إسترعى إنتباهي وأنا أقرأ مقالا للدكتور عبد العزيز المقالح، في العدد 111 من "دبي الثقافية" عنونه ب"الكذب الأخضر!"، يدحض فيه وجود أي لون للكذب، ومع ذلك فهو يلونه بالسواد! وما أقلقني في المقال هو حكمه على قول للكاتب المكسيكي "خوان رلفو" بالغباء، لأن هذا الأخير صرح أن الأدب كذبة، وأن الروائيين هم أكبر الكذابين لأنهم يخلقون عوالم لا مقابل لها في الواقع، إذ يقول الدكتور المقالح:"وقول غبي كهذا ليس فيه إساءة بالغة إلى التخييل والابتكار الأدبي والفني فحسب، بل وفيه إساءة بالغة أيضا إلى الواقع الذي يسعى الإبداع إلى إعادة تشكيله ...". فلا يخفى على أحد أن في هذا القول إساءة بالغة إلى الحق في التعبير وفي الإختلاف في الرأي، يصادر من طرف دكتور أُعْتُرِفَ له بتفوقه العلمي والفكري، وبرقيه في نسق المعرفة العالمة في المجتمع والوسط الثقافي والمدرسي، إذ من بمقدوره أن يستسيغ أن يصدر حكم كهذا على لسان من يفترض أن يحترم آراء الآخرين ويقدرها حق قدرها، حتى ولو كانت قد صدرت من عامي أو أمي؟! لقد أبدى الدكتور المقالح موقفا أخلاقيا كانطيا إزاء الكذب، ولكنه بالمقابل لم يلتزم أخلاقيا بأدب الحوار والتواصل، فالحكم على أي إنسان، صغر شأنه أو كبر، لا يبيح لنا أن نستغبيهم أو نحكم عليهم بالغباء، وإذا كان من الممكن أن نقبل حكم قيمة كهذا من إنسان جاهل أو من لم يتعلم أدبيات الحوار، فإن الأمر على خلاف ذلك في حالة إنسان يجسد المثل الأعلى في المجتمع، فلا يسمح له بتسفيه أحد، أو بتكفيره، أو بنعته بأي نعت ينتقص من شخصه، مهما كان إختلافه عنا قائما. إن الود الذي يظل قائما مع الإختلاف في الرأي، في رأيي، قد أفسده قول الدكتور المقالح بحكمه على رأي الكاتب المكسيكي بالغباء، لأنه تجاوز الحد في القول فأصاب كرامة الشخص في الصميم، وهذا شيء لا يجب أن يحدث، وإذا حدث فيجب أن يصحح. كما أنني أعترض على قول الدكتور المقالح بأن الأدب ليس كذبة، وأن صلته بالواقع شديدة الحميمية إلى درجة لا تتصور، لأن الإبداع في نظره يسعى إلى "إعادة تشكيل الواقع من خلال تسجيله لأحداث ممكنة الوقوع أو إسترجاعه لأحداث وقعت تماما، ورسم أشخاص لهم أشباه ونظائر في الواقع". وهنا أتساءل: ما الذي يقصده الدكتور المقالح ب"الواقع" حتى يسعى النص الإبداعي إلى تشكيله؟ فحتى الواقع في العلم لم يعد يمثل تلك الحمولة المادية التي إرتبط بها، قبل أن تطفو إلى السطح النظريات اللاأقليدية مع لوباتشيفسكي وريمان، والتي تغير معها مفهوم الواقع وجملة المسلمات التي كان يؤخذ بها هكذا تسليما فحسب لأنها شديدة البداهة. فما الذي تنقله لنا الرواية إذن، هل هو الواقع أم صورة منه؟ هل الروائي ملزم بالإلتصاق بالواقع أم أنه يخلق الواقع خلقا حتى تخال أنت القارئ أنه الواقع الفعلي الذي تحياه أو يحياه مجتمعك، وأن الأشخاص الذين يصنعون الحدث أو يصنع بهم، لك بهم صلة حميمة في واقعك؟ ثم ألن نخلط بين عمل المؤرخ وعمل الروائي، حين نطالب هذا الأخير بإستعادة وقائع الماضي كما عاشها المجتمع، ليؤرخ لها عبر عمله الروائي؟ ثم كيف يمكن لأية لغة أن تصور الواقع وهي كما يقول نيتشه جملة من المجازات والتشبيهات والإستعارات التي يقال بها الحق ويشكل بها خطاب الحقيقة؟ ليس مطلوبا إذن من الأدب أن يكون رهن إشارة "الواقع" ليصور لنا ما يراه المجتمع أو الآخرون أو ما يريد الأديب قوله. كما أننا لا نملك أن نحاكم أي عمل أدبي أخلاقيا، لأنه لا يضع نفسه رهن إشارة الأخلاقي، وإلا فسد جوهره وتفسخ جماله، وكما يقول أندريه جيد: "بالعواطف الجميلة ينشأ الأدب الرديء". فسواء كنا نؤمن بالجن أم لا، فإن إدعاء الشاعر الجاهلي بأن قريحة الشعر تأتيه من "وحي" مجهول، من "وسوسة" ، أو من "همس" جن لا تلحظه الأبصار، هي أجمل الصور الشعرية التي تجعلنا نستعذب الكذب ونستحليه، وهكذا هو الحال مع أي جنس أدبي آخر، فتصوير "ما يمكن" أن يكون واقعا لا أن يكون هو الواقع كما هو خارج الرواية أو القصة هو ما يجعل الكاتب متفردا، لأنه يصنع من القبح الموجود في الخارج جمالا يجلب الناظر في النص، ويحيي في مخيلته القدرة على خلق الأحداث والحياة معها. فكيف بعد ذلك، لا يكون الشعر أو غيره أعذوبة، وهو في الأصل أكذوبة؟