جاء في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم استعمل رجلا من الأسد يقال له ابن اللتبية على الصدقة فلما قدم قال هذا لكم وهذا لي أهدي لي. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال ما بال عامل أبعثه فيقول هذا لكم وهذا أهدي لي أفلا قعد في بيت أبيه أو في بيت أمه حتى ينظر أيهدى إليه أم لا والذي نفس محمد بيده لا ينال أحد منكم منها شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه بعير له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه ثم قال اللهم هل بلغت مرتين. الناس معادن مختلفة. فمنهم من يكرم الناس لغاية الكرم. ومنهم من يريد بذلك التودّد للحاكم والتفاخر بذلك أمام الناس. ومنهم من يريد شراء ذمّة الحاكم واستغلالها في قضاء حاجاته. وقبول الحاكم أو المسؤول الهديّة تحت أي مسمّى أو تحت أي عنوان لا يمكن أن يفهم إلاّ على أنّه صورة من صور الابتزاز وطريقة من الطرق لتشريع وتكريس الاستبداد كظاهرة مجتمعيّة طبيعيّة ومألوفة. ومن المعلوم لدى الجميع أنّ الابتزاز يزدهر ويستفحل في ظلّ الاستبداد الذي هو تربته الخصبة وحاضنته الدافئة، بل إنّه يعتبر وليّه الشرعي. بما يفيد وجود علاقة سببيّة قويّة بين ارتفاع نسق الاستبداد وارتفاع نسق الابتزاز والعكس بالعكس. ولمزيد التعمّق في تناول الموضوع سأعرض الى مشهدين من صميم الواقع. المشهد الأوّل : قبل حوالي عشر سنوات من الثورة التونسيّة، وفي إطار التكوين المستمرّ في عديد المجالات ذات العلاقة بالاختصاص لحقني شرف متابعة دورات تكوينية عديدة. وأثناء إحدى الدورات سألت الأستاذ الذي أمّن أغلب الدورات التكوينية أنذاك : كيف تستطيع أن توفّق في البحث في مواضيع عديدة ومتنوّعة ؟ ثمّ كيف تستطيع الإحاطة الجيّدة بها جميعا في نفس الوقت ؟ فالباحث بامكانه التخصّص في مادّة أو مادّتين وربّما ثلاث مواد ولكن ليس بإمكانه منهجيّا أن يتخصّص في أكثر من ذلك ويكون ناجعا ومفيدا لمن يتلقّون منه ؟ فأجابني بكل صراحة وقال : عندما أريد أن أبحث في أحد المواضيع أقوم بتأطير طالب من طلبتي للبحث في هذا الموضوع وأوجهه للبحث في كل التفاصيل النظرية والتطبيقية فأتمكّن بذلك من الحصول على كل المعلومات والمعطيات الخاصّة بالموضوع بكلّ يسر. وتبعا لذلك فإنّي أستطيع أن أدرّس المادّة الجديدة سواء كان ذلك في الكلّية أو في الملتقيات والدورات التكوينية الخاصّة ! ! ! وبالنتيجة، فإنّ هذا الأستاذ بدل أن يبحث في الموضوع ويضع كلّ تجربته وكلّ أبحاثه السابقة بين يدي الطالب لتكون منطلقا لأبحاث جديدة، أضحى هو من يعوّل على طلبته ويسعى إلى ابتزازهم و"بيعهم بيعا مشروطا" (أبحاث مقابل أعداد جيدة وشكر وثناء ودعم من أجل التسجيل في المرحلة الثالثة و ...). يحدث هذا، ولا يزال يتساءل البعض : لماذا تدنى المستوى التعليمي إلى أدنى مستوياته ؟ المشهد الثاني : في نهاية الأسبوع المنقضي اتصل بي صديق وقال لي : "زوجتي تعرّضت وتتعرّض باستمرار لعملية ابتزاز من طرف رئيس مركز حرس وطني بولاية منوبة". وخلاصة الموضوع أن المتضرّرة افتتحت محلّا للحلاقة والتجميل منذ ستة أشهر. ومنذ ثلاث أسابيع وردت على المحل عروس قصد الحلاقة والتجميل. وأثناء التجميل تصنّعت العروس وأختها فقدان سوار ذهب بالمحل واتهمتا صاحبة المحل بالاستحواذ عليه أو بسرقته. ثمّ قام والد العروس بافتعال صخب وشغب وهرج ومرج ("شوهة"). ولم يكتف بذلك، بل هدّد صاحبة المحل تارة بإحراق المحل وطورا بخطف أولادها الصغار إذا لم تستجب لطلبه المتمثل في تسليمه مبلغ 700دينار ثمن سوار الذهب المفقود. ثمّ تقدّم بشكوى إلى رئيس مركز الحرس الوطني. فما كان من هذا الأخير إلاّ أن انحاز إليه بالكامل، جملة وتفصيلا، وطالبها بتوفير المبلغ في أقرب وقت ممكن وإلاّ فسيتم رفع قضية ضدّها في الموضوع. وبالفعل تمّت إحالة القضية على أنظار المحكمة للتداول في شانها بتاريخ 24 جوان 2014. ليس هذا فقط بل إنّ رئيس المركز منع المتضرّرة من الذهاب إلى المحكمة بمفردها و أصرّ على أن تحضر قبل ذلك إلى مركز الحرس وبأوامر منه إقتادها البعض من أعوان مركز الحرس الوطني وكأنها مجرمة من المجرمات الكبيرات اللّائي يهدّدن الوطن. وقد قرّر القاضي تأخير القضية إلى موفى سبتمبر 2014. وعندما لم تفلح محاولات رئيس المركز و صاحبه/ شريكه في ابتزاز المتضرّرة انتقلا إلى مرحلة جديدة عنوانها القيام بقضية ثانية حيث تقدّم والد العروس بشكوى ثانية يتهم فيها صاحبة المحل بالتسبب لابنته بأضرار مادية ونفسية بالغة الخطورة لأنّ تسريحة الشعر/"المشطة" لم تكن على أحسن ما يرام ما أدّى إلى امتناع ابنته عن التقاط صور ليلة زفافها. وكنتيجة لحصول هذه الأضرار يطالب الوالد "الموقّر"/ المبتزّ صاحبة المحل بجبر الضرر المعنوي والمادي. لذلك فقد تمّ استدعاء المتهمة واستنطاقها وإيقافها على ذمّة البحث لمدّة ثلاث ساعات كاملة. ويبدو، حسب بعض المؤشّرات، أن رئيس مركز الحرس الوطني، سوف لن يكفّ عن إرهاب الضحيّة في صورة ما إذا لم تستوعب الدّرس جيّدا ولم تستجب للابتزاز. فهذه القضيّة المفتعلة، قد تكون أهمّ القضايا لديه ، إذ يبدو أنّه ليس لديه قضايا أخرى تشغله. وقد يكون من المحتمل والوارد جدّا أن يوجّه لها تهمة ثالثة في غضون الأسبوعين أو الثلاثة أسابيع القادمة. إن مثل هؤلاء كمثل الطرابلسية أصهار المخلوع، إذا أرادوا افتكاك مشروع من صاحبه أو قطعة أرض من مالكها استعملوا كل الإمكانيات وكل الطرق و الحيل حتى يخضعوا ضحاياهم للابتزاز والتسليم بالأمر الواقع. لقد أكّد لي أغلب من حدّثتهم في الموضوع، أنّ رئيس مركز الحرس المشار إليه معروف لدى الخاصّة والعامّة بأنّه رجل مرتشي وعديم الذّمّة، وهو يقتات من الرشوة ومن استغلال مصائب الناس. إنّ هذا السلوك المرضي وغير المقبول لهو بمثابة المصيبة، فنحن على مسافة ثلاث سنوات ونصف من الثورة، فكيف يعقل أن نسمح، ونحن لا نزال في الحراك الثوري، لبعض المسؤولين أن يواصلوا التفكير بهذا الشكل اللاأخلاقي وبهذا المنطق التجاري الإبتزازي المقيت من كل إنسان حرّ ؟ فالدولة تضع على ذمّتهم موارد بشرية وإمكانات مادية ضخمة لتسيير مرفقهم العام. لكنّهم بدل أن يستعملوها في سبيل قضاء حاجات الناس وتحسين الأداء والخدمات من مثل إنصاف المظلومين والضرب على أيدي المفسدين والمجرمين، فإنّهم على العكس من ذلك يستعملون كلّ الإمكانات في سبيل ابتزاز الناس وتصيّد عثراتهم والتّمعّش من مصائبهم ؟؟؟ فلا يزال بعض المسؤولين يكرهون المياه الصافية. ومثلهم كمثل بعض الكائنات الحية التي لا تستطيع العيش إلاّ في المياه الرّاكدة والمياه الآسنة ولا يحلو ويستطاب لها العيش إلاّ في ظلّ الاستبداد. لماذا ؟ لأنّ فطرتهم طمست، وقلوبهم ماتت. ودماءهم جمدت في عروقهم. للأسف، الكثير من هؤلاء لا يزالون يديرون شؤون الناس ولايزالون يبحثون لأنفسهم عن موطئ قدم رغم كلّ المتغيرات والاحتمالات. ولأننا لازلنا نعيش في الفترة الانتقالية ولازلنا نعيش في ظلّ الدولة العميقة فلا بدّ من دعم مؤسسات المجتمع المدني والعمل على إحداث المزيد منها على المستوى الوطني والجهوي والمحلّي. لأن هذه المؤسسات هي الكفيلة بتصويب البوصلة وهي القادرة على رفع علامة قف/ "STOP" وقول كلمة ارحل "DEGAGE" في وجه الأنانيين والمفسدين في الأرض والمخرّبين والمبتزّين. عن هيئة مساندة ودعم المظلومين بولاية منوبة.