قد يتكلّم المرء بشيء يحسب أنّه الحقّ بل لعلّه يكون حقّا الحقّ، حتّى إذا ارتفع الصدى مرجّعا واشتكى "النّاس" الرّجع، قيل عنه زلّة لسان!... ثمّ ما يلبث القائل أن يبيت أسير زلّته حبيسها، فلا ينطق بعد ذلك بكلمة إلّا والزلّة له رقيبا، يخشى "النّاس" خشيته من مجموعته، يوشك أن يخرسوه فلا يقول ما يراه حقّا أبدا!... وفي تونس كثرت "زلّات اللسان" حسبما وصفها مقترفها أو حماة المقترف ومناصروه!... فهذا حمّادي الجبالي وهو يتكلّم في لحظة صفاء دون انتباه منه إلى أنّ الجوّ العامّ لا يسمح بالصفاء، وهو يتكلّم بصدق دون تبيّن أنّ الصدق "مهلك" للصادقين، يحكي عن الخلافة السادسة!... يتشوّق إلى قيامها، يأمل في وجود مجتمع قادر على استيعابها وبسطها... فما الخلافة في الواقع إلّا استجابة لأسباب الخلق وانسجام العبد المخلوق مع خالقه الذي بعد أن كرّمه بالعقل والتعلّق باللّانهائي دعاه والجنّ إلى عبادته، وأن يحسن في الأرض خلافته... وما الخلافة إلّا اختيار لن يُهتَدَى إليه إلّا بوجود النوع البشري الصالح الذي سوف يرقى حقّا إلى ما كان عليه النّاس زمن عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه ورحمه الله، الخليفة الرّاشد الخامس، حيث الأمن والأمان والرّفاه والصدق والفقه والفنّ النقيّ والإبداع المثري المرقّي والإنسانيّة البالغة درجة الإحسان... والمسلمون التونسيبون يدركون أنّه لا تقام خلافة بأمثالهم، إذ الخلافة تحتاج الخليفة، والخليفة لا يستورد من خارج الكوكب الأرضي أبدا... يدركون أنّه لا بدّ من العلم المرقّي والفقه المبيِّن والتقوى المقرِّبة من الله تعالى والتعرّف المشيع للمحبّة بين النّاس، وهي عناصر لم تتوفّر بعد حتّى يتكلّم هذا أو ذاك عن الخلافة!... ومع ذلك فالحديث عنها (الخلافة) كمشروع قد يتحقّق بعد عقود أو أجيال حديث طيّب يستسيغه المسلمون ويرغبون فيه ولا ينكرونه ولا يعاملون الخائض فيه بالمنكر كما فعل الشواذ من التونسيين، أولئك الذين كرهوا الإسلام وكرهوا المرسِل والمرسَل به على حدّ السواء!...
وهذا الباجي قائد السبسي يصف أناسا عرفهم أكثر من غيره لكثرة ما تعامل معهم أو أعملهم في رقاب النّاس، بال"قرودة" فيثوروا ثورة ظرفيّة تجعله أو تجعل حاشيته تصف ذلك ب"زلّة لسان"، ثمّ سرعان ما تخفت العاصفة، وينطلق الباجي - كما لم تكن له زلّة - سياسيّا محنّكا لا يشقّ له غبار وصاحب خبرة لا توقعه في محظور أبدا!... ما يلفت إلى التفاوت بين زلّات اللسان والتفاضل بين أصحابها!... فليست الخلافة كالقردة وليس القرّاد كمنشد الخلافة!... حتّى ليتمنّى البعض أن يُسيَّروا جميعا قردة للباجي دون أن يكونوا أعضاء صالحين في خلافة الجبالي!...
والذي يمكن الفصل فيه، أنّ زلّة اللسان هي لا محالة جزء ممّا ترجم به اللسان الذي هو ترجمان القلب أو وسيلة المرافعة والمناورة بما يرغب في تحقيقه القلب!... ولكنّ الزلّة كاشفة أيضا عن مستوى المجتمع الذي تحدث فيه هذه الزلّات!... فإنّ كلمة حمّادي الجبالي (الخلافة) ما كانت لتصنّف زلّة لسان لولا مقاومة الشواذ لهذه المصطلحات الدّينيّة بل للدّين جميعا ولولا عدم ثبات أهل الحقّ وعدم فقه المجتمع وغربة المصطلحات التي حجبها الظلمة عن الأذهان طويلا. وإنّ كلمة الباجي قائد السبسي ما كانت لتُنسّى بسرعة عجيبة لولا فساد الأخلاق وشيوع عدم احترام الآخر بل وقابليّة الآخر للاعتداء عليه بما لا تقبله القردة نفسها!...
وبهذا التحليل فإنّي أحسب أنّ "زلّة اللسان" سوف تقلّ أو هي تنعدم إذا ما مرن اللسان على الحقّ وإذا ما صلح المجتمع وارتقى وقبل أقصاه أدناه، وإذا ما - وهذا هو الأهمّ - كانت في المجتمع مروءة تحرّض على النّطق بكلمة الحقّ وأخرى تحرّض على القبول بها. ولن يكون ذلك كذلك إلّا إذا كنّا مجتمعا يخاف الله تعالى، ويعمل أفراده للصالح العامّ بثقة توفّرها المحبّة بين النّاس وعفويّة يسندها التعارف بينهم وتعرّف بعضهم على بعض!...