عاجل/ شبهات تلاعب بالتوجيه الجامعي..تطورات جديدة..    عاجل/ خبير بيئي يفجرها ويكشف: مصب برج شكير كارثة..وعمره الافتراضي انتهى..!    ديوان التونسيين بالخارج ينظم الخميس 7 اوت الندوة الاقليمية الثالثة لاصيلي ولايات ولايات القصرين و سليانة القيروان و سوسة والمنستير و المهدية    وزارة الأسرة تؤمن مواكبة 1200 من الأطفال فاقدي السند ومكفولي الوزارة للعرض التّرفيهي La Sur la route enchantée    الحماية المدنية: إطفاء 105 حريقا خلال ال24 ساعة الماضية    طلاب روس يبتكرون عطرا فريدا بمساعدة الذكاء الاصطناعي    صيف 2025 السياحي: موسم دون التوقعات رغم الآمال الكبيرة    عاجل/ تحذير من مياه الشرب المعلبة عشوائيا..    خطير/ حجز 7 آلاف رأس خروف في محل عشوائي..وهذه التفاصيل..    استشهاد 56 فلسطينيا برصاص الاحتلال خلال بحثهم عن الغذاء    عاجل/ ارتفاع ضحايا التجويع في قطاع غزة إلى 180 شهيدا..    7 قتلى خلال أعمال شغب في سجن بالمكسيك    وفاة الممثلة الأمريكية 'لوني أندرسون' بعد صراع مع المرض    الألعاب الأفريقية المدرسية: تونس في المرتبة الثالثة ب141 ميدالية    إنتقالات: الناخب الوطني السابق يخوض تجربة إحترافية جديدة    النادي الإفريقي: اليوم العودة إلى التحضيرات .. إستعدادا لأولى الجديات    طقس اليوم.. انخفاض طفيف في درجات الحرارة    عاجل/ الحماية المدنية تحذر من السباحة اليوم..    بنزرت: وفاة 4 أشخاص غرقا في يوم واحد    "روبين بينيت" على ركح مهرجان الحمامات الدولي: موسيقى تتجاوز حدود الجغرافيا وتعانق الحرية    وزارة الأسرة تؤمن مواكبة 1200 طفل من فاقدي السند ومكفولي الوزارة عرض La Sur la route enchantée ضمن الدورة 59 لمهرجان قرطاج الدولي    إصابة عضلية تبعد ميسي عن الملاعب ومدة غيابه غير محددة    تأجيل محاكمة طفل يدرس بالمعهد النموذجي بعد استقطابه من تنظيم إرهابي عبر مواقع التواصل    عبد السلام ضيف الله: أحمد الجوادي بطل ما لقاش بش يخلّص نزل اقامته بسغافورة    فيديو -حسام بن عزوز :''الموسم السياحي يسير في الطريق الصحيح و هناك ارتفاع إيجابي في الأرقام ''    البحر ما يرحمش: أغلب الغرقى الصيف هذا ماتوا في شواطئ خطيرة وغير محروسة    خزندار: القبض على عنصر إجرامي خطير متورط في عمليات سطو وسرقة    جريمة مروعة: امرأة تنهي حياة زوجها طعنا بالسكين..!!    عاجل: مناظرة جديدة لانتداب جنود متطوعين بجيش البحر... التفاصيل والتواريخ!    قرارات عاجلة لمجابهة انقطاعات مياه الشرب بهذه الولاية..    عاجل: الكاف يرفع جوائز الشان ل10 ملايين دولار وفما فرصة للتوانسة!    جريمة مروعة تهز دمشق: مقتل فنانة مشهورة داخل منزلها الراقي    تحذير طبي هام: 3 عناصر سامة في بيت نومك تهدد صحتك!    ترامب: الغواصتان النوويتان اللتان أمرت بنشرهما تتموضعان في "المكان المناسب"    عاجل/ مقتل فنانة خنقا في عملية سطو على منزلها…    الصولد الصيفي يبدا نهار 7: فرصة للشراء ومشاكل في التطبيق!    وزير السياحة يعاين جهود دعم النظافة بجزيرة جربة ويتفقد موقعا مبرمجا لاقامة مدينة سياحية ببن قردان    عاجل: تسقيف أسعار البطاطا والسمك يدخل حيّز التنفيذ    عرض "خمسون عاما من الحب" للفنانة الفرنسية "شانتال غويا" في مهرجان قرطاج الدولي    نشطاء إسرائيليون يعرقلون دخول المساعدات إلى غزة    من بينها السبانخ.. 5 أطعمة قد تغنيك عن الفيتامينات..تعرف عليها..    القناوية... فوائد مذهلة في ثمرة بسيطة... اكتشفها    مهرجان الفنون الشعبية بأوذنة: الفنان وليد التونسي يعود للركح ويستعيد دفء جمهوره    اعلام من باجة...سيدي بوسعيد الباجي    تاريخ الخيانات السياسية (35): المنتصر يقتل والده المتوكّل    يحدث في منظومة الربيع الصهيو أمريكي    مصب «الرحمة» المراقب بمنزل بوزلفة .. 130 عاملا يحتجون وهذه مطالبهم    أيام قرطاج السينمائية تكرّم الراحل زياد الرّحباني في دورتها المقبلة    العهد مع جمهور الحمامات ...صابر الرباعي... يصنع الحدث    واقعة قبلة الساحل تنتهي بودّ: اتصال هاتفي يُنهي الخلاف بين راغب علامة والنقابة    منظمة الصحة العالمية تدعو إلى إدماج الرضاعة الطبيعية ضمن الاستراتيجيات الصحية الوطنية وإلى حظر بدائل حليب الأم    لماذا يجب أن ننتبه لكمية السكر في طعامنا اليومي؟    المنتخب المغربي للاعبين المحليين يفتتح "الشان" بالفوز على أنغولا    هكذا سيكون الطقس هذه الليلة    عاجل : أحمد الجوادى يتألّق في سنغافورة: ذهبية ثانية في بطولة العالم للسباحة!    اعادة انتخاب عارف بلخيرية رئيسا جديدا للجامعة التونسية للرقبي للمدة النيابية 2025-2028    ما ثماش كسوف اليوم : تفاصيل تكشفها الناسا متفوتهاش !    شائعات ''الكسوف الكلي'' اليوم.. الحقيقة اللي لازم تعرفها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإرهاب الفكري بين الشرق والغرب :محاكمة غاليلي وابن رشد نموذجا
نشر في الحوار نت يوم 05 - 02 - 2014

« الكرامة هي الملاذ الأخير لمن جار عليه الزمن» ماكس فريش: مسرحي و روائي ألماني

بات معلوما لدى الجميع أنّ إرهاب الغرب الإستعماري الدموي قد طال البشر والحجر في كل مكان من العالم. فقتل الإنسان وحاول تقويض وتدمير الحضارة التي يعاديها، وانتهى به الأمر خلال القرن الماضي إلى أطلاق القنابل النووية في هيروشيما و ناغازاكي، ومع مطلع هذا القرن إلى تدمير كل من أفغانستان والعراق ذي الحضارة السومرية التي هي أقدم الحضارات. ولكنّه لم يكن إرهابا فكريّا بالأساس، رغم وحشيّته وبربريّته و تسبّبه في الحربين العالميتين الأولى و الثانية اللتين كان من نتائجهما قتل ما يزيد عن 82 مليون نسمة، و تسبّبه قبل ذلك في مقتل حوالي 20 مليون من السكان الأصليين الاستراليين، و أكثر من 150 مليون هندي أحمر في الأمريكيتين الشمالية والجنوبيّة، و استعباد أكثر من 180 مليون أفريقي، بل وإلقاء 88٪ ممن قتلوا من بينهم في المحيط الأطلسي. ذلك أّنّه لم يطل العلم و الفكر والإبداع سواء بالمصادرة أو بالمنع ولا المفكّرين الأحرار بالمضايقة أو الإهانة أو التهميش والتنكيل إلّا في حالات-ليست نادرة- ولكنّها قليلة وقليلة جدّا بالقياس لمثيلاتها في الوطن العربي والإسلامي. ولعلّ أشهر هذه الحالات على الإطلاق هي الحادثة الشهيرة لمن سمّاه اينشتاين "أبو العلم الحديث" الفلكي والفيزيائي الإيطالي الجريء غاليليو غاليلي التي سنأتي عليها فيما بعد.
ولكن، لعلّه يكون من المفيد التذكير ببعض حالات الإرهاب الفكري القليلة التي عاشتها أوروبّا والغرب عموما، والتي كانت آخرتها حادثة إعدام أنطوان لافوازييه أكبر عالم فرنسي في زمانه و أبو الكيمياء في العصر الحديث، خمس سنوات فقط بعد الثورة الفرنسيّة.
وقبل ذلك بقرون عديدة أعدم سافنو رولا حرقا في فلورنسا سنة 1498 جرّاء نقده اللاذع لكل من رجال الدين والسلطة الحاكمة. وبعد أكثر من قرن أحرق في ساحة روما سنة 1600، الفيلسوف المجدّد جيوردانو برونو جرّاء صموده وتمسّكه بآرائه وأفكاره ذات النزعة التجديدية التي تناقض قناعات الكنيسة وطروحاتها إن في الدين أو في العلم.
أمّا السجن فقد كان من نصيب المفكّر فولتير الذي اعتقل في سجن الباستيل الشهير وأطلق سراحه بعد موافقته على النفي إلى إنجلترا. وأمّا المطاردة فقد كانت من نصيب الفيلسوف جون جاك روسو. وذلك بعد أن أصدر برلمان باريس حكما في حقّه بالسجن وإحراق كتابه "إميل" Emile ou De l'éducation الذي يبحث في فن تكوين الرجال. وهو من الكتب الاكثر قراءة في المجال التربوي إلى اليوم.
وبالعودة إلى غاليلي الذي أعتبرته الكنيسة مهرطقا، فإنّ محنته أنطلقت بعد قيامه بإثبات خطأ نظرية أرسطو حول الحركة، وهي التي سادت على مدى عشرين قرنا. فضلا عن نشره على نطاق واسع لنظرية نيقولا كوبرنيك حول مركزيّة الشمس، والدفاع عنها بقوّة وشجاعة كانت تعوز كوبرنيك نفسه باعتباره كاهن كنيسة وليس عالما فحسب. وبصفته تلك لم يكن بإمكانه الإعلان جهرا عن مخالفته الكنسية فيما كانت تعتقده منذ 12 قرنا خلت. ووفق المؤرخ جاكوب برونسكي: «كان من تأثير محاكمة غاليليو انتقال الثورة العلمية من الآن فصاعدا إلى أوروبا الشمالية». بما يعني أنّ الإرهاب الفكري الذي سلّط على غاليلي كانت نتائجه عكسيّة وساهم بفعاليّة، بل و لعب دورا محوريا في نهضة أوروبّا والغرب عموم. ولذلك إعتبر غاليلي أحد خمسة علماء، من بينهم كوبرنيك و كبلر و براهه و نيوتن، كان لهم الفضل الكبير في نقل أوروبا من حالة السبات العميق الي مرحلة النهضة التي طالت كل مجال. لأنّهم، بما توصّلوا إليه من أفكار علميّة ورؤى جديدة، أحدثوا رجّة عنيفة في العقول هي أقرب إلى الصدمة الإيجابيّة التي كان من أهمّ نتائجها التحوّلات السياسيّة والاجتماعيّة التي حدثت في أوربا خلال القرنين 15 و 16 والتي مهّدت لا فقط لبروز فلاسفة عظام مثل رينيه ديكارت زعيم مذهب العقلانية في القرن17 وباروخ سبينوزا الذي يرى أنّ «أهواء الإنسان الدينيةّ والسياسيّة هي سبب بقائه في حالة العبوديّة»، بل وكذلك لبروز فلاسفة عصر الأنوار الأنجليز توماس هوبز وجون لوك وربّما الصحفي والثوري توماس بينThomas Paine و فلاسفة التنوير الفرنسيين وأهمّهم مونتسكيو ، فولتير وجون جاك روسو خلال القرنين17 و18، والذين مهّدوا بدورهم لإعلان إستقلال الولايات المتّحدة الأمريكيّة و تفجير الثورة الفرنسيّة العظيمة التي قامت على مبادئ لا تزال تحتفظ بألقها رغم مرور ما يزيد عن قرنين وعشريتين على وضعها. ولعلّ أبرزها مبادئ حقوق الإنسان والمواطنة وما رمز له شعار الثورة الفرنسية من وجوب ضمان "الحرية والمساواة والعدالة" للجميع والإلتزام بتطبيق العقد الإجتماعي الذي يصل الحاكم بالمحكوم وفق مضمون نصوصه.
ما يستثير في خواطرنا الكثير من الشجون، أنّنا في العالم العربي والإسلامي، ومنذ القرون الوسطى وتحديدا بعد سقوط غرناطة، أعوزتنا القوّة، قوّة الحديد والنار فأسقط في يدنا في مجال إرهاب القوّة الممارس على الخارج، وتركّز إرهابنا بصفة خاصّة ومكثّفة على ممارسة الإرهاب على الدّاخل ممثّلا في القمع والإ رهاب الفكري المنظّم والممنهج، المسلّط على صفوة المفكّرين الإحرار، من عرب ومسلمين، ممّن كان لهم أفكار حرة وآراء جريئة ومواقف مستقلة نضجت من خلال تناولهم نقد موضوعات فلسفيّة أو دينيّة أو حتّى أدبيّة وفق منهج مستحدث يفرز بالضرورة مباحث وأفكار ورؤى جديدة تدكّ أعماق العقول المتكلّسة دكّا عنيفا، لأنّها تتخطّى السياقات المعهودة وتخترق الزمان والمكان وتتجاوز المسكوت عنه ثمّ تكشفه وتعرّيه تماما. بما يزعج من تعوّدوا، على عدم التفكير-وهم كثر- أو في الحدّ الأقصى على التفكير التقليدي، بما هو جمود يزلزل كياناته القائمة ويحدث فيها شروخا، كلّ فكر يخرج عن السائد ويفرز تصدّعات في خرسانة التفكير التقليدي المتكلّس التي يتحصّن خلفها التقليديون "الجامدون" غائمي الرؤية، المتعوّدون على "طاحونة الشيء المعتاد" ، الذين يمثّلون دوما عوائق كأداء في سبيل التغيير نحو الأفضل، ويصيبهم كلكل من اليأس والإحباط كلّما برزت على السطح فكرة جديدة ومختلفة تقوّض مسلّماتهم وأفكارهم بالغة الرجعية التي يقتاتون منها على الموائد الفاخرة لأسيادهم الذين لا يستحقّون الوضع الذين هم فيه ولا حتّى مجرّد الألقاب التي تضفى عليهم. بل إنهم عبيد لآرائهم ولا يعتقدون في نسبية الحقيقة العلمية. لذلك ينطبق عليهم ما قاله توماس بين من أنّ « من ينكر على الآخرين حقهم في إبداء رأيهم إنما هو عبد لرأيه الحالي لأنه يسلب نفسه حق تغيير هذا الرأي»
والتركيز على الإرهاب الفكري عند العرب لا يعني بالضرورة غياب جميع أشكال الإرهاب الأخرى، بقدر ما يعني إحتلال الإرهاب الفكري لموقع الصدارة في ترتيب صنوف الإرهاب و ضروبه المختلفة.
أنّنا عند إستحضارنا و إستبطاننا لتاريخنا نقف، قطعا، على صور رهيبة كثيرة من فضاعات الإرهاب الفكري المسلّط عبر العصور على أصحاب الرؤى الثورية الحرّة والأفكار الجديدة الذين كان حالهم كمن يصرخ في صحراء ولا أحد يسمعه. إلّا انّنا لضيق المجال سنقتصر على عرض محنة ابن رشد فحسب بعد الإشارة-ودون توسّع- إلى حالات قليلة أخرى تعود بالأساس إلى التاريخ المعاصر والحديث.
فقد كانت مأساة ابن المقفّع الذي ينتمي فكريّا إلى فرقة ''إخوان الصفاء وخلاّن الوفاء'' لمجرّد كتابة مخطوطة كانت سببا في تقطيع جسده الذي أكره على أكله مشويًّا حتى مات وهو في مقتبل العمر، ولم يتجاوز السادسة والثلاثين.
ولقي الحلّاج بعد تكفيره، مصيرا مشابها، حيث تمّ صلبه حيًّا، وفي مرحلة ثانية وقع تقطيع جسده هو الآخر، لأنّه هو وابن العربي الذي كفّروه أيضا، يعتقد بِحُلُولِ اللَّهِ فِي الْبَشَرِ وَاتِّحَادِهِ بِهِ.
أمّا البيروني، الذي أطلق اسمه على بعض معالم القمر، وقال عنه المستشرق سخاو: « إن البيروني أكبر عقليّة في التاريخ»، فقد تمّ تكفيره بعدما ناقش مسألة تكوين مرصد للتنبّؤ بأحوال الطقس. ضرورة أن ذلك من اختصاص الله وحده !!!
وأمّا فيلسوف الأدباء أبو حيّان التوحيدي، الكاتب المعتزلي المبدع، فقد اتّهم بالزندقة والإلحاد لقوله بالتعطيل-وهو النفي والإنكار- فأحرق كتبه بنفسه نتيجة الأحباط ، بعد أن تجاوز التسعين من العمر وعاش بقيّة أيامه مستترا خوفا من القتل.
وأمّا عميد الأدب العربي طه حسين- فقد كفّروه ، لما ورد في كتابه "في الشعر الجاهلي''. لأنّ التكفيريين رأوا فيه محاولة للاعتداء على التراث العربي الإسلامي وزرع الأساطير والشبهات في قلب السيرة النبويّة لتلويثها بعد أن نقّاها مؤرخو الإسلام!!!
وأمّا في التاريخ الحديثّ فلا يمكن تجاوز محنة الباحث الأكاديمي نصر حامد أبى زيد، ، فهي جاءت بعد تكفير فرج فوده وقتله، وإثر محاولة نصر حامد، ممارسة الفكر النقدي العلمي الخالص، بتأليفه لكتاب ''نقد الخطاب الديني'' الذي رأى أنّه يخلط ما بين الديني والفكري و يعتمد على آليّة النقل ، دون تدبُّر وتفكُّر؛ بما يناهض الإبداع ويسبّب العقم الفكري. كما دعا إلى وجوب التحرّر من سلطة النصّ القرآني و من كل سلطة تعوق مسيرة الإنسان. فوقع اتهامه بالارتداد والإلحاد، ثمّ وقع التفريق بينه وبين زوجته قسرا.
وفي ذات السياق نذكر علي عبد الرّازق صاحب كتاب ''الإسلام وأصول الحكم'' الذي كفّروه وسحبوا منه شهادته العلميّة وقطعوا عنه راتبه كموظّف، ومحمود محمد طه وهو مفكّر إسلامي سوداني، أتهم بالردّة ثمّ أعدموه رغم سنّه المتقدمة ، وابن الرواندي صاحب كتاب "فضيحة المعتزلة" ردا على كتاب الجاحظ "فضيلة المعتزلة'' الذي كفّروه بعد تشيّعه ثمّ خروجه عن الإسلام، وكذلك المفكّر حسين مروة الذي قتلوه، ومحمد عبده ورفاعة الطهطاوي اللذان كفّروهما واتهموهما بأنّهما عميلان للغرب. أمّا على الوردى وعلى شريعتي، اللذان نقدا الدّين والأنبياء وأصناف من رجال الدين، ودعيا إلى ثورة في الفكر الإسلامي فقد أعتبروهما تنويريين ووقع تكفيرهما بتلك "التهمة"!!!
ناتي الآن إلى الفيلسوف إبن رشد، الذي كتب المستشرق الإسباني البروفيسور ميغيل هرنانديز يقول في شأنه « إن الفيلسوف الأندلسي ابن رشد سبق عصره، بل سبق العصور اللاحقة كافة، وقدم للعلم مجموعة من الأفكار التي قامت عليها النهضة الحديثة ». لأنّه يعتبر-عن جدارة- أفضل فيلسوف أنتجته الحضارة العربيّة الإسلاميّة على مدى تاريخها المديد. فهو قامة علميّة عالميّة سامقة. أثّر في العالم الإسلامي والمسيحي وأوروبا، لا سيما أنّه المترجم و الشارح الأكبر لنظريات أرسطو. وهو أبرز المنتقدين لزعيم المتكلمين الامام أبو حامد الغزالي الذي كفّر فلاسفة الإسلام في كتابه تهافت الفلاسفة الذي شرح فيه تناقض منهجهم. فردّ عليه إبن رشد منتقدا في كتاب (تهافت التهافت) الذي أكّد فيه على الاعتراف بحق الاختلاف وبالحق في الخطأ. وأمّا محنته‏ فكانت على خلفيّة اتهامه بالكفر والضلال والمروق عن الدين. وذلك بمجرّد وشاية من خصومه أفضت إلى محاكمته. حيث لعنه الحاضرون من كبار القوم. ثمّ تمّ إخراجه من المحكمة على حال سيئة، ونفيه إلى قرية لا يسكنها غير اليهود. ليس هذا فحسب، بل أمر الخليفة المنصور بحرق جميع مؤلفاته الفلسفية وبمنعه من الاشتغال بالفلسفة والعلوم ما عدى الطبّ.
إلّا انّ السبب الحقيقي للمحاكمة كان في جوهره على خلفيّة موقفه من فقهاء عصره / أهل النقل الذين قال عنهم: « ظاهر من أمرهم أن مرتبتهم مرتبة العوام و أنّهم مقلدون. و الفرق بين هؤلاء و بين العوام أنّهم يحفظون الآراء الّتي للمجتهدين فيخبرون بها العوام من غير أن تكون عندهم شروط الاجتهاد, فكأن مرتبتهم في ذلك مرتبة الناقلين عن المجتهدين ». كما كان بسبب تأكيد ابن رشد على أن الأرض كرويّة. وبصفة خاصة على موقفه المتميّز من قضيّة العلاقة بين الدين والفلسفة أو الشريعة والحكمة من خلال كتابه (فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال). حيث يقول أن « لا تعارض بين الدين والفلسفة، وإذا كان هناك من تعارض فالتعارض ظاهري بين ظاهر نص ديني وقضيّة عقليّه ونستطيع حلّه بالتأويل...». ومن هذا المنطلق فهو يرى أن الشرع أوجب ليس فقط النظر بالعقل في الوجود بل أوجب كذلك دراسة المنطق. ويرى أيضا «أنّ القضايا البرهانيّة العقليّة هي حقّ، وما نطق به الشرع حقّ، والحقّ لا يضاد الحقّ بل يؤكّده ويشهد له»، بما يعني أنّ الحكمة (الفلسفة) والشريعة (الدين) لا يتناقضان كما ذهب الغزالي إلى ذلك في "تهافت الفلاسفة " الذي شكّل في تقديري تكريسا للإنغلاق ومصادرة للرأي الآخر . ذلك أنّه بموت إبن رشد -وياللأسف- انتصرت مدرسة النقل لزعيمها "حجّة الإسلام" الغزالي، و"العالم الأوحد"، كما يلقّبه مريدوه، نهائيّا، على المنهج العقلي الذي مثّله ابن رشد ، باعتباره كاد يؤلّه العقل رغم تديّنه الشديد..وكان من نتائج ذلك أن أغلق باب الاجتهاد، واستسلم المسلمون لنوم عميق، ما زالوا يغطّون فيه إلى اليوم. فلعلّهم استمرؤوه.
ورغم محنته، فقد ظلّ ابن رشد، مبتدع مذهب "الفكر الحر" كما قيل عنه، رغم أسبقيّة أبي بكر بن الصائغ (ابن باجة) الذي يعود له الفضل في تحرر الخطاب الفلسفي وتلميذه ابن طفيل ، شامخا بفضل حرّيته الفكريّة واستقلاليته وعدم تبعيّته لأحد، بما ينطبق عليه قولة فريدريك نيتشه « امتياز امتلاك المرء لنفسه لا يقدر بثمن». و لذلك فقد قال ابن رشد عند موته كلمته المأثورة في ذات السياق «تموت روحي بموتِ الفلسفة». لكنّ ما حصل هو العكس تماما. إذ أنّ الفلسفة الإسلامية هي التي ماتت بموت روحه. فهو دون شكّ أخر فيلسوف مسلم.
وما يمكن إستنتاجه من محاكمة كل من إبن رشد وغاليلي أن تداعياتهما كانت متناقضة وأثّرت على مسار التاريخ في الشرق والغرب. فقد أدّت محاكمة ابن رشد إلى أفول الفلسفة الإسلاميّة و بداية تخلّف وانحطاط العالم العربي والإسلامي الذي لا يزال متواصلا إلى اليوم بشكل جنوني، لاسيما من خلال سعي المتشدّدين، الذين يحنّون إلى تطبيق أحكام الردّة في غير سياقها الموضوعي، إلى إرساء الدولة الدينيّة لإرهاب البشر واسترقاقهم باسم الدين. بما يذكّرني بمقولة فريدريك نيتشه « أشعر كلما تعاملت مع رجل متدين بالحاجة إلى أن أغسل يَدَيّ». بينما ساهمت محاكمة غاليلي بشكل محوري في قيام نهضة أوروبّا والغرب عموما، وبروز فلاسفة عصر الانوار وقيام الثورة الفرنسيّة وتكريس قيم الديمقراطيّة والمواطنة واحترام حقوق الإنسان عبر إرساء الدولة المدنيّة الحديثة التي حرّرت الإنسان من عقاله وفجّرت طاقاته الكامنة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.