اتجاه المقاهي القريبة من مقر الإدارة، عندها أيقنت أنّ صاحبي لن يأت لذلك قرّرت أن أقدّم مطلبي إلى الإدارة المهتمّة بنهاية الخدمة بدون واسطة من أحد، وعلى الله توكّلت، فتقدّمت من البوّاب وسألته عن المسئول عن هذه الإدارة، فقال لي : عليك بالسيّد الهادي الشّريف بالطّابق الثّاني، فصعدت إليه وأنا أمنّي النّفس أن أجده من جيلي قد تشرّب مثلي قواعد إتقان العمل، والإسراع في إسداء الخدمات للوافدين عليه، اهتديت إلى مكتبه من باب الصّدفة حين سألت كاتبته عنه، فقالت لي : هذا مكتبه، ولكن لا يأتي في هذا الصباح، فهو مسترخص فعد إليه في المساء تجده، وسألتني عن حاجتي إليه، فقلت لها : زميل لكم في السّبعينات الميلادية، و هذه بطاقة خلاص أجر لي، وأريد مذكّرة أجور لتلك الفترة لألحقها بملفّي المهني للحصول على التقاعد، وأنا أحتاجها في أقرب الأوقات، وتناولت البطاقة من يدي وتفحّصتها، وقالت لي أنت عملت في صفاقس، وملفّك في صفاقس، ولا يمكنك أن تحصل على المذكّرة التي تحتاجها إلاّ من إدارتنا بصفاقس، فرجوتها أن تجتهد قليلا، وقلت لها بأنّ زميل لي في تلك الفترة انتدبنا معا، وغادرنا معا، قد تسلّمها من عندكم في مدّة غير بعيدة، عندها ذهبت لغرفة مجاورة وعادت بسرعة لتقول لي: بأنّها فعلا وجدت ملفّ زميلي ولم تجد ملفّي وقالت لي بإمكانك أن تعود مساء إلى السيّد الهادي الشريف لعلّك تجد عنده الحلّ لمشكلتك