كنا في الشهر الثالث للثورة (افريل 2011) وكان الصادق شورو ,الوجه السلفي المعروف , يجلس وقتها الى جانب السلفي الجهادي أبو عياض في منصة واحدة , عندما بشرنا القيادي النهضوي الذي اصبح فيما بعد عضوا في المجلس التأسيسي بأننا نعيش في فترة صلح الحديبية! وهذا الصلح منسوب الى قرية الحديبية في شمال مكة وبمقتضاه عقدت هدنة بين المسلمين وكفار قريش مدتها عشر سنين كفت فيها الدماء بين الطرفين! لم تمض بضعة أشهر على "هدنة " الصادق شورو حتى جاءنا أول رئيس حكومة نهضوي، ونعني حمادي الجبالي، ليبشرنا بالخلافة السادسة في اجتماع جماهيري مع انصار حركة النهضة في مدينة سوسة. نتذكر جيدا ان كل أطياف الاحزاب السياسية ادانت وقتها "زلة لسان" المهندس حمادي. ثم وصلت حركة النهضة الى الحكم وتواصلت "زلات" لسان القيادات النهضوية فصعق التونسيون بتهديد الصادق شورو , صاحب "صلح الحديبية" , بوعيده بتطبيق "حد الحرابة" والذي يعني قطع اليد اليمنى والرجل اليسري، على التونسيين الغاضبين على الحكومة. مرة اخرى بررت قيادات نهضوية اخرى معتدلة، واعتذرت عن زلة اللسان الجديدة. و لم نكد نشرف على اتمام العامين حتى هدد الصحبي عتيق، رئيس كتلة النهضة بالمجلس التأسيسي، باستباحة الذين يفكرون في الثورة على الحكومة في شوارع تونس ! لم يتلفظ عتيق بكلمة "دم"بعد لفظ "الاستباحة" لكن لسان العرب لا يترك مجالا للشك في معنى المصطلح.(استباحة الدم) بعد أيام من استباحة الصحبي عتيق خرج علينا رئيس حركة النهضة، راشد الغنوشي ليعتذر ضمنيا للتونسيين، وليقول لنا ان تصريح "الاخ الصحبي عتيق لم يكن موفقا". لم ينتظر شيخ مونبليزير كثيرا بعد تصحيحه لزلة لسان عتيق ليزل بدوره في تظاهرة النهضة في القصبة المساندة للحكومة ليقول لانصاره المجتمعين ان تجمعهم يشبه تجمع المسلمين لفتح مكة ! هل يمكن ان نلوم قيادات حركة النهضة التي قبلت بالديمقراطية ومدنية الدولة على استعمال كل هذه المصطلحات التي تخالف كل اندماج حقيقي في منطومة حقوق الانسان وقداسة الحريات العامة والخاصة والاقرار بالقوانين الوضعية؟! كيف نفسر استعمالهم لكل هذه المفردات والمصطلحات التي تنتمي بمعيار التاريخ المقارن الى القرنين السابع و الثامن الميلادي اي تاريخيا الى القرون الوسطى التي تعرف بقرون الظلام أوربيا؟! لا حاجة الى فتح كتب عيادات الطب النفسي (الاكلينكي) أو الرجوع الى محاضرات سيغموند فرويد في التحليل النفسي لنقول بأن تكاثف الزلات الاصطلاحية ذات الدلالات الدينية عند مشايخ وقيادات حركة النهضة نابعة اساسا من اخلاصهم القوي للمرجعيات الاصولية التي ظلت متراكمة ليس في اللاشعور الجمعي للاسلاميين بدون اي مراجعة فقط بل في أدبياتهم المكتوبة أيضا التي لم تخضع الى اليوم الى اية مراجعة او نقد رغم قبول الحركة بالديمقراطية ومدنية الدولة. يكفي ان نعود الى "المحتوى التربوي للاسر التنظيمة" في كراسه الثاني الذي اصدره مكتب التربية والتكوين التابع لحركة النهضة، وهو عبارة عن وثيقة داخلية لتكوين افراد حركة النهضة والمنتمين اليها ضمن نظام "الاسر"، لنلمس كل ابجديات التكوين الاصولي الديني المخالف لمقولات الديمقراطية والدولة المدنية التي تصبح مجرد الية مرحلية للوصول الى الحكم. يتضمن الكراس عدة ابواب في تفسير القرآن والحديث من ضمنها على سبيل المثال تفسير حديث" من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" (ص 29). ثم يأتي بعدها تفسير حديث "الحلال والحرام والمتشابهات"(ص 33) كما يتضمن الكراس بابا عنوانه "التقوى أساس النصر" (ص 43) ويتضمن الكراس أبوابا أخرى اكثر ريبة من قبيل باب عنوانه "مرحلة بناء الدولة وتوطيد الاركان المكونة للمجتمع" و"الحرب الاعلامية في مرحلة الدولة"..! بعد هذا كله هل نستغرب "زلات لسان قادة النهضة" عندما نكتشف ان القاعدة المرجعية للحركة الدينية لم تراوح مكانها منذ ثلاثين سنة من تأسيسها والا بماذا نفسر تمسك الحركة بوثيقة "الرؤية الفكرية والمناهج الاصولية" التي كتبت في السبعينات ولم تخضع لاية مراجعة الى اليوم. هل تكفي الاقرارات السياسية الظاهرية فقط للحركة في اقناع التونسيين انها قبلت باللعبة الديمقراطية وقداسة الحريات العامة والخاصة؟!. الا تكون الالغام المزروعة في الدستور في تناسق باطني مع زلات اللسان ومع وثيقة الرؤية الفكرية والمنهج الاصولي والكراسات التربوية التي توزعها النهضة بين افرادها؟! رايات القاعدة السوداء التي رفرفت بين جماهير النهضة في ساحتي باردو والقصبة لم تكن الا الصورة الظاهرة السطحية لتفكير نهضوي مازال عقائديا اصوليا يؤمن بالدولة الاسلامية ويقسم التونسيين الى مسلمين وكفار ويعمل على تنزيل احكام الالهة على الارض. زلات قيادات النهضة لم تكن الا تصعيدا لاشعوريا وهفوات لما يختلج في صدور قاعدتها العريضة وما تحتويه ادبياتها وكراريسها الظاهرة والخفية. للمرة الالف نقول ان النهضة تحتاج فعلا الى عملية اصلاح شاملة تنزع عنها الجبة الاخوانية الاصولية وتقطع مع ارتباطاتها التنظيمية مع الحركات الاسلامية المشرقية المتخلفة. النهضة تحتاج الى "مشروع تونسة حقيقي" يجعلها تندمج في المجتمع التونسي و يعلن تبنيها النهائي والصريح لمقولات حقوق الانسان والدولة المدنية والديمقراطية ليس سياسيا فقط ولكن وبالاساس فكريا وهو ما يفترض مراجعة كل تراثها العقائدي الاصولي. عندها فقط سوف تختفي هفوات و زلات اللسان اللاشعورية من قبيل صلح الحديبية ..و استباحة دماء التونسيين.. وصولا اعلان الخلافة والى فتح مكة!