محافظ البنك المركزي: المغتربون التونسيون يساهمون بمتوسّط تحويلات يناهز 120 دولارا شهريا للفرد الواحد مقابل معدّل عالمي ب 200 دولار    المهدية: تقديرات بإنتاج حوالي 115 ألف قنطار من الحبوب خلال الموسم الحالي    عاجل/ غارات اسرائيلية تدمّر مطار صنعاء وجميع الطائرات المدنية    عاجل/ "يجب أن يتضوّروا جوعا": وزير اسرائيلي يطالب بتجويع سكّان غزة    كأس العرب لكرة القدم "فيفا قطر 2025": سحب القرعة يوم 24 ماي الجاري بالدوحة    تظاهرة ثقافية في باجة احتفالا بشهر التراث    اختتام الدورة العاشرة لمهرجان "سيكا جاز"    فلامنغو ينتدب جورجينهو ويتفاوض مع لاعب برتغالي بارز    هام/ كميات الأمطار المسجلة خلال ال24 ساعة الفارطة في مختلف جهات البلاد..    قابس: وفاة شخصين وإصابة 8 آخرين في حادث مرور    وزارة الحج: خفّفوا الأمتعة وتفرّغوا للعبادة في المشاعر المقدسة    450 ألف دينار قيمة المحجوز: تفاصيل عملية احتكار الموز المورّد في نابل    دليلك الكامل لمناسك الحج خطوة بخطوة: من الإحرام إلى طواف الوداع    الإعلان الرسمي المرتقب عن موعد عيد الأضحى    انطلاق محاكمة المتهمين في قضية "التآمر على أمن الدولة 2"    حملات أمنية تسفر عن حجز كميات من المخدرات والقبض على 26 مفتشا عنهم..    منزل بوزلفة: الاحتفاظ بتلميذ من أجل إضرام النار بمؤسسة تربوية    هام/ تطوّرات الوضع الجوي خلال الأيام القادمة..    بعد نقصها وارتفاع أسعارها: بشرى سارة بخصوص مادة البطاطا..    سيدي بوزيد: انطلاق أشغال المستشفى الجهوي بمعتمدية جلمة في موفى ماي الجاري    مؤسسة "فداء" تدعو جرحى الثورة ممّن لم يتسنّ عرضهم على اللجنة الطبية إلى الاتصال بها    وزارة الرياضة تعلن عن مشروع إصلاحي في علاقة بخطة المديرين الفنيين الوطنيين للجامعات الرياضية    نواب الشعب يشرعون في مناقشة مشروع قانون يتعلق بمساهمة البنك الإفريقي للتنمية في تمويل تطوير البنية التحتية للطرقات    مخزون السدود في تونس يُسجّل أعلى مستوى منذ 2019    العائلة التُونسيّة تحتاج إلى أكثر من "5 ملاين" شهريًا..!!    عرض خاص من الخطوط التونسية لأعضاء fidelys    الدورة الثامنة لتظاهرة 'الايام الرومانية بالجم - تيتدروس' يومي 10 و11 ماي بمدينة الجم    "بلومبرغ": الصادرات الصينية تتحدى الرسوم الأمريكية وتسجّل نمواً    بريطانيا تستعد "سرا" لهجوم عسكري مباشر من روسيا    عاجل/ بشبهة حيازة مخدرات..الاحتفاظ بلاعب دولي معروف..    اليوم: تواصل مؤشّرات الأمطار    نصف نهائي دوري الأبطال: موقعة إنتر وبرشلونة الليلة    تونس الكبرى دون "تاكسيات"..ما القصة..؟    عاجل | تشديد شروط التجنيس في فرنسا يُقلق التونسيين المقيمين بالخارج    كل ما تريد معرفته عن حفلة ''Met Gala 2025''    الدورة الخامسة للصالون الدولي للانشطة والتكنولوجيات المائية يومي 7 و8 ماي بمقر الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية    المنتخب التونسي في ثلاث مواجهات ودية استعداداً لتصفيات مونديال 2026    خبراء يحذّرون و يدقون ناقوس الخطر: ''فلاتر التجميل'' أدوات قاتلة    قليبية: ايقاف المعتدي على النساء بشفرة حلاقة    ترامب: نعرف من المسؤول عن تفجير "نورد ستريم"    بطولة مصر : هدف سيف الدين الجزيري غير كاف للزمالك لتخطي البنك الاهلي    أورنج تونس تدشّن مركز البيانات الجديد بولاية سوسة لمواكبة التحديات الرقميّة المستقبلية    بطولة روما للتنس :انس جابر تستهل مشوارها بملاقاة التشيكية كفيتوفا والرومانية بيغو    عاجل : بريطانيا تلوّح بتقليص التأشيرات لهذه الجنسيات    رئيس الجمهورية يوصي بفتح باب الانتدابات وإعداد مشروع قانون المالية للسنة القادمة    طقس الثلاثاء: أمطار غزيرة بهذه المناطق    تونس: قسم جديد لأمراض الدم بمستشفى عزيزة عثمانة    صفاقس : عودة متميزة لمهرجان سيدي عباس للحرف والصناعات التقليدية في دورته31    مهرجان محمد عبد العزيز العقربي للمسرح...دورة العودة والتجديد و«ما يراوش» مسك الختام    لأول مرة في السينما المصرية/ فيلم يجمع هند صبري بأحمد حلمي    إلزام الناشرين الأجانب بإرجاع كتبهم غير المباعة إجراء قانوني    هبة يابانية    آلام الرقبة: أسبابها وطرق التخفيف منها    تتمثل في أجهزة التنظير الداخلي.. تونس تتلقى هبة يابانية    عاجل -فلكيا : موعد وقفة عرفات وعيد الأضحى المبارك 2025    الدورة الاولى لصالون المرضى يومي 16 و17 ماي بقصر المؤتمرات بتونس العاصمة    ملف الأسبوع.. تَجَنُّبوا الأسماءِ المَكروهةِ معانِيها .. اتّقوا الله في ذرّياتكم    أولا وأخيرا: أم القضايا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سوداء العروس!
نشر في الحوار نت يوم 19 - 11 - 2014

عندما قرأت خبر انتحار الناشطة "زينب مهدي"، طفت علي سطح ذاكرتي، لسبب أصبح الآن واضحاً، أخلاطٌ لغوية واظبت ذاكرتي علي حراستها عن (سوداء العروس)، هذا دفعني للتنقيب عن الجذر البعيد لهذه المعلومة، ولقد وجدته، إنه "الثعالبي"، يقول في كتابه الجميل "ثمار القلوب في المضاف والمنسوب":
" سوداء العروس، هى جارية سوادء تبرز أمام العروس الحسناء وتوقف بإزائها لتكون أظهر لمحاسنها..
فأحسن مرأى للكواكب أن ترى/ طوالعَ فى داجٍ منَ الليلِ غيهبِ ..
والشيء يظهر حسنه الضد..
ولتكون كالعوذة لجمالها وكمالها..
وإياها عنى "أبوإسحاق الصابى" بقوله فى غلام حسن الوجه بيده نبيذ أسود:
بنفسى مقبلٌ يهدى فتونا / إلى الشِرْب الكرامِ بحسن قدِّهْ /
وفى يَدِهِ من التمرىِّ كأسٌ / كسوداء العروسِ أمامَ خدِّهْ /"..
(سوداء العروس)، هي عادة عربية قديمة، كانت، ولا تزال، حية، يستطيع، بكل سهولة، وعلي نحو شديد الوضوح، كل من أراد، أن يلمس حضور هذه العادة في كل ما حولنا، علي سبيل المثال، تلك العبارة التي الآن تحظي برواج إعلامي كبير حتي أصبحت لفرط الإلحاح علي روايتها مثاراً للسخرية:
"مش أحسن ما نبقي زي سوريا والعراق"!
لا يخفي علي أحد أن "سوريا" و "العراق" هنا تقومان مقام الجارية السوداء التي تبرز أمام "مصر"، بلد التسعين مليون رهينة عند ميليشيات العسكر، لتبرز محاسنها..
أنت، أيضاً، يمكنك أن تري "سوداء العروس" عند حدوث أي حادث جلل في "مصر" بطقس بسيط، راقب فقط أشرطة الأخبار علي الفضائيات، أو راقب مانشيتات الصحف، سوف تلمس تركيزاً مبالغاً فيه علي حوادث مماثلة وقعت في أماكن أخري من العالم، إنها (سوداء العروس) بصيغة أخري..
"زينب مهدي" أيضاً، ضحية هذه العادة، عادة (سوداء العروس)، كيف؟
لقد فضلت "زينب" الانتحار علي أن تسكن الحيز الذي أراد لها "نظام مبارك" في نسخته الأخيرة أن تسكنه، حيز (سوداء العروس)!
"زينب"، تلك الواحدة من أنشط الضالعين في مؤامرة "25 يناير" الشهيرة، أولئك العملاء الخونة كريهو الرائحة الذين أرادوا إسقاط "مصر" لولا أن قيض الله لها العاشقين التقليديين من جنرالات "العسكر" فتداركوها في الوقت المناسب وأفشلوا المخطط الجهنميَّ الذي شارك في تصميمه كل سكان هذا الكوكب البائس، كما تردد ليل نهار جوقة نظام "غابة يونيو" في حملته المسعورة، والمتواصلة، علي كل ما ينتمي إلي ثورة "25يناير"، في إطار محاولات التكريس لعبادة "عجل أبيس" الجديد، وإنني لأحلف برب الراقصات إلي "مني"، كما كان يحلف الشعراء قديماً، لو أنكم بلغتم بالمصريين سعفات "هجر"، كما قال "عمار بن ياسر" يوم موقعة "صفين"، لن تجدوا من المصريين إلا سفهاء الأحلام فيهم من سوف يعبد "عجلكم" الأسود، كما أحلف أننا، لو كنا نري فيه حتي "أوزة" من "أوزات ميدوم" لارتضيناه، لكن، أنتم ترون، دوران في الفشل علي كل الأصعدة، ولسوف تندمون وشيكاً، وشيكاً جداً..
علي أية حال، لابد أن يتبادر سؤال من هنا أو هناك، من هي تلك العروس التي أرادوا ل "زينب" أن تبرز محاسنها؟
الإجابة عن هذا السؤال بسيطة، إنها "فايزة أبو النجا" طبعاً، تلك الوطنية النبيلة المخلصة، تلك المادة التي لا تفني ولا تستحدث من عدم، تلك التي عرفت بعدائها الشديد لكل ما ينتمي إلي ثورة "25 يناير"، الثورة المصرية اليتيمة، فإن من الغريب، أن ينمو الضوء في اسمها مرة أخري قبل انتحار "زينب" بساعات قليلة!
هذه الرمزية البسيطة، السهلة الإدراك، هي مجرد خط للتذكير بالمعني الأساسي المقصود طبعاً..
والآن، يجب، لندرك لماذا انتحرت الناشطة "زينب المهدي" هكذا ببساطة الماء، أن ندرك مدي بياض ذلك الشعور العام الذي كان ينتاب كل الذين اشتركوا في ثورة "25 يناير"عقب تنحي "مبارك"، ذلك الشعور بالخلاص الذي لا مراء فيه، وإلي الأبد، من بشاعة واقع المصريين قبل ثمانية عشر يوماً فقط..
في ذلك الوقت تحديداً، كان المصريون، علي اختلاف توجهاتهم الفكرية، والروحية، لأول مرة، ربما منذ ثورة سنة "1919"، انعكاساً حقيقياً لذاك المعني الذي كان يردده المصريون القدماء في نشيد الموتي:
"الكل في واحد"..
لقد وصل الانسجام الروحيُّ حداً كان بعض غلاة الإسلاميين لا يمانع معه أن يردد مع الأقباط، عن طيب خاطر، وبصوتٍ حقيقي:
"بارك بلادي"..
كانت كل الأحراش مضاءة، وكان جانب العسكر مأموناً، والأحلام ناصعة البياض وسماوية، أقصد لا سقف يحدها، والأرض تجمع جهاتها الأربع عند حواف القلوب، وبخور السعادة يتكدس علي زجاج الأرواح من كل جانب..
ثم تخثرت الطرقات من الميدان بالمنتصرين كلٍّ إلي بيته مأخوذاً بخمر النشوة، وخمره الخاص ربما، وكان هذا تصرفاً غير صحيح استراتيجياً، فلم تمر أيام حتي لاحت نذر الانشقاق، ولم تلبث أن اتسعت الفجوة بعصبية منقطعة النظير، أصبحنا الآن ندرك كيف كانت تتسع، بالطبع، حدث هذا بفعل فاعل، أصبحت الآن هويته واضحة للجميع، نجح في تفجير كل الجسور بين رفقاء الثورة، ثم انهار، فجأة، كل شئ، كل شئ..
والآن، من السئ، أن المصريين، لم يتقهقروا أمام الميليشيات المسلحة فقط إلي إطار نظام ما قبل "25 يناير"، إنما، إلي إطار يعكس في الذاكرة علي الفور حياة قرية إقطاعية قديمة من قري العصور الوسطي، حيث يتمتع سادة القرية بحق قضاء الليلة الأولي مع عروس العبد، وحق إزهاق روح من شاءوا من العبيد دون مراقبة العواقب!
ما دام الأمر هكذا، فإن انتحار "زينب مهدي"، وهو قرارٌ اتخذته في ذروة النقطة للحظة ضعف، لكن علي صعيد الوعي الواضح بالتأكيد، هو فعل ثوري بكل ما تعنيه الكلمة، فالثورة فعل، وهي توقف عن الفعل أحياناً..
لكن، لماذا وصلت "زينب" للحظة الضعف تلك في ذروتها؟
هنا، لا يمكن الاستهانة بدور التحولات الفكرية المزيفة التي مرت بها "زينب" في العامين الأخيرين، أقول:
التحولات الفكرية المزيفة، لأنها تحولات مضللة لا تنخفض إلي جذور حقيقية، ذلك أن التحولات الحقيقية لا يمكن أن تحدث في عامين أو حتي عشرة، فهي أكثر تعقيداً من ذلك بكثير إلي حد بمقدورها معه أن تترك أثرها علي تعبيرات وجه الإنسان وأعصابه وحتي نظرات عينيه..
لقد كانت "زينب" ربيبة "جماعة الإخوان المسلمين" قبل كل شئ، وهذا هو أهم أبعاد شخصيتها علي الإطلاق، وهي أزهرية الثقافة، وهذا بعد آخر مهم من أبعاد شخصيتها، حدث أن خلعت الحجاب، وتعقيباً علي هذا القرار تم طردها من "جماعة الإخوان المسلمين"، مع ذلك، هي، في مرحلة البحث عن ايدولوجية تتسع لهذا "التحول الاجتماعي" - لا الفكري - كي تعتنقها في تلك المرحلة من حياتها، لم تجد ملاذاً آمناً غير خندق "د.عبد المنعم أبو الفتوح"، منشق سابق عن جماعتها الأم، وهذا يمثل تحولاً غير ناضج، لأنه يمثل المربع الاول، وهنا، يتضح، أنها، أبداً، لم تذهب بعيداً..
لكن، من السئ، أن التحولات الفكرية، حتي البسيطة منها، بل حتي المزيفة، لديها أثر كبير علي الأرواح، في المجتمعات المتخلفة علي وجه الخصوص، ذلك أن من شأنها في مثل هذه المجتمعات سحق العلاقات الاجتماعية، مما يدفع الإنسان إلي الشعور بالغربة التي، قبل كل شئ، هي نتاج العلاقات الإنسانية، وذلك الشعور بالغربة حين يترهل يصيب الروح بالهشاشة علي نحو مؤلم..
كما كان والدها صورة مصغرة للمجتمع الضاغط الذي يخنق شخصية الإنسان..
أصدقاؤها المقربون، بدورهم، لم ينخرطوا أبداً في حالتها الأخيرة علي نحو صادق..
أود أن أقول هنا:
قال "آينشتاين" ذات يوم:
- إن الله لا يلعب النرد!
فرد عليه عالم عظيم مثله قائلا:
- لا ينبغي لك يا "آينشتاين" أن تعلًَم الله ما عليه أن يفعل!
أقول هذا عتاباً للذين لم يروا من حياة "زينب" العامرة بالكثير من الجمال الإنساني غير لحظة انتحارها، واتهموها بالكفر، وأقول لهم:
- أيها الحمقي وأصحاب الحد الأدني، من يملك منكم مفتاح الجنة في يده، لا يفتح لها حين تدق عليه الباب!
والآن..
انتحار "زينب المهدي" لغم جديد زرعه الأوغاد أمامهم في الطريق إلي المستقبل الذي لن يشاركوا أبداً في صنعه، فمن ذا الذي يصدق أن ثمة مستقبل لنظام زرع في كل يوم من ال "365" يوماً، هي كل أيام العام، ذكري مذبحة، ويمكن أن نتهمه بسلامة العقل؟
وانتحار "زينب"، من جهة أخري، وضع المصريين أمام مرآة كبيرة ليروا فيها وجه "مصر" الشائه وواقعها العاهر، جرس كبير يدق بكل لهجات الخصيان منذ عصور سحيقة في مسامع المصريين بأنغامه الجنائزية:
لم تعد خياراً استعادة حلم "زينب" المشنوق، استعادة الثورة، إنما ضرورة حتمية، دفاع عن النفس، طوق النجاة الوحيد، وفي الطريق إلي الحرية، كل السيناريوهات مفتوحة، وأمام تمسك العسكر بما يظنونه حقهم الإلهيَّ في الاستئثار بحكم "مصر" إلي الأبد، إذا كنت أظن أن الصراع سوف يرتقي إلي صراع مسلح فلأن ذلك علي الأرجح هو الذي سيحدث..
إذا حدث هذا، لا قدر الله، ماذا سيخسر المصريون؟
لا أجد إجابة لهذا السؤال أبلغ وأكثر حسماً وحدة من عجز بيت "المتنبي" الشهير:
مَنْ يَهُنْ يَسْهُلِ الهَوَانُ عَلَيهِ / ما لجُرْحٍ بمَيّتٍ إيلامُ ..
أي موتٍ لموتي؟
لا أقول وداعاً "زينب المهدي"، بل، إلي اللقاء يا صغيرتي أقول..
محمد رفعت الدومي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.