السياسة كما هو معروف هي التصرف في الشأن العام والبحث عن حلول ممكنة لمشاكل المجتمع والدولة ضمن ضوابط دستورية وقانونية وليس في مقدور أي كان أن يتحمل هذه المسؤولية وهو لا يحذق هذا الفن النبيل بكل تجرد وحنكة ومعرفة ونكران الذات والتضحية الممزوجة بفرحة الانجاز وتحقيق الغايات. والفعل السياسي يختلف حسب النظام القائم بكل دولة وحسب نضج ووعي المواطن وتجذر الحريات الفردية والجماعية وتطور المجتمع المدني والنخب ومستوى الديمقراطية الحقيقية. فلا يمكن الحديث عن السياسة بدون وجود أحزاب وصحافة حرة ومجتمع مدني ونخب كما لا يمكن النظر لهذه المسألة في ظل حكم ديكتاتوري لا يعترف بالفكر المخالف والديمقراطية. فالسياسة هي استحقاق لتحمل مسؤولية ظرفية من أجل القيام بفعل ضروري وهادف لتحقيق منفعة عامة وهي بذلك تدخل في خانة العلوم الموضوعية ونعني بذلك لها محددات وشروط ومسار ويمكن تقييم نتائجها على أرض الواقع ولهذا سميت بالعلوم السياسية. أما في البلدان المتخلفة فالسياسة لها مفهوم آخر يتجه نحو التدجيل والخداع والمغالبة وذر الرماد في العيون للتمكن من السلطة وتحقيق غايات ذاتية والتحكم في الموارد من أجل منفعة شخصية وعائلية والسيطرة على المجتمع بالقوة والبطش باستعمال القوانين الزجرية المجحفة. والبلدان العربية قد ابتليت بهذا النوع من السياسة السلبية الذاتية التي أنتجت قهرا وظلما وبؤسا وتخلفا فأصبح المواطن مفعولا به في كل الأحوال ومجرد عالة على المجتمع فماتت في نفسه المواطنة والإبداع وأغلب شبابه يفكر في الهجرة أو الانتحار أو الضلوع في الإرهاب الأسود وتلك قمة تحطيم الذات واليأس المدمر. فالسياسة الذاتية منغلقة على نفسها نافية للآخر وقامعة للحريات وقاهرة لإرادة الوعي والفعل الإيجابي ومستحوذة على الثروة لغاية نفسها وناثرة لفتات الموارد لأشباه المواطنين المنبوذين والمهمشين قسرا والمتسولين على الأبواب والأعتاب. وهي بهذا التوصيف مولدة للاحتجاج والتمرد والثورة باستمرار مما يخلق حالة من عدم الاستقرار والاضطراب في جميع مجالات الحياة لانعدام آليات التعايش السلمي والحوار البناء والتوزيع العادل للثروة فتتفكك أوصال الدولة وتقل هيبتها في خضم الصراع على السلطة فتغدو فريسة للأطماع والعصابات ومرتعا للجريمة والإرهاب والانحدار السريع نحو الانحطاط. والسياسة كما نلاحظ يمكن أن تكون موضوعية ومنتجة للرقي الاجتماعي والتطور الاقتصادي كما يمكن أن تكون ذاتية وبعيدة عن الواقع الاجتماعي وخادمة لمصلحة القلة فتؤدي للخسران والإفلاس والاضمحلال. والصراع المحتدم الآن بين الأحزاب السياسية في تونس تتحكم في صيرورته هذه الثنائية أي بين ما هو موضوعي وبين ما هو ذاتي. فالموضوعي في السياسة هو ما يحقق المطالب الشعبية وهو التطور الاقتصادي وتنمية الجهات المحرومة، التخفيض الفعلي من نسبة البطالة، تحقيق العدالة الاجتماعية و تجذير الحريات والديمقراطية. أما الذاتي في السياسة فهوالتقوقع الحزبي الضيق خلف هالة الزعامات والشعارات، الانغماس الإيديولوجي البعيد عن الواقع المحلي، البحث عن تخدير الوعي الاجتماعي وتلهيته بصراعات هدامة، محاولة تفتيت ما تبقى من مؤسسات الدولة وتفكيك أوصالها، التكالب على الحكم من أجل السلطة للتحكم في الموارد وقهر إرادة الآخرين من أجل مصلحة ذاتية ضيقة. وفي خضم هذا الصراع المحموم وطول الفترة الانتقالية بحيث لم نر بعد الدخان الأبيض والاستقرار المنشود سيظل المواطن فريسة هذه التجاذبات الحزبية وحرب الزعامات والخنادق ومقدرته الشرائية تتدهور من يوم لأخر وأبناؤه يكابدون البطالة والإرهاب الأسود يقض مضجعه ليلا نهارا وحديث الساسة يكاد يفجر دماغه لغطا وطنينا مفزعا. فمن كانوا نائمين في عسل السياسة الديكتاتورية وتقديس ذات الحاكم والتمتع بريعها ولبنها كالضباع في حضيرة الثعالب في غيبة الأسود بعد أن عم القحط وهلك الزرع والضرع، لا يمكنهم اليوم بعد أن تغيرت الأزمنة والتاريخ العبور بنا نحو سياسة موضوعية معاصرة وفاعلة ومنتجة وهم يلوكون علكة ماض تم تأبينه ودفنه دون رجعة. وما على هؤلاء إلا ترك المجال فسيحا للأجيال الجديدة والخالية من العقد اللعينة والموبوءة كي نتفادى حرب الزعامات والانتقامات والضغائن الدفينة وننتقل إلى مرحلة يكون فيها الشباب عنصرا أساسيا وفاعلا والماضي عبرة حسنة ولا عنصر تلويث ومشاغبة للحاضر والمستقبل.