ليس ثمة مذلة ومهانة أقوى من تلك التي يشعر بها مدرس اللغة الأجنبية – وكذلك الذي يتعلمها- حين يتعرض بلده أو قومه أو ثقافته إلى عدوان من طرف الناطقين باللغة التي يعلّمها للناشئة في المدرسة. إنه لمن باب العذاب السادي أن يواصل المعلم العربي تدريس اللغة الانكليزية في توقيت مثل سنة 2003 أيان عرف الوطن العربي رجة عنيفة جرّاء استعمار الولاياتالمتحدة - الناطقة بالانكليزية- للعراق الشقيق. كما إنه من باب سخرية الأقدار أن يتدافع الناشئة في المجتمعات العربية على مراكز التكوين في اللغات الفرنسية والانكليزية وغيرها ليدفعوا مبالغ طائلة ابتغاء نيل مقعد شاغر يمكّنهم من تطوير مهاراتهم اللغوية من أجل مواكبة العصر عبر اللغات الحية، بينما حكومات الشعوب الناطقة بهذه اللغات يوظفون إعلاميا لغاتهم الحيّة تحديدا لتضليل الشعوب الناطقة بها عن المجازر التي تُقترف بقرار وبتزكية من هذه الحكومات على غرار العدوان الغاشم الذي يستهدف غزة وأطفالها نساءها وشيوخها وكهولها وكرامة شعبها والبنية التحتية للبلاد في غضون هذا الشهر الحرام. فاللغة الانكليزية تُستعمل الآن كأداة لمنع كل خيط تواصلي من التشكل بين شعب مظلوم وشعوب متقدمة لكن يوعزها الإعلام المنصف والموضوعي. وبواسطة هذا اللسان يعمد تجار البروبغندا إلى التعتيم على ال 57،900 طفل طالتهم يد الغدر الصهيونية في غزة في العشرة أيام الأولى، إن قتلا أم إعاقة أم تشردا. وبواسطة الانكليزية يزوّر الإعلام التجاري حقيقة ال 22،000 متشرد في غزة و900،000 نفرا الذين لا يصلهم الماء في نفس الفترة. فبالرغم من أنّ المجتمعات الناطقة باللغات الحية قد أثبتت استطاعتها على استعمال اللغة لوصف كل مجالات الحياة مع مواكبتها للعصر إلا أنّ حكومات هذه الشعوب المتقدمة- على الأخص تلك الناطقة باللغة الانكليزية - قد تجاوزت كل الخطوط الحمراء حين سمحت لنفسها عبر ما يسمى بإعلام الشركات الكبرى بأن توظف اللغة في تعمية الرأي العام داخل بلدانها حتى لا يطلع العامة على حقيقة الجرائم التي تقترف مرارا وتكرارا في حق الشعوب المستضعفة مثل الشعب الفلسطيني. في المقابل لا أشك في أنّ هذه الشعوب الغربية، انكلوسكسونية كانت أم جرمانية أم "غولية" أم كيلتية، ستغيّر موقفها من القضية الفلسطينية وستعدل نظرتها إلى العرب والمسلمين لو يتمّ السماح للغاتهم الحية بأن تقوم بمهمتها الطبيعية والمتمثلة في تسهيل التعارف بين الأقوام والشعوب والقبائل. أما في حال يتواصل التغاضي عن هذه المهمة فيمكن القول إنّ اللغات الحية أضحت أفضل من الناطقين بها. من جهة أخرى، أعتقد أنّ الشعور بالذل والإهانة لدى معلم اللغة الأجنبية (الواعي) ومتعلمها (الواعي) قد يتقلص سرعان ما يثبت لديهما أنّ اللغة العربية هي الأخرى أفضل من الناطقين بها. فالبرغم من أنها قادرة على وصف المعارف والعلوم والتجارب والتكنولوجيا إلا أنّ العرب على العكس من ذلك لا يستطيعون إلى التوظيف الحضاري للعربية سبيلا. نحن في تونس مثلا لا نزال تحت رحمة أرباب الفضاءات التجارية الكبرى حين تعرض علينا الفواكه والخضار وهي تحمل أسماءها باللسان الفرنسي (تقريبا في كل المغازات الكبرى). ولا نزال نتبادل أرقام الهاتف بالإفرنجي، وتعيرنا كتابة الصك المصرفي باللغة العربية. للحوصلة أقول إنه مثلما يجوز القول إنّ الفرنسية أفضل من الفرنسيين والانكليزية أفضل من البريطانيين والانكليزية الأمريكية أفضل من الأمريكان، يصح أيضا التأكيد على أنّ اللغة العربية أفضل من العرب. ونخلص إلى القول إنه كما أنّ اللغات الأجنبية أحب إلى العرب من الفرنسيين والانكليز والألمان وغيرهم فإنّ اللغة العربية أحب إلى العرب من أنفسهم. كما اتضح لدي أيضا أنّ مصدر الذل والهوان إنما هو داخلي من جهة وخارجيّ من جهة ثانية لكنه في كلتا الحالتين - وربما في كل الحالات- يبرّأ اللغات ويجرّم الناطقين بها أو الحكومات التي تمثلهم. في ضوء كل ما سبق أعتقد أنّ العرب من جهتهم مطالبون بأن يرتقوا إلى مستوى لغتهم عوضا عن التمادي في تحقيرها دونما علم بأنهم هم المتسببون في تقهقرها في المجال المعرفي والعلمي والتكنولوجي وحتى المدني والثقافي.