تابعت قبل قليل مقتطفا من ثماني دقائق وسبع ثوان من حوار أجراه السيد محسن مرزوق مع إذاعة كاب أف أم. لكن لا أعرف بالضبط متى أجري هذا الحوار، ولا مناسبته.. ما أرجحه من خلال نبرات الصوت أن منشطته هي السيدة مريم بن حسين. ما وجدته في الحوار تركيز مستمر ومتكرر ومعاد خلال المدة كلها على أن المعركة معركة حاسمة ومصيرية وخطيرة، وتجري بين معسكرين أو تيارين متباينين متضادين متناقضين لا يلتقيان: - تيار وصفه مرزوق بالحداثي الديمقراطي، وتيار آخر قال إنه يريد العودة بتونس إلى الوراء وإنه ينتهك حقوق المراة ويعاديها، وأنه حكم تونس لعامين وذاق منه التونسيون الويلات، بحسب قول السيد مرزوق. خطاب مرزوق كان بمثابة صيحة فزع وتحذير أخير للحداثيين والديمقراطيين للتعالي على خلافاتهم والتفرغ متعاونين متراصين متضامنين من أجل صد الخطر الداهم الماحق، خطر عودة الوضع بعد فرز أصوات انتخابات 2014 إلى ما كان عليه بعد نتائج انتخابات 2011. ملاحظات سريعة - لو غيرنا بعض المصطلحات القليلة المستعملة في الخطاب بغيرها ولكن من جنسها لوجدنا تطابقا تاما لخطاب السيد مرزوق مع الخطاب القاعدي الداعشي، ولكن معكوسا أو مقلوبا. فالمعركة السياسية الانتخابية في نظره معركة مصيرية حاسمة بين معسكرين أو تيارين أو فسطاطين على حد تعبير الراحل أسامة بن لادن.. فسطاط الحق والإيمان والخير (ويضم هذا الفسطاط الحداثيين والديمقراطيين/ ورأس حربتهم نداء تونس بلغة السيد مرزوق) مقابل فسطاط الباطل والكفر والشر (ويضم هذا الفسطاط التيار الإسلامي بمختلف تشكلاته/ ورأس حربته النهضة بلغة مرزوق أيضا). - المعركة الانتخابية عند السيد مرزوق معركة مصيرية معركة وجود "إما نحن وإما هم"، وهو ممتلئ بالنحن كافر بالهم المغايرين المخالفين.. الانتخابات عنده ليست عملية تدافع بين شركاء في الوطن، وإن اختلفوا في المشارب والرؤى والتصورات، يتنافسون على خدمة الشعب كل بطريقته وفي ضوء رؤيته ومنهجه، والشعب يمكن أن يختار هذا الطرف اليوم وذاك الطرف غدا، وتلك هي الديمقراطية.. بمنطقه الداعشي المقلوب فالسيد مرزوق ينظر للانتخابات كأنها حرب بين جيوش ومعسكرات وفسطاطات متقابلة كل واحد منها يرغب في تدمير الآخر وإبادته والقضاء عليه قضاء مبرما. وبالتالي الاستفراد بالحكم والبقاء فيه على الدوام، لا التداول عليه بين الفرقاء والمختلفين. - السيد مرزوق تحدث كثيرا في خطابه عن المرأة وحقوقها وتباكى محذرا من الأخطار العظمى التي تهددها. غير أن هذا الخطاب فيما يبدو لي إذا استعرض المرء أسماء رؤساء قوائم حزبه في الانتخابات التشريعية القادمة يجده مجرد لغو كلام وخطابا إيديولوجيا أجوف يعرفه التونسيون جميعا. إذ يتذكر التونسيون التوظيف السياسوي الفج لحقوق المرأة في عهد المخلوع. فحزب يولول قيادي بارز فيه مخوفا من الأخطار التي تهدد حقوق المرأة، ولا يرى، في العمل والممارسة السياسية الواقعية، حقا للمرأة أن تتولى رئاسة قائمة، ويجعل النساء على الدوام في الصفوف الخلفية وراء الرجال، لا يقبل منه أن يجعل من المرأة وقضاياها ماعون خدمة لمناكفة الخصوم والمختلفين معه والمغايرين له وعنه. - رابع الملاحظات أن السيد محسن مرزوق يريد أن يأكل الحصرم بأفواه الآخرين.. وأن يحقق ما يحلم به على ظهورهم.. إنه يريد أن يفرض نفسه قيادة وعلى الجميع اتباعه ومبايعته حتى تتوحد القوى الحداثية. فهو يريد أن يوحد الجبهة الحداثية الديمقراطية، ولكن خلف قيادته وخلف زعامة حزبه. فالجميع يعلمون أن محاولات عديدة جرت لتوحيد القوى التي تصف نفسها بالحداثية الديمقراطية ضمن جبهة سياسية انتخابية اسمها الاتحاد من أجل تونس. لكن نداء تونس رفض ذلك وقرر الترشح منفردا ودعا الأحزاب الأخرى أن تنضوي في إطاره إن أرادت أن تحظى ببعض المقاعد. فكل حزب حداثي حتى تلك التي مضى على تأسيسها عقود، عليه أن يتخلى عن اسمه وشعاره وتاريخه وأن يذوب ضمن النداء الذي لا يجاوز عمره العامين، حتى تتوحد الجبهة الحداثية.. توحيد يمر بتفتيت القوى الأخرى وتحويلها إلى مجرد أفراد ينظمون إلى كيان جديد هو نداء تونس، وهذا أمر رفضته وترفضه كل الأحزاب حتى تلك التي ترى نفسها غير مختلفة في شيء مع نداء تونس.. باختصار السيد مرزوق يريد من الاخرين أن يضحوا بكل شيء من أجل أن يحقق هو أهدافه كاملة. - السيد مرزوق اليساري السابق الثري الكبير حاليا صاحب الأطيان والغيطان ومئات الهكتارات من أخصب الأراضي، لا يرى في المعركة الانتخابية إلا بعدها الايديولوجي الضيق تماما كالدواعش ولكن بشكل مقلوب. فالمعركة الانتخابية عنده لا تهتم بالأبعاد الاجتماعية وبحقوق العمال والفقراء ولا بالاستثمار وبناء الطرقات والجسور وتشغيل العاطلين عن العمل وارتفاع الأسعار.. التنافس عنده ليس على أساس مشاريع خدمية واقتصادية وبرامج تنموية، وإنما على أسس عقائدية صرفة الرؤية الحداثية مقابل الرؤية الدينية.. هي حرب عنده، فيها رؤية يجب أن تهزم أخرى وتبيدها. وهذا ليس جديدا على السيد مرزوق، فهو محسوب تقليديا على التيار الاستئصالي، الذي يعتبر الإسلامي الجيد هو الإسلامي السجين أو الإسلامي الميت. السيد مرزوق ليس جديدا على الحياة السياسية التونسية فهو حاضر ومؤثر فيها منذ الثمانينيات. انتقل من أقصى اليسار المتطرف في شبابه إلى الليبرالية المأمركة في كهولته.. شيء واحد لم يغيره في رحلة التلونات والتبدلات الكثيرة التي عرفها: منطقه الاستئصالي ونظره إلى المختلف عنه باعتباره عدوا لا شريكا في الوطن.