لقد آلمني جدّ الألم مشهد امرأة في عقد الستّين من عمرها، تسكب الدموع من عينيها بغزارة، وتنتحب انتحابا، في مكتب السيد مدير تفقدية الشغل بباب بحر، و تتوّسل إليه باستعطاف كبير، أن يجد لها حلاّ لمشكلتها، فالمسكينة كما تحكي عن نفسها عملت ما يزيد عن ثلاثين عاما في قطاع التّنظيف وتجشّمت خلال تلك الفترة كلّ المصاعب، ولقيّت فيها الكثير من المصائب، و لم تحصل في نهاية مشوارها المهنيّ بعد أن غادرت على التّقاعد إلاّ على ثلاث سنوات فعليّة من العمل المصرح به و المعترف لها به قانونيّا، و الحلّ الوحيد لحصولها على الشيخوخة أن يسعفها السيّد متفقّد الشّغل بإذن بسنتين عمل إضافية، فقانون الضّمان الاجتماعي على التّقاعد عندنا لا يعترف للعامل إلاّ بالأجور التي يتجاوز معدّلها الثلاثي الأشهر المصرّح بها من طرف المشغّل ثلثي الأجر الأدنى الصّناعي المحسوب على قاعدة 48 ساعة شغل في الأسبوع، وإلاّ أسقطت بالكامل كلّ تلك الأجور، وهي مصيبة لا يصطدم بها العامل إلاّ عندما يحال على التّقاعد، فقد ظنّ المسكين طوال حياته المهنية أنّ تمتّعه بالتّغطية الاجتماعية يضمن له التمتّع بالتّقاعد المباشر أو الشيخوخة في كلّ الأحوال، وكل ما يعرفه عن التّقاعد أنّه من تحصيل الحاصل، ولم يدر في خلده في يوم من الأيام أنّ هناك قانون يسمّى بقانون الثّلثين (قانون إقصاء) قد يقصيه من التمتع بجراية التّقاعد عندما يحال علي الشيخوخة أو التقاعد، ورغم لفت نظر تفقديّات الشّغل لسلطة الإشراف لأضرار هذا القانون التعسّفي والغير إنساني في كثير من المناسبات إلاّ أنّ هذه الأخيرة لم تبدى أي تجاوب، ولم تحاول وزارة الشؤون الاجتماعية جادّة لإعادة النّظر في هذا القانون التعسّفي في حق أبائنا وأمهاتنا العاملين والعاملات، وكذلك لم تطالب نقابات العمّال إعادة النظر فيه ، وفي سنة 1996 وبمناسبة ادراج العمل الجزئي في منظومة الشغل ببلادنا بمقتضى القانون عدد 62 لسنة 1966 المؤرخ في 15 جويلية 1996 والذي تم بموجبه تنقيح الفصل 94 من مجلّة الشّغل في اتجاه تمكين العامل من حقّه في العمل الجزئي في إطار ما يعرف بالمرونة في العمل، والذي تمّ أيضا بموجبه مساعدة الكثير من قطاعات العمل المهمّشة – وخصوصا عمّال وعاملات قطاع تنظيف المؤسسات- من التمتّع بحقّهم في نظام التّغطية الاجتماعية ونظام جبر الأضرار الناجمة عن حوادث الشغل و الأمراض المهنية لدى صندوق الضمان الاجتماعي، وهو إجراء رائد في ذلك الوقت يحسب لنضال العاملين والعاملات في هذه القطاعات، غير أنّ هذا القانون التعسّفي - سيئ الذّكر- (قانون الثلثين للتقاعد ) ظلّ على حاله يحرم الكثيرين والكثيرات من العاملين و العاملات من حقّهم في جراية التّقاعد أو الشيخوخة ومتغافلا عن أخطر فترة من حياة العامل، وهي فترة التقاعد التّي هي أصعب فترة في حياة المحالين على التّقاعد، فجراية التقاعد أو الشيخوخة التي يترقبها المحال على التقاعد بفارغ الصبر تساعده في كلّ الأحوال - رجلا كان أو امرأة - علي العيش الكريم، و توفّر له أسباب الراحة والطمأنينة في غياب الأولاد أو شريك الحياة وقد جاء هذا القانون –قانون العمل الجزئي في حدّه الأقصى متناغما مع قانون ثلثي الأجر الأدنى الصناعي المحسوب على قاعدة 48 ساعة شغل في الأسبوع، غاضا الطرف عن جوانبه السلبية التي لم يراعي فيها المشرع أبسط قيم و مبادئ حقوق الانسان وتغاضى عن تحديد توقيت الحد الأدنى كما هو معمول به في البلدان الأوروبية وترك حرية اختيار التوقيت للمشغل وهو اختيار صائب في مقصده الأساسي الداعي إلى مبدأ المرونة غير أنّ صناع القرار عندنا لم ينتبهوا إلى قانون الثلثين للتقاعد الذي يعارض في جوهره القيم الأساسية لحقوق الإنسان التي جاء بها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وجوهر– قانون العمل الجزئي – فيطالبون بتعديله في اتجاه تحقيق كرامة العامل، وقد آن الأوان أن نصلح منظومتنا الاجتماعية و نصلح هذه الحالات علي ضوء القيم والمبادئ الأساسية لحقوق الإنسان التي أدرجناها في دستورنا الجديد، والذي صار بها الحكم الفيصل بيننا في كل أمورنا، وأن نعيد النّظر في قانون الثّلثين على التّقاعد و نعيد النّظر في منظومة التّقاعد ككلّ على قاعدة المساهمات التّي يقدّمها العامل طيلة حياته المهنية، كشرط أساسي للحصول على الحقوق، فهل يعقل أن تعمل إمرأة لمدّة ثلاثين سنة ويصرح عنها مؤجرها بمائتي دينار في الشهر كمثال ليتّضح الحال ولنفترض أنّ الأجر الأدنى الصناعي في تلك الفترة يعادل 320 دينار ولم يتغير، وأنّ ثلثي هذا الأجر الأدنى يعادل 214 دينار في الشهر، فتكون مساهماتها السّنوية على قاعدة 200 دينار في الشهر بما قدره 2400 دينار وتكون مجمل مساهماتها لثلاثين عاما مبلغ جملي قدره 72000 دينار ولاتحصل على حقّها في الشيخوخة في حين أنّ زميلتها في العمل عملت لخمس سنوات بمعدل ثلثي الأجر الأدنى الصّناعي أي 214 دينار في الشّهر لتكون مساهماتها السّنوية بما قدره 2568 دينار وتكون في الأخيرمساهماتها لخمس سنوات عمل ما قدره 12840 دينار، فبنظرة سريعة فاحصة لهذه الأرقام يمكن أن ندرك بسهولة مدى حيف هذا القانون الإقصائي الذي نغّص ومازال ينغّص حياة الكثيرين و الكثيرات من العاملين و العاملات في بلادنا.